المنوعات

فـي كـيفـيّة اسـتـيعاب النمـاذج الثـقـافـيّة الجــديدة

18 يونيو 2018
18 يونيو 2018

د. عبد الله إبراهيم ✱

أمست الثقافة الحديثة ثقافة عابِرة للقارّات، وهي تقترح نماذج جديدة، بين وقتٍ ووقت، في سعيٍ منها للإجابة عن المشكلات الكبرى التي تواجِه الإنسان، وقد وَضعت هذه الصيرورةُ المتسارعةُ الثقافات التقليديّة في العالَم أمام احتمالَين: إمّا ذوبان الهويّات الثقافيّة الأصليّة إذا لم تتشبّع بالخصائص الشعوريّة والذهنيّة والتاريخيّة المتّصلة بسياقاتها الثقافيّة، وتكون، في الوقت نفسه، قادرة على تجديد نفسها، أو الانكفاء على الذّات بسبب هَيمنة الثقافـة الغريبة العابرة للحدود.

في هاتَين الحالتَين تتعرّض الثقافات الأصليّة لخطر الانزواء أو الاحتماء بمفاهيم الماضي والانحباس في أسوار المسلّمات، وإنتاج صُور متخيَّلة عن عصور الشفافيّة الأولى كمُعادلٍ موضوعيّ لحالةِ الخوف من المُشارَكة في الثقافات الأخرى.

وبإزاء ظهور نموذجٍ ثقافيّ جديد، تُواجِه الثقافات الأصليّة تحدّيين في آن واحد: الذوبان أو الجمود. وهو أمر حدَّ من قدرتها على الوفاء بوعودها كأنظمةٍ رمزيّة تحتضن شؤون التفكير والتعبير. ولطالما قيل إنّ الثقافات تتمازج، وتنشأ هويّات ثقافيّة جديدة، وتتشكّل مجتمعات حقيقيّة أو متخيّلة، ثمّ تنحلّ، وتتلاشى. ومع ذلك، فإنّ الثقافات الأصليّة ما زالت تحدِّد بعض معالِم الثقافات الجديدة، إذ لم يصل العالَم بعد إلى الثقافة الجامِعة لكلّ المشاعر والأحاسيس والخيالات والعلاقات والأخلاقيّات، واختفاء جانب من الثقافات المحلّية، لا يعني تلاشيها، كما يذهب كثيرون إلى ذلك؛ فالثقافة هي أكثر من مجرّد ما يظهر للعيان، والثقافات تتـفاعل، لكنّـها لا تتلاشى كلّياً، غير أنّ تعارُض الأنساق يُلحِق ضرراً بالغاً بالثقافات الأصليّة، وقد يفضي إلى انهيار النماذج الكبرى التي تقوم عليها، فيتأتّى عن ذلك لجوءٌ إلى العنف للحيلولة دون ذلك. وفي سياق الحديث عن نموذجٍ ثقافيّ جديد ينبغي القول إنّه في عالَمٍ لا تتكافأ قوّته، فإنّ الحديث عن تبادلٍ ثقافيّ متكافئ يُعتبر خاطئاً، فالأمر هو «استعارة» أنساق ثقافيّة بهدف مُعالَجة مشكلات استبعدت أنسـاقها الأصليّة. ولا يخفى أنّ لذلك أسبابه الكثيرة؛ فمِن جهة أولى تمكَّن «الغرب» من بلْورة منظومة ثقافيّة اتَّصفت بكفاءة ظاهرة، وأَنتج قوّة متينة اختزلت «الآخر» إلى مكوّنٍ هامشيّ اندرج في علاقة تبعيّة للغرب. وفي المقابل، لم تطوِّر الثقافات «الطرفيّة» منظومةَ فروضٍ خاصّة بها، فاخترقتها ثقافةُ «الآخر» ومزّقت نسيجها الداخليّ، فلم يكُن ثمّة تداخل بين الثقافتَين قائم على التأثّر والتأثير الفعّال، بل وقع تهجينٌ منقوصٌ تأدّى عنه انهيارُ كثيرٍ من مكوّنات تلك الثقافة، واستبدّت بها أنساق أخرى. وتوسّم كثيرون أن تقوم الحداثة بمحو الحدود الفاصلةِ بين التجمّعات القوميّة والعقائدية، وأن تفكَّ الانحباسَ التقليديَّ المتوارثَ فيها، وبخاصّة في الانتماءات الدينيّة والعرقيّة، والحال فقد بذرتْ خلافاً جديداً، تمثّله مفاهيمُ التمركزِ والتفوّقِ والتفكيرِ، بسيطرة نموذجِ ثقافيّ على حساب آخر بالقوّة، وهو أمرٌ نشّطَ المفاهيمَ السجاليّة القديمة، وصارتْ تُبعثُ اليوم بصورة إشكاليّاتِ الهويّة والخصوصيّة والأصالة والحفاظ عليها بطُرق عنيفة.

قادت الحداثةُ إلى ظهور تراتبٍ جديد في الثقافات الإنسانيّة أكثر من السابق، لأنّها زرعت فكرةَ الولاءِ للآخر، والتبعيّةَ، وهَيمنةَ الفكر الامتثاليّ، واختزالَ الذّات إلى عنصرٍ هامشيّ، واستبعادَ المكوّنات القابلة للتطوّر، وتفجّر الحراك الاجتماعيّ بطريقةٍ فوضويّة، وكـلّ ذلك يسبِّب انهيـاراتٍ مُتعـاقبةً في الأنساقِ الثقافيّةِ الأصليّة.

المانح الأخير للمعاني

أفضت التجربة الاستعماريّة إلى تدميرٍ كثير من المأثورات الثقافيّة الأصليّة، وتخريب الذاكرة التاريخيّة للشعوب المُستعمَرة، واستبعاد ما لا يمتثل لرؤية المُستعمِر، فوُصِمَت كلّ مُمارسَة اجتماعيّة أو ثقافيّة أو دينيّة بالبدائيّة مهما كانت وظيفتها، فلم يُنظر إليها بعَين التقدير، إنّما بالغرابة، إذ تتعالى منها رائحة الأسطورة، ومجافاة الواقع، والعجز عن تفسيره، وأصبح أمر كبحها مشروعاً، فلا سيادة إلّا لفعل المستعمِر القائم على نفعيّةٍ مخطَّطٍ لها، حيث تجرِّد مُمارسات الشعوب المُستعمَرة من شرعيّتها التاريخيّة، فتوصف بأنّها طقوسٌ بدائيّة؛ ذلك أنّ الاتّصال بالطبيعة والاهتمام بها، وهو مبدأ إنسانيّ تولّدت عنه فكرة الانتماء والهُويّة، استُبدل بضربٍ مختلف من العلاقات بين البشر يقوم على التبعيّة من خلال القوّة وبسط النفوذ والهَيمنة.

اقترحت التجربةُ الاستعماريّة أنموذجاً للأنماط الأصليّة من العلاقات، حينما أخضعت المُستَعمَرين إلى علاقة تبعيّة مع المركز الاستعماريّ الغربيّ، فأصبحت فيه بديلاً للعلاقة مع الطبيعة. ليست الطبيعة موضوعاً للتقدير والرعاية، بل للاستنزاف والنهب، فلا يُنظر إليها بوصفها حاضنة لحياة الجماعة الأصليّة، ومحدِّدة لهُويّتهم البشريّة، إنّما بوصفها مُستودعاً للمَوارد والثروات، فينبغي إفراغها من المعنى الأصليّ لها، فلا يُراد تنميةٌ طرفاها الإنسان والطبيعة، بل نهْب الثروات التي جهّزها الزمن الطويل، وتحويلها إلى قيمة داعمة للمركز الاستعماريّ.

أراد الخطاب الاستعماريّ تملّك الآخر، فلم يضعه في مستوى رتبته، بل حجزه في رتبة التابع، فمارس بذلك نوعاً من الرغبة في التملّك وعدم الإقرار بها، إذ قام المبدأ الاستعماريّ على فكرة السيطرة على الآخرين بالقوّة المعزّزة بالمراقبة والعزل، والأخذ بفكرة تفوّق الطبائع والثقافات، فروّج لمعرفة خدمت المصالح الاستعماريّة، وسعى إلى تثبيت صورة راكدة للمجتمعات المستعمَرة، فكان بذلك جزءاً من وسائل السيطرة عليها، لأنّه وضعها في موقع أدنى من موقع الشعوب المُستعمِرة، فانشقّ مضمونه إلى شقّين: ظاهر ادّعى الموضوعيّة وقام بتحليل الأبنية الثقافيّة والاقتصاديّة والدينيّة لتلك المجتمعات، بمناهج وصفيّة لا تنقصها الدقّة العلميّة، ولكن تعوزها الرؤية الصحيحة، ومضمر روَّج لفكرة التبعيّة، ومؤدّاها ألّا سبيل لبعث الحراك في ركود المجتمعات الأصليّة إلّا باستعارة التجربة الغربيّة في التقدّم، وتبنّي خطّ تطوّرها التاريخيّ.

أفضت التجربة الاستعماريّة، وخطابها المتحيّز، إلى بروز ظاهرة ثقافيّة لم تكُن معروفة في التاريخ من قبل إلّا في نطاقٍ ضيّق، هي تبنّي لغة المُستعمِر وسيلةً للتعبير عن مشكلات المجتمعات المُستعمَرة، فأصبح المُستعمِر غير مُسيطر على تلك المجتمعات، إنّما جرى استعارة لغته للتعبير عن البطانة الداخليّة لمشاعرها وأحاسيسها وطموحاتها ومشكلاتها وتاريخها، بل وأعيد إنتاج موروث تلك المجتمعات بلغةِ المُستعمِر، فوُصِف وحُلّل بها وقُيّم، فظهر بون بين المخيال الجماعيّ الأصليّ، والذاكرة التاريخيّة، وبين وسيلة التعبير عنهما، فقد انحسرت اللّغات القوميّة أو الوطنيّة، وتوارى استعمالها، فهُجرت ونُسيت واستعيرت لغات جديدة أصبحت وسيلة التواصل والتعبير في كثير من قارّات العالَم طوال العهد الاستعماريّ.

حداثة رواية الغرب لتاريخه

لم تكُن استعارة اللّغة الاستعماريّة، ونموذجها الثقافيّ، مجرّدة عن الوقوع في إطار رؤية ضبابيّة للماضي واستعلاء عليه، واستغلاله بطريقة بشعة، إذ يراد منه أن يكون موطناً للعيوب ومصدراً للعار، فمعالِم الاسترضاء تستبطن كتابة النخبة المحاكاتيّة التي خلّفتها التجربة الاستعماريّة، لأنّها ممزّقة بين وعيٍ مُستلَب أو شقيّ، وندر أن تكيّفت مع الواقع الذي ظهرت فيه. ومن الصحيح أنّها قد أوصلت صوتها إلى مناطق يصعب الوصول إليها، ووضعت على بساط البحث أمرَ تقويم التجربة الاستعماريّة في التاريخ الحديث، لكنّها في مجملها كتابة امتثاليّة صيغت في إطار الوعي الاستعماريّ، وخضعت لشروطه الثقافيّة والسياسيّة والاستهلاكيّة، ولم تتخطّ حدود السجال إلى مقترح الاختلاف والمُغايرة، فتلك منطقة يصعب ظهورها في ظلّ الإذعان لشروط الخطاب الاستعماريّ، الذي تحوّل إلى مؤسّسة ثقافيّة كبيرة تُعيد صوغ الوعي العالميّ، وتقوم بتصديره إلى كلّ مكان، فيحول دون العودة إلى الجذور، ولا إمكانيّة لبعثها بصيغ جديدة.

ثمّ تسبّبت التجربة الاستعماريّة في ظهور قضيّة على غاية من الأهمّية، تتّصل بالاختيارات المُمكنة في الأخذ بأشكال الكتابة. فما هي المواقف المترتّبة عن انحسار تلك التجربة؟ وما صلة ذلك بالخطاب الاستعماريّ؟ طرحت احتمالات ثلاثة، فإمّا محو آثار تلك التجربة من تاريخ المجتمعات المُستعمَرة، واعتبارها تجربة تاريخيّة في سياق تاريخ قوميّ طويل، وإمّا أن يقع الأخذ بالخبرة الاستعماريّة والحفاظ على المؤسّسات التي خلفتها وسائر أشكال الكتابة التي أشاعتها، وأخيراً فيُمكن اللّجوء إلى اختيار التهجين بين تلك التجربة وتجارب المجتمعات في مرحلة ما بعد الاستعمار.

والحال هذه، فلا مأزق أكثر تعقيداً من هذه الاختيارات أو الأخذ بأيّ منها، فذلك لا يعود إلى غياب إرادة تلك المجتمعات، إنّما للظروف العالميّة، ولطبيعة المؤسّسات البديلة للدولة الوطنيّة، ولدرجة المحو الذي تعرّضت له الموروثات الأصليّة، ثمّ إنّه يعود أيضاً بدرجة كبيرة إلى طبيعة التركة الاستعماريّة، في حال الاستيطان الذي تسبّب في إبادة الجماعات البشريّة وثقافاتها الأصليّة، كما هو الأمر في أمريكا وكندا وأستراليا- على سبيل المثال-، فقد صار من شبه المتعذّر العودة إلى حقبة ما قبل التجربة الاستيطانيّة، ذلك أنّ المُستوطِن البديل ومثاله أمريكا، أصبحت قوّة استعماريّة جديدة، فصارت تُمارِس دَور الإمبراطوريّة القديم، بