1389091
1389091
إشراقات

«ذو القعدة».. تاريخ مليء بالأحداث الإسلامية المشرفة

19 يوليو 2018
19 يوليو 2018

الأشهر الحرم وحجة الوداع -

د. يوسف بن إبراهيم السرحني -

شهر ذي القعدة يذكرنا بحجة الوداع، ففي اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة من العام العاشر للهجرة خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، قاصدًا أداء مناسك الحج، وقد خرج معه أكثر من مائة ألف من الصحابة -رضي الله عنهم- ذكورا وإناثا، شُرفوا وتَشرفوا بمصاحبته، وفازوا بمرافقته، خرجوا ملبين مكبرين داعين ذاكرين، خرجوا في موكب عظيم مهيب فريد، لا نظير له، ولا مثيل، في موكب لن يتكرر إلى يوم الدين.

إن الله تعالى يخص من يشاء من خلقه بما يشاء، لحكمة جليلة، من ذلك خصَّ الله تعالى بمزيد فضل الأشهر الحُرُم من بين شهور السنة، وهي أربعة، واحد فرد وهو رجب، وثلاثة سرد أي متتالية وهي، ذو القعدة وذو الحجة والمحرم. يقول الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّـهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّـهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّـهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) سورة التوبة الآية«36».

وعن أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» وذلك لأجل التمكن من أداء مناسك الحج والعمرة بأمن وأمان وسلم وطمأنينة من الخروج من الوطن إلى العودة من الحج.

لقد كان العرب قبل الإسلام يعظّمون هذه الشهور، فيحرمون فيها القتال، وهو مما ورثوه من شريعة إبراهيم عليه السلام، غير أنهم كانوا يحتالون على هذه الأشهر إن اضطروا إلى القتال فيؤخرون تحريم الشهر إلى شهر آخر، يقول الله تعالى: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) سورة التوبة الآية«37»

ومن حرمة هذه الأشهر أن الأعمال فيها مضاعفة الجزاء، إن خيرًا فخير، وإن شرًّا فشر، لذلك أكّد النهيَ عن الظلم فيها، فقال تعالى: (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ)، والظلم هنا يشمل المعاصي كلها، كبيرها وصغيرها، والظلم محرم في سائر الشهور، ولكن خصَّت هذه الأربعة بزيادة تحريم الظلم وتأكيده، لأجل ذلك كانت مضاعفة الجزاء. قال قتادة في هذه الآية اعلموا أن الظلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئة ووزرا فيما سوى ذلك وإن كان الظلم في كل حال غير طائل ولكن الله تعالى يعظم من أمره ما يشاء تعالى ربنا‏.

ونحن إذا تأملنا في السنة الهجرية نجد أنها تبدأ بشهر حرام وهو شهر المحرم، وتنتهي بشهر حرام وهو ذو الحجة، فهل أدرك المسلمون حرمة هذه الأشهر؟ وهل بقيت حرمة القتال فيها لديهم قائمة؟

وشهر ذي القعدة يذكرنا بحجة الوداع، ففي اليوم الخامس والعشرين من شهر ذي القعدة من العام العاشر للهجرة خرج النبي -صلى الله عليه وسلم- من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة، قاصدًا أداء مناسك الحج، وقد خرج معه أكثر من مائة ألف من الصحابة -رضي الله عنهم- ذكورًا وإناثًا، شُرفوا وتَشرفوا بمصاحبته، وفازوا بمرافقته، خرجوا ملبين مكبرين داعين ذاكرين، خرجوا في موكب عظيم مهيب فريد، لا نظير له، ولا مثيل، في موكب لن يتكرر إلى يوم الدين.

