أفكار وآراء

الرابحون والخاسرون فـي قمة هلسنكي

20 يوليو 2018
20 يوليو 2018

سمير عواد -

فعلها فلاديمير بوتين مرة أخرى، فقد جاء متأخرا إلى هلسنكي وترك شريكه في المفاوضات دونالد ترامب ينتظره، وأصبح الرئيس الروسي يعمل بهذا التقليد مع جميع محدثيه وضيوفه وترك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مرة تنتظره أربع ساعات، ولم يمنعه من أن يكرر ذلك عند حضوره قمة هلسنكي، العاصمة الفنلندية التي شهدت في عام 1975 ولادة إعلان منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، حيث قام الرئيسان الأمريكي جيرالد فورد والسوفييتي ليونيد بريجينيف بالتوقيع عليه، وهو ما مهد إلى حصول انفراج في زمن الحرب الباردة بين الشرق والغرب. وبعد انهيار سور برلين في عام 1989 واستعادة ألمانيا وحدة شقيها عام 1990، انهار الاتحاد السوفييتي السابق واستقلت عنه الكثير من الجمهوريات التي كانت تحت مظلته، وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية القوة العظمى الوحيدة في العالم. وأقسم بوتين، أن ينتقم من الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عندما قال أن روسيا أصبحت قوة إقليمية، وسعى لاستعادة روسيا مكانتها على الساحة الدولية، مستغلا بالذات فشل سياسات أوباما في أوكرانيا وسوريا أي بمساعدة الرئيس الأمريكي الذي أهانه.

أما الآن فان بوتين سعيد جدا لكون الرئيس الأمريكي اسمه دونالد ترامب ولم يعد باراك أوباما، فمن كان يصدق أن الرئيس الأمريكي بالذات يطلب من دول مجموعة السبع الصناعية الكبرى والاتحاد الأوروبي إعادة النظر بالعقوبات المفروضة ضد روسيا وعودتها إلى عضوية مجموعة السبع التي تم إخراجها منها قبل بضع سنوات.

فجأة أصبح هناك تقارب بين ترامب وبوتين، ورغم أن ذلك أمر يستحق الترحيب لأنه حتى قبيل القمة، ساءت علاقات الغرب مع روسيا ووصلت إلى أدنى مستوياتها وهو ما اعترف به ترامب ذاته، لذلك كانت الضرورة تتطلب اجتماع رئيسي القوتين العظميين. ولكن لقاء ترامب وبوتين بمصاحبة المترجمين فقط وراء أبواب مغلقة، أثار ارتياب العديد من دول العالم، التي تخشى أن يكون اللقاء قد تم على حسابها. ولأول مرة ينظر شركاء واشنطن في أوروبا بارتياب إلى قمة هلسنكي، ذلك أن الغرب الذي نعرفه، لم يعد قائما. وقد صدم ترامب الأوروبيين أخيرا عندما قال أنه يعتبر الاتحاد الأوروبي خصما مما جعل هايكو ماس وزير الخارجية الألماني يصرح أن بلاده لم تعد تعتمد على ترامب، وهايكو ماس ليس الوحيد في موقفه هذا.

ولم ينتظر الأوروبيون طويلا وهم يبحثون عن تحالفات جديدة تعوض عنهم تحالفهم التقليدي مع واشنطن، بعدما تسبب ترامب في إفشال قمة الدول السبع الصناعية في كيبيك بكندا، وإغضاب الحلفاء في قمة الناتو واستفزازه البريطانيين خلال زيارته الأخيرة إلى بلادهم، وأصبح يعتبر الاتحاد الأوروبي خصما بينما يجتمع مع كيم جونج أون زعيم كوريا الشمالية وبوتين، مما يشير إلى أنه يرى أن له مصالح أفضل مع هذين الزعيمين، أكثر من الشركاء الأوروبيين. وكل يوم يستيقظ حلفاء واشنطن على قرار أسوأ من الذي سبقه بشكل لا يمنحهم الوقت لالتقاط أنفاسهم من محاولة حصر الخسائر من قراراته المثيرة للجدل التي بدأ يعلنها قبل عام وأبرزها إلغاء الاتفاق النووي مع إيران. وفي هذا الإطار وقع الاتحاد الأوروبي على اتفاقية للتجارة الحرة مع اليابان، وبدأ يفتح بلاده أمام الاستثمارات الصينية بشكل غير مسبوق، خاصة وأن الصين تسعى لتتبوأ مكانة على مسرح السياسات الدولية وستصبح في السنوات القادمة تشكل منافسة حامية لأمريكا وروسيا، فهل هذا هو ما جعل اللقاء بين ترامب وبوتين ينعقد في موعده، وفي مكانه المحددين، رغم الشكوك التي سبقته وأنه كان على وشك أن يتم إلغاؤه خاصة بعد اتهام المخابرات الأمريكية لضباط روس، عشية القمة، بالتدخل في الحملة الانتخابية لصالح ترامب.

