أفكار وآراء

لماذا يفتح الكرملين أبوابه لإسرائيل؟!

23 يونيو 2018
23 يونيو 2018

د. عبد العاطى محمد -

قد يكون من السهل إدراك الدوافع التي تجعل إسرائيل تهرع كثيرا إلى موسكو كلما ازدادت سخونة التطورات في الشرق الأوسط، ولكن ما يحتاج إلى وقفة لتفسير التحولات في العلاقات الروسية الإسرائيلية، هو الدوافع التي تجعل موسكو أبواب الكرملين مفتوحة لها دائما برغم كل الحماقات السياسية والتصرفات العدوانية التي ترتكبها إسرائيل كل يوم وتهدد سلام واستقرار الشرق الأوسط.

لا يمر حدث مهم إلا وتتوالى الأنباء سريعا بأن نتانياهو أو أحد وزرائه المؤثرين قد أجرى اتصالا بالقيادة الروسية، كما لا تتوقف الزيارات التي تتعدى كونها روتينية من جانب نتانياهو نفسه لموسكو للقاء الرئيس بوتين، لتكون النتيجة المستخلصة من تكثيف الاتصالات هي أن هناك تنسيقا بين موسكو وتل أبيب حول القضايا الساخنة في المنطقة، إضافة إلى ازدياد أوجه التعاون بين الجانبين على الصعيد الاقتصادي والتجاري، والأكثر أهمية على الصعيدين الأمني والعسكري! والأمثلة الملفتة عديدة أبرزها بالطبع ما يتعلق بتطورات الملف السوري، وفي القلب منها ما تراه إسرائيل تهديدا لأمنها من التواجد الإيراني في الساحة السورية. وخلال هذه التطورات بدا الموقف الروسي لينا أو مطمئنا للجانب الإسرائيلي أو على الأقل جاء دائما بمثابة من ينزع فتيل القنبلة قبل أن تنفجر. ومن المنطقي أن يثور التساؤل عن حقيقة الموقف الروسي من إسرائيل خصوصا في العهدة الجديدة للرئيس بوتين.

لا يعني ذلك أن العلاقات الروسية الإسرائيلية طيبة للغاية أو أن الطرفين حليفين أو حتى صديقين مثلما يقال في الأعراف الدبلوماسية، بل العكس هو الصحيح حيث الرؤى والمصالح مختلفة وأحيانا متناقضة. ولكن ما لا يمكن إنكاره هو أنه برغم الاختلاف هناك رغبة وإرادة وقدرة من الطرفين على توجيه العلاقات في اتجاه التعاون والتنسيق لا في اتجاه الصدام. يكفي أن نتذكر صمت موسكو على الهجمات الجوية الإسرائيلية التي أصابت مواقع لقوات إيرانية على الأراضي السورية، بل الصمت على هجمات مشابهة على مواقع سورية من المفترض أنها تحت حماية التواجد الروسي في سوريا، والمثال الأبرز هو الصمت على الهجمات الجوية الأمريكية التي شنها ترامب على خلفية اتهام النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيماوية ضد المدنيين.