خرجوا في موكب تحفهم العناية الإلهية، وتحيط بهم الرعاية الربانية، ولك أيها المسلم أن تتأمل ذلك الموكب النبوي، ولك أن تتخيل ذلك الركب الكريم في كل خطوة من خطواته، وفي كل موقف من مواقفه، وفي كل مشهد من مشاهده، وفي كل عمل من أعماله، فيثور في أعماقك إحساس عميق دفين، له جذوره المتأصلة، وأشواقه المتأججة، إحساس يجمع بين الهيبة من جلال الموقف، والانجذاب إلى جمال المشهد، فيتملكك شعور عجيب تجد نكهته وطعمه، وتتذوق حلاوته ولذته، وكأنك تعيش الحدث ذاته، فتطير شوقًا، وتهفو مسرعًا إلى تلك الديار الطاهرة، والرحاب المقدسة، لأداء مناسك الحج والعمرة.

والآن مع محطات الحدث، لمَّا وصل الركب الميمون إلى ذي الحليفة أحرم النبي -صلى الله عليه وسلم- ومن معه الصحابة الكرام، منهم من أحرم بعمرة متمتعًا بها إلى الحج، ومنهم من أحرم بحج مفردًا، ومنهم من أحرم بحج وعمرة قارنًا، فارتفعت الأصوات بالتلبية: «لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك» وبليي معهم الشجر، والحجر، والمدر، مصداقًا لقوله صلى الله عليه وسلم: «ما من ملب يلبي إلا لبى ما عن يمنيه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من ههنا وههنا عن يمينه وشماله» رواه الترمذي. رقم الحديث:828، وابن ماجه. رقم الحديث:2921.

وعندما وصل الركب النبوي مكة المكرمة طافوا بالبيت العتيق سبعة أشواط، وصلوا خلف مقام إبراهيم، وسعوا بين الصفا والمروة سبعة أشواط، هنا أمر النبي صلى الله عليه وسلم من لم يسق الهدي أن يتحلل من إحرامه، ويجعلها عمرة، فامتثلوا الأمر النبوي، فعن أبي عبيدة عن جابر بن زيد -رحمهما الله تعالى-عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- قالت: «خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لخمس ليال بقين من ذي القعدة ولا نرى إلا أنه الحج، فلما دنونا من مكة أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت، وسعى بين الصفا والمروة أن يحل» رواه الربيع. رقم الحديث:431.

وبقي الجمع المبارك في مكة المكرمة إلى يوم التروية، وهو اليوم الثامن من ذي الحجة، وفي صبيحة ذلك اليوم اتجهوا إلى مِنَّى بعدما أحرموا بالحج، اتجهوا إلى مِنَّى وفيها صلى النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه الظهر والعصر، والمغرب والعشاء، وفجر اليوم التاسع، وبعد طلوع الشمس تحرك الركب الميمون إلى عرفات مرورًا بالمزدلفة ونمرة.

وبعد زوال شمس اليوم التاسع صلوا الظهر والعصر جمعًا وقصرًا في وقت الظهر، وهناك وعلى الصخرات، وقف النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه رضي الله عنهم خطيبًا، حيث خطب فيهم خطبةَ حجةِ الوداعِ، تلكم الخطبة الجامعة الخالدة المعروفة، وفي ذلك الموقف العظيم المهيب نزل عليه صلى الله عليه وسلم، وهو على ناقته القصواء قول الله تبارك وتعالى: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ۚ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) سورة المائدة الآية«3».

