أفكار وآراء

عودة الشعبوية على طريقة أمريكا اللاتينية

30 يونيو 2018
30 يونيو 2018

جافيير كوراليس – نيويورك تايمز -

ترجمة قاسم مكي -

تشهد أمريكا اللاتينية عودة الشعبوية بعد انحسارها في العقد المنصرم. ففي 17 يونيو الماضي انتخب الكولومبيون رئيسا من حزب شعبوي يميني. ومن المرجح أن ينتخب المكسيكيون اليوم 1 يوليو رئيسا يقود حملة شعبوية يسارية صنعها بنفسه. تتقاسم الحركات الشعبوية في العادة خصيصتين ، فهي بحشدها جماعات جرى إقصاؤها في السابق لا تخاطب كل شرائح المجتمع وفي ذات الوقت توجد عوائق بل مشاقا لخصومها. كما تشكك علنا في المؤسسات التي تقيد السلطات الرسمية للرئاسة بل تصل إلى حد إلغائها. ورغم اختلاف أولويات سياسات حركتي كولومبيا والمكسيك إلا أنهما كلتيهما تنظران إلى النظام السياسي من منظور الأخيار والأشرار ، أو رعاة البقر والهنود الحمر. وتعتبران الرئاسةَ المنصبَ الذي يمسك بزمام حملة صليبية تستهدف جماعات معينة ، وبالتالي لا تشعران بالارتياح من القيود المفروضة على السلطات الرئاسية. قد لا تقتل هذه الحركات الديمقراطية كما يرى بعض منتقديها ، لكنها ستؤذي المؤسسات الديمقراطية.

أما الشعبوية في كولومبيا فتعود من خلال الرئيس المنتخب إيفان دوكي (41 عاما) ربيب الرئيس السابق ألفارو أوريبي أشهر شعبوي يميني في أمريكا اللاتينية. ويمكن تلخيص شعاره الشعبوي بثلاث كلمات هي: التشدد في الأمن. وكان يعني خلال رئاسة أوريبي استخدام القوة العسكرية بلا هوادة ضد المتمردين . أما في الأعوام الخمسة الماضية حين صار أوريبي معارضا كان هذا الشعار يعني مهاجمة جهود الحكومة لعقد اتفاق سلام مع المتمردين ، وقعت عليه أخيرا في عام 2016. ودوكي تكنوقراطي كان يعمل مع بنك انترأمريكان للتنمية في واشنطن ، حين قرر دخول السياسة الكولومبية بالانضمام إلى معسكر أوريبي في 2014. وتبنى الموقف المتشدد للرئيس السابق ضد اتفاق السلام. في المقابل ساند أوريبي ترشيحَه لمجلس الشيوخ والآن للرئاسة. هذا التحالف مع أوريبي يمثل «المرساة السياسية» لدوكي وسبب صعوده السياسي السريع. ولن يستطيع فكاكا من هذه المرساة.

أما الفائز المحتمل في المكسيك فهو أندريس مانويل لوبيز أوبرادور الذي يصوب الشعبوية على شيء مختلف. فبدلا من الأمن يركز على الفساد وتوزيع الثروة. لقد التزم بمراجعة كل برامج الدولة وكل عقد خاص بحثا عن أدلة للفساد وسيحاسَبُ المذنبُ أخيرا في ظل حكمه. وستكون الوفورات المتحققة من التطهير ضخمة بحيث يمكن للمكسيك التوسع كثيرا في الإنفاق العام دون زيادة الضرائب، كما صرَّح. المشكلة مع هؤلاء الشعبويين ليست تضخيمهم لقضايا انصرافية ، ولكن عدم تعرُّفهم على القضايا الأخرى. بجانب ذلك، حين يُعلِي السياسيُّ موضوعَ الأمن على كل شيء آخر من السهل أن يدفعه الحماس إلى الإفراط في معاقبة الطرف الآخر. وهذا ما يمكن أن يعرض السلم للخطر. كما يمكن أن يفقده الحساسية تجاه المشاكل الأخرى مثل اللامساواة

، ويدفعه إلى المبالغة في التسامح تجاه الجرائم الأخرى كالفساد. توجد في حزب دوكي شخصيات كثيرة جدا متورطة في انتهاكات حقوق الإنسان والفساد. كما شرع الحزب في رعاية أتباع الأنجليكانية. وإذا اختار الرئيس المنتخب حماية هذه المجموعات والتشدد تجاه المعارضة ، سوف لن يعني التزامه بالمصالحة شيئا. وبالمثل حين يضع زعيم سياسي الفسادَ على رأس الأجندة كما فعل لوبيز أوبرادور سينطوي ذلك على خطر بسط سيطرته على كل فروع الحكم. يتحدث لوبيز أوبرادورعن حكومته المستقبلية وكأنه يحلم ليس فقط بتولي الرئاسة ولكن أيضا بالسيطرة على التشريع والقضاء نظرا لأنه سيقرر وحده ما يعتبر فسادا ومن هو المذنب. ولأنه غير مقتنع بأن مؤسسات المكسيك ديمقراطية فقد يغيرها حينما يشاء. يفضل لوبيز أوبرادور ممارسة السياسة على النحو المعتاد في المكسيك حتى أعوام الثمانينات. أي بالمراسيم الشخصية مع جرعة كبيرة من اللغة الغاضبة. وهذا هو النمط السائد لدى الشعوبيين الجدد.

وفي حين أن دوكي ألقى بمرساته (استند) على سياسي آخر إلا أن لوبيز أوبرادور ألقاها (اعتمد) على نفسه. من السهل فهم جاذبية «المراسي السياسية» فهي واحات استرخاء يلجأ إليها القادة حين تقسو أحوالهم ويقاومهم النظام السياسي. ومن المؤكد أن هؤلاء القادة سيواجهون مقاومة، لكن المشكلة هي أن المرساتين اللتين اختارهما هذان الزعيمان مؤذيتان جدا في حد ذاتهما. فالتشدد اليميني يفتقر بشدة إلى المرونة ويعمَى عن رؤية المجتمع المدني. والغضب اليساري الحاد مفرط في احتقاره للمؤسسات وقوى السوق. ولكي يكون هذان الزعيمان أقل استقطابا سيلزمهما فعل المزيد للتخلي عن المرساة السياسية. سيكون دوكي بحاجة إلى الابتعاد عن «محافظة» أوريبي ولوبيز اوبرادور عن نرجسيته. إن التخلي عن السند السياسي صعب دائما ، لكنه سيكون أشق في هذه العملية. فالقوانين الانتخابية والفصل بين سلطات الحكم والحوافز الخارجية كلها ضعيفة في المكسيك. والقوانين الانتخابية وتحديدا انتخابات الجولة الثانية باعثة على التخلي عن السند. فهي تجبر الشعبويين على تقديم تنازلات للجماعات السياسية الأخرى. وهي تنازلات تضفي شعبية على تحالفاتهم وتخفف من عبادة شخصياتهم. وليس صدفة أن تظهر حكومات شعبوية قليلة أو تبقي بعد انتخابات الجولة الثانية في أمريكا اللاتينية. لقد نجح دوكي في انتخابات الجولة الثانية التي أجبرته على البحث عن السند من خارج تحالفه. لكن في المكسيك كما في الولايات المتحدة لا توجد انتخابات جولة ثانية على المستوى الرئاسي. وسيكون التحالف الحاكم للوبيز أوبرادور أقل انفتاحا تجاه التسوية من تحالف دوكي. إن مؤسسات الفصل بين السلطات أقوى في كولومبيا. ومنذ إقرار دستورها الذي اشتهر عنه تبني اللامركزية في عام 1991 تقدمت كولومبيا خطوات نحو تقوية البرلمان والمحاكم والصحافة والحركات الاجتماعية. أما في المكسيك فقد ضَمُرَت مؤسسات الفصل بين السلطات نتيجةً لانفجار الجريمة وانشغال الساسة بخدمة أنفسهم . ويشمل ذلك الرؤساء الذين سَيَّسُوا المؤسسات حماية لأنفسهم من تحقيقات الفساد.

وأخيرا تلعب القوى الخارجية دورا. فَعَلَىَ الرغم من أن الشعبوية دائما ظاهرة محلية النشأة لكن يمكن أن تتضخم أو تنكمش استجابة لمحفزات خارجية. فالشعبوية المحلية تتمدد حين تواجه بشعبية معاكسة وعدوانية من الخارج. وليس مصادفة أن حظوظ أوريبي ازدهرت في أواخر العشرية الأولى حين كانت الشعبوية اليسارية لاتزال مزدهرة في فنزويلا المجاورة تحت حكم هوغو شافيز المعادي له. إن المكسيك وليست كولومبيا هي التي تواجه الآن شعبوية معاكسة وعدائية من جارٍ هام هو الولايات المتحدة. وليس سرا أن شعبوية ترامب اليمينية تهاجم المكسيك وتتهمها بالممارسات التجارية المؤذية ومشاكل الهجرة والإخفاق في أنفاذ القانون. وسياسات ترامب تجاه المكسيك هي الأكثر عدائية لأي رئيس أمريكي منذ بدايات القرن العشرين. وستكون المكسيك محاصرة بهذه الشعبوية اليمينية من الولايات المتحدة هذا إذا لم تخنقها مما سيلهب الشعبوية اليسارية. ومن الأخبار المفرحة أن كلا من دوكي ولوبيز أوبرادور أدركا في الأسابيع الأخيرة الحاجة إلى الانفكاك من مرساتيهما. فقد وعد الرئيس الكولومبي المنتخب بأن يكون «لطيفا» تجاه المتمردين الذين يتم تسريحهم. وشكل لوبيز أوبرادور فريقا اقتصاديا محترما ما يعني أنه سيكون أكثر حذقا في سياساته. والمؤسف أن أحاديث التخلي عن وعود الحملة الشعبوية تحتاج إلى أكثر من التعهدات الشخصية. فالقوانين الانتخابية ومؤسسات الفصل بين السلطات والعوامل الخارجية كلها مهمة. وفي كولومبيا تشير هذه القوي إلى تخل ممكن ولكن ليس حتميا عن هذه الوعود وفي المكسيك إلى التخندق.

* الكاتب أستاذ العلوم السياسية بكلية أمهيرست ومؤلف «إصلاح الديمقراطية: لماذا يفشل التغيير الدستوري كثيرا في تعزيز الديمقراطية بأمريكا اللاتينية.»