وبحسب صحيفة «هاندلسبلات» الألمانية المختصة، فان اللقاء تم بين زعيمين استبداديين، حسب وصفها، وان الغرب لم يعد يصف ترامب بالرئيس الديمقراطي، فهو يتجاهل حلفاء الولايات المتحدة ولم يحصل أن قام بالتشاور معهم حول أي من الشؤون المعنية بالعلاقات الأطلسية، ولا حول اجتماعه مع كيم جونج أون وبوتين.

على صعيد آخر فانه ليس هناك منطقة في العالم تسببت قرارات ترامب في زعزعة الاستقرار فيها أكثر من منطقة الشرق الأوسط. فالرئيس الأمريكي لم يعد يعتبر نفسه ملتزما بالقضية الفلسطينية، وعهد إلى صهره جاريد كوشنر، كي يضع عناصر ما يمكن تسميته «سلاما إسرائيليا»، أي يأخذ تماما بوجهة النظر الإسرائيلية، ليتم فرضه على الفلسطينيين وإذا رفضوه كما هو متوقع، فسوف يتم تحميلهم عواقب ذلك. يضاف الى ذلك أن واشنطن لم تعد في عهد ترامب تشعر أنها ملتزمة حيال سوريا، ولم يعد يشغلها أبدا مصير الرئيس السوري بشار الأسد ولا تسوية سياسية وإنما ترك سوريا لبوتين، وأصبح شغله الشاغل هو كما يبدو، كيفية مواجهة إيران، بعد تبنيه مطالب رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو. ويرى الكثير من المعلقين الغربيين أن بوتين هو الرابح الكبير من قمة هلسنكي، وقد حصل على كل مطالبه قبل وصوله إلى العاصمة الفنلندية، لأن ترامب قدم له تنازلات عبر تصريحاته الصحفية، وبشكل أثار غضب حزبه «الجمهوري» في الولايات المتحدة، الذي يتفق مع الأوروبيين على الرأي أن ترامب قدم لكيم جونج أون وبوتين تنازلات دون أن يحصل في المقابل على شيء. كما أن ترامب أصبح يحمل سلفه أوباما مسؤولية تراجع العلاقات مع روسيا وليس العكس، حيث تجاهل كليا مسؤولية بوتين عن اندلاع الأزمة الأوكرانية وتصعيد الحرب الأهلية في سوريا.

لقد كانت الأيام الماضية حافلة بالحديث عن ترامب، وينبغي أن يكون واضحا لجميع شركاء واشنطن في العالم، أن الولايات المتحدة الأمريكية تحت ترامب قد تغيرت عما كانت عليه من قبل وهو ما يشعر به معظم حلفاء واشنطن بدرجات متفاوتة بالطبع. وهو ما يدفع بعض هؤلاء الحلفاء الى الانصراف للبحث عن تحالفات جديدة تستفيد منها، أكثر من انتظار ترامب دون جدوى. لقد كان الأوروبيون على حق في مخاوفهم من اتفاق ترامب وبوتين على حسابهم وحساب أطراف اخرى في العالم، وهو ما يدفع الاتحاد الأوروبي للبحث عن مصالحة بشكل مختلف عما مضى.