ليس هنا مقام الدخول في تاريخ العلاقات الروسية الإسرائيلية كجزء من جهد المحاولة لفهم التحول في العلاقات. يكفي الإشارة إلى أن الاتحاد السوفييتي السابق كان من أول الدول التي اعترفت بقيام دولة إسرائيل عام 1948، ولكن سرعان ما تحولت إلى العداء مع بدايات الخمسينات من القرن العشرين، كما تم قطع العلاقات الدبلوماسية عقب حرب 1967 واستؤنفت على الصعيد القنصلي فقط عام 1987 إلى أن عادت لطبيعتها عام 1991 خلال حكم الرئيس بوريس يلتسين. وتعددت في الماضي أسباب القطيعة التي دارت في مجملها ضمن طبيعة الحرب الباردة. وعندما جاء بوتين خلفا ليلتسين تعكرت العلاقات مجددا على إثر الخطوات الداخلية والخارجية المضادة التي بدأ بوتين في اتخاذها في إطار سياسته باستعادة مكانة روسيا كدولة عظمى. وكان يلتسين سخيا للغاية مع إسرائيل، حيث سمح لليهود الروس بدور كبير غير مسبوق في توجيه الأوضاع الداخلية على الصعيد الاقتصادي ورسم سياسات موسكو الخارجية بمنحهم مواقع مهمة في الكرملين، كما زادت أعداد المهاجرين اليهود الروس إلى إسرائيل بشكل كبير وأصبح لهم شأن سياسي مؤثر في الحياة السياسية الإسرائيلية. أما بوتين فقد ألغى كل هذا فبات بالنسبة لإسرائيل خصما ولا نقول عدوا. ومنذ ذلك الوقت اتخذت العلاقات الروسية الإسرائيلية منحى مختلفا هو حرص موسكو، وبلغة ولهجة لا تلين، على أن تكون هذه العلاقات في خدمة الإستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط التي لا تنفصل عن إستراتيجيتها الكبرى باستعادة مكانتها الدولية المفقودة أو هكذا تشعر، وبات على إسرائيل أن تعيد حساباتها على ضوء هذه الإستراتيجية الروسية.

لمزيد من التوضيح وضمن استشراف مستقبل هذه العلاقات، لنا أن نتوقف عند كلمة مهمة كاشفة حقا لما يجري الآن، وردت على لسان ميخائيل جورباتشوف الرئيس السوفيتي الأسبق صاحب البيروستريكا وسياسة الجلاسنوست، الأولى تعني إعادة الهيكلة (تغيير الفلسفة الاقتصادية التي عاشت عليها الدولة المركزية السوفييتية طوال العهد الشيوعي، أي إلغاء الدور المركزي للدولة والسماح باللامركزية بما في ذلك السماح بالملكية الخاصة)، والكلمة الثانية تعني الشفافية. ومعروف للكافة أن الرجل بهذه التغييرات الجذرية أجهز على الاتحاد السوفييتي السابق. ومنذ ذلك الوقت كان يتم استقبال جورباتشوف في المحافل الغربية استقبال العظماء!

كان جورباتشوف يتحدث بمناسبة الذكرى الثلاثين لزيارة الرئيس الأمريكي رونالد ريجان إلى موسكو وانعقاد القمة السوفييتية الأمريكية. وبتأمل الكلمة يمكن اعتبارها بمثابة المفتاح الذي من خلاله يجري تفسير ما طرأ على السياسة الروسية من تحولات على يد بوتين، وبالتالي يمكن فهم دوافع إسرائيل المتكررة لطرق أبواب الكرملين من ناحية، وسماح موسكو - بوتين لإسرائيل بدخول هذه الأبواب في أي وقت. قال جورباتشوف «إن أهم سبب للمشاكل الحالية في العلاقات الروسية الأمريكية يكمن في التقييم الخاطئ من قبل الغرب، وقبل كل شئ من قبل الولايات المتحدة، للحدث التاريخي المتمثل في انتهاء الحرب الباردة.. لقد كان انتصارا مشتركا، ولكن بدلا من الاعتراف بهذا الأمر، أعلن الغرب انتصاره في الحرب الباردة.. وخلصت الولايات المتحدة إلى أنه من الضروري بناء القوة وفرض الإرادة وبناء عالم أحادي القطبية تحت هيمنة إمبراطورية أمريكية».

دافع جورباتشوف عن كل ما فعله في السابق باعتبار أنه كان لمصلحة الشعب السوفييتي ولمصلحة العالم (إنهاء الحرب الباردة)، ولكنه لم يخف خيبة أمله من النظرة الغربية (الأمريكية خصوصا) لمسألة إنهاء الحرب الباردة على أساس أنها كانت انتصارا للغرب وحده بينما هو كان يراها انتصارا للجانبين. وقال إن هذه النظرة الخاطئة هي التي تسببت في عديد الأزمات منذ ذلك الوقت مشيرا إلى الأوضاع في الشرق الأوسط والبحر الأبيض المتوسط وأوروبا ويوغوسلافيا وأوكرانيا واعتبرها أخطاء غربية لا تغتفر. إلا أن العبارة الجامعة التي تفسر حقا ما يجري من أخطاء عالمية ذات نتائج كارثية حتى اليوم هي قوله «لن أذكر كل الأمثلة على الإجراءات الأحادية الجانب التي اتخذتها الولايات المتحدة والتي كان ينظر إليها في روسيا بشكل لا لبس فيه إنهم لا يأخذون في الاعتبار مصالحنا، إنهم يريدون طردنا من السياسة العالمية، لا يمكنهم التحدث مع روسيا بهذه اللهجة، وإذا كان أحد يتوقع أن توافق روسيا على دور ثانوي في الشؤون العالمية، وإنها لن تدافع عن مصالحها، فإنه يرتكب خطأ فادحا مثله مثل الحسابات الخاطئة تماما حول القدرة على عزل روسيا».

تلك هي نظرة روسيا اليوم لذاتها ولما تراه من مواقف غربيه مضادة لها، وعلى أرض الواقع لم يتغير شيء مهم يفك هذه العقدة الروسية الغربية. فمن جانبها تعزز موسكو يوما بعد الآخر مواقعها في الشرق الأوسط وشرق أسيا ومنطقة المحيط الهادي على غير رغبة الولايات المتحدة، بينما أوروبا تسعى للتقارب والانفكاك من التبعية الأمريكية ولكنها مستمرة في عقوباتها على روسيا على خلفية أحداث شبه جزيرة القرم ولا يزال حلف الناتو يعزز تواجده بالقرب من روسيا، وما ذلك إلا نتيجة اختفاء حالة الشراكة والتعاون التي كان من المفترض أن تكون النتيجة الطبيعية لانتهاء الحرب الباردة.

العلاقات الروسية الإسرائيلية ليست بعيدة عن هذه الحالة المستعصية من اختفاء الشراكة الروسية الغربية وتحديدا مع الولايات المتحدة، ولكنها أقل حدة وأقرب إلى أن تكون يسيرة مقارنة بعلاقات موسكو مع بقية الكتلة الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. إسرائيل في حاجة لموسكو لإبعاد التهديد الإيراني عنها في الأزمة السورية، وواقع الحال يقول إنه إذا كان على روسيا الاختيار بين بقاء نظام الأسد وخروج إيران من الساحة السورية فستختار الأول وسترضى إسرائيل حفاظا على أمنها، وروسيا أصبح لها تواجد عسكري قوي في البحر المتوسط ومن ثم تعمل على إرضاء إسرائيل حتى لا تهدد هذا التواجد، هذا فضلا عن رغبة موسكو في التعاون مع إسرائيل وقبرص واليونان لاستغلال الغاز الطبيعي في المنطقة. ومن جهة أخرى لا تريد إسرائيل توقف الهجرة اليهودية الروسية إليها، وفي نفس الوقت لا تريد أن يتراجع دور المال اليهودي في السوق الروسية. هكذا تشابكت المصالح الروسية الإسرائيلية إلى حد أن كلا منهما يحرص على التنسيق مع الآخر ويتجنب الصدام والمواجهة. ولأن إسرائيل هي الأكثر احتياجا لموسكو فإنها تضطر إلى القبول بقواعد اللعبة التي يمارسها بوتين الآن بحرفية شديدة، خصوصا أن الطرف الآخر وهو الولايات المتحدة مرتبك وأخطاؤه متعددة. وموسكو من جانبها ترى أن إسرائيل تفهمت درس الحرب الباردة وباتت تراها دافعا للشراكة ولذلك تفتح لها أبواب الكرملين.