هناك وقف جميع الحجاج على قدم المساواة بين يدي جبار السماوات والأرض، بين يدي ملك الملوك، هناك سكبوا العبرات، وذرفوا الدموع، هناك تضرعوا لله رب العالمين، هناك علت الأصوات بالبكاء، وكثر النحيب، والنشيج، وبعد غروب شمس ذلك اليوم أفاضوا إلى المزدلفة، وعليهم السكينة، والوقار، وفي المزدلفة صلوا المغرب والعشاء جمعًا وقصرًا وقت العشاء، وذكروا الله تعالى عند المشعر الحرام، وهناك في العراء قضوا ليلة النحر مفترشين الأرض، وملتحفين السماء، وبعد صلاة الفجر، دفعوا إلى مِنَّى لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات بعد طلوع الشمس من بطن الوادي جاعلين مكة على يمنيهم، ومِنَّى على يسارهم، ثم نحروا هديهم، وحلقوا رؤوسهم، فتحللوا التحلل الأول، ثم ذهبوا إلى مكة المكرمة ليطوفوا طواف الإفاضة مع السعي، الذي به يتحقق التحلل الأكبر، وبعد طوافهم وسعيهم، عاد الركب النبوي إلى مِنَّى لقضاء أيام التشريق فيها، لذكر الله تعالى والدعاء، ولرمي الجمرات الثلاث بعد زوال الشمس، الجمرة الصغرى، ثم الوسطى، ثم الكبرى وهي جمرة العقبة.

 

انتصار الفضيلة والقيم النبيلة -

محمد عبدالرحيم الزيني  -

أستاذ الفلسفة ـ كلية العلوم الشرعية -

«قوة عقيدة المسلمين وإيمانهم برسالتهم، وجيشهم المدرب وأخذهم بأسباب النصر من حيث التخطيط والاستعداد ومفاجأة العدو والثقة في نصر الله. واحترام الإسلام لتعدد الآراء واجتهاد المسلمين وعدم مصادرة الرأي، وحثهم على التعامل مع النصوص من إخلال إعمال العقل في النصوص واستنباط معطياتها، والحذر من كيد الأعداء وغدرهم، والثقة بأن الحق والعدل والفضيلة والقيم الإنسانية سوف تنتصر وأن دولة الباطل مصيرها إلى زوال مهما علا صوتها وزاد ضجيجها من أهم العوامل التي شكلت الانتصار للمسلمين».

مع أن يهود المدينة كانوا من أوائل الذين بشروا بقدوم نبي عربي وأنهم على يقين من ذلك لأن التوراة بشرت به، وكانوا يعلنون لعرب الجاهلية بقرب ظهوره وانبلاج عهد جديد مشرق بالتعاليم السماوية، إلا أنهم حينما علموا بظهور الرسول - صلى الله عليه وسلم- أعرضوا عنه وأظهروا له العداء المستحكم والكراهية الصامتة، وعكفوا على التشكيك في شخصه وفي رسالته.

ولما كانت رسالة الرسول رسالة محبة وسلام ودعوة ربانية لإقامة قواعد المجتمع السليم المبني على أسس الإخاء الإنساني والعدالة الاجتماعية واحترام الإنسان، وفي الوقت نفسه تمثل خاتمة الرسالات والنداء الأخير من السماء للبشرية المعذبة بالكراهية والضغائن والحروب المدمرة، لذلك توجه الرسول -صلى الله عليه وسلم- لمد يد المودة والسلام لليهود في المدينة لأسباب أهمها أنهم أهل كتاب ومعهم التوراة وأحق من يعتنقون الإسلام، وهذا كان رجاء الرسول -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، كذلك كانوا يمثلون قوة اجتماعية ونشاطا اقتصاديا لا أحد يستطيع أن يتجاهله، علاوة على احترام حق الجوار، وأنهم أقرب إليه من مشركي قريش عبدة الأصنام الذين أخذتهم العنجهية القبلية وغطرسة العصبية فلم يعترفوا برسالته وأهانوه وأخرجوه من أحب بلاد الله إلى قلبه وعقله وضميره، بل إن الرسول -صلى الله عليه وسلم- توجه إلى قبلتهم لأنها كانت محطة الإسراء والمعراج إلى السماء ولتأليف قلوبهم وكسب مودتهم أو على الأقل كف عدوانهم ودفع أذاهم إذا بيتوا له شرا. وما كان منه إلا أن عقد معهم معاهدة سلام مع زعيمهم كعب بن أسد سيد بني قريظة مضمونها أن لا يعين عدوا على الرسول -صلى الله عليه وسلم -ولا يحارب مع أعدائه أو يساعد في نصرهم ويحترم حق الجوار.

كانت الحوادث تتدافع والخطوب تتوالى، ولم تهدأ ثائرة بعض اليهود، فقام حيي بن أخطب بتأليب القبائل وعلى رأسها قريش لمحاربة الرسول - صلى الله عليه وسلم- في غزوة الأحزاب، ولم يكتف بذلك بل ذهب إلى كعب بن أسد زعيم قريظة يحرضه على الانضمام إليهم ونقض العهد الذي بينه وبين محمد وانتهاز فرصة تجمع الأحزاب للقضاء على محمد ودعوته، إلا أن الرجل أصر على الوفاء بالوعد وقال له: لم أر من محمد -صلى الله عليه وسلم- إلا كل الصدق والعدل والوفاء بالعهود، وكان ودودا معنا طوال إقامته بجوارنا له، وظل يزين لزعيم قريظة ويلح عليه أن ينضم لموكب الأحزاب الجنائزي ويغريه أن يستغل هذه الفرصة التي ربما لن تتكرر في التاريخ للوثوب على الرسالة الجديدة ووأدها قبل أن تنطلق.

فبعدما انتهت غزوة الأحزاب بانتصار الرسول -صلى الله عليه وسلم- انتصارا ساحقا، وتشتت شمل المشركين بقيادة أبي سفيان عاد المشركون إلى مكة، وترك الجميع بنو قريظة على هذا الحال المزري يواجهون جزاء الغدر والخيانة، وهم الذين خانوا العهود والمواثيق مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- يلاقون مصيرهم المحتوم بعد هذه الخيانة الفجة ونقض العهود، ولا شك أنهم كانوا يستشعرون الجرم الذي ارتكبوه مع النبي -صلى الله عليه وسلم - وفداحة الخيانة التي سقطوا في بئرها السحيق، بعد أن مد الرسول -صلى الله عليه وسلم- يده الشريفة بالأمان والإيمان والعيش المشترك، فهم في النهاية أهل كتاب موحدون مؤمنون بالإله الواحد، أما قريش فكانت تهيم في مفاهيمها القديمة وتتدثر بعباءة العصبية القبلية وأخذتها العزة بالإثم والكبرياء القبلي وحسد بني هاشم أن يدخلوا في الإسلام مع أنهم أهل عقل وأصحاب حكمة وفهم وتجارب اكتسبوها من التعامل مع الآخرين، سواء عن طريق التجارة أو من خلال الاحتكاك مع القبائل في زيارة البيت الحرام. وعلينا أن نتوقف أمام جيش المسلمين والروح المعنوية التي عانقت السماء والشعور الغامر بأن القدرة الإلهية ساعدتهم في هذا الانتصار الباهر، والإحساس الأكيد أن المشيئة الإلهية لم تتخل عنهم ، وأن جند الله والملائكة والسماء والأرض تحرسهم من كيد القرشيين، وشر المنافقين وغدر اليهود، ليس هذا فحسب بل شعروا أن مظاهر الطبيعة وعناصر الكون معهم تؤيدهم وتجاهد في نصرهم (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)، فارتفعت معنوياتهم وقويت شوكتهم وتوحدت كلمتهم أكثر وتفجر إيمانهم قوة وبطولة وشجاعة وزاد حماستهم، وهبوا في إقدام لتأديب حلفاء الأمس الذين خانوا الوعود ومزقوا العهود، وفي غمرة هذا الحماس والقلوب المتشربة بالإيمان وصدق رسالتهم والمتشوقة للنصر في هذا الجو المفعم بالفرح والسرور، أصدر الرسول -صلى الله عليه وسلم- أوامره أن تتحرك جيوش المسلمين لتأديب قبيلة قريظة وقال لهم :«لا تصلوا صلاة العصر حتى تأتوا ديار بني قريظة».

وهنا ملحظ لطيف مهم نود أن نقف عنده، فمن المعلوم أن بعض الصحابة حينما أدركتهم الصلاة قالوا يجب أن نصلي كي لا يضيع الفرض منا، وبعضهم اجتهد ورأى أن هذا هو الجهاد الأكبر وموطن الشهادة لذلك يجب المسارعة في إدراك العدو وتأديبه، وقد أقر الرسول اجتهاد الطرفين؛ وهذا السلوك المنفتح والمرونة في التعامل تظهر مدى حرية الفكر في الإسلام وكيف أنه يتيح لأتباعه استعمال العقل في الفهم بل يحثهم على التدبر والتأمل في القضايا، وأن كل قضية نستطيع أن ننظر إليها من أكثر من زاوية، وأن مدينة الفكر مفتحة الأبواب على حسب تعبير الاستاذ زكي نجيب محمود (ت 1993)، ثم إنه يريد من العقول أن تتقادح حتى تستنبط أفكارا قد تكون غائبة عنا، ومفاهيم متضمنة في طوايا النص أو الأمر.

انطلق جيش المسلمين لتنفيذ أمر القائد المؤيد من السماء تحدوهم عناية الرب ، ودعاء الملائكة، وتسبق خواطرهم أجسامهم وتسابق الريح شوقا للجهاد وحبا في الاستشهاد، سعداء بحمل أمانة الرسالة لإبلاغها لمسامع الكون. يتردد في أسماعهم قول الرسول - صلى الله عليه وسلم-: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده».

تقدم جيش المسلمين بقيادة علي بن أبي طالب إلى حصون اليهود الذين تحصنوا خلفها وهذا ديدنهم منذ فجر التاريخ الاختباء داخل الحصون والحرب من وراء جدر إلى خط بارليف الذي أقاموه على شاطئ قناة السويس. مرورا بالحارات (الجيتو) التي سكنوا فيها بعيدا عن أعين المجتمع، ورقابة الدولة (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ). وتقدم الجيش واستمر يحكم الحصار على الحصون، وأحاطوا بهم إحاطة السوار بالمعصم، وظل كعب بن أسد يفكر في حل في هذه النكبة التي حلت بهم، وأخذ يستعرض بعض الحلول على قومه وكان منها، الدخول في الإسلام بعد أن استبان الحق، أو قتل أبنائهم ونسائهم ثم الاستبسال في قتال محمد، والاقتراح الأخير، محاربة الرسول يوم السبت، ولكن قومه عارضوا الحلول الثلاثة معارضة شديدة، ثم فكروا أن يدخلوا في مفاوضات مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- لعله يلين أمام استعطافهم والتوسل إليه، وكلما اشتد الحصار تضاءل أمل قريظة، وظل الحصار أكثر من خمسة وعشرين يوما، ولم يجدوا مفرا إلا النزول من الحصون، وتم القبض عليهم، وهكذا تطهرت المدينة مقر رئاسة الدولة الوليدة من رجس اليهود ومؤامراتهم وخداعهم ونفاقهم، ولم يبق لهم إلا حصن خيبر وهذا له قصة أخرى. ومما سبق نستطيع رصد النتائج الآتية التي شكلت عوامل الانتصار للمسلمين وهي:

قوة عقيدة المسلمين وإيمانهم برسالتهم، وجيشهم المدرب وأخذهم بأسباب النصر من حيث التخطيط والاستعداد ومفاجأة العدو والثقة في نصر الله. واحترام الإسلام لتعدد الآراء واجتهاد المسلمين وعدم مصادرة الرأي، وحثهم على التعامل مع النصوص من خلال إعمال العقل في النصوص واستنباط معطياتها، والحذر من كيد الأعداء وغدرهم، لاسيما أن تاريخهم ملطخ بالغدر والخيانة، والثقة بأن الحق والعدل والفضيلة والقيم الإنسانية سوف تنتصر وأن دولة الباطل مصيرها إلى زوال مهما علا صوتها وزاد ضجيجها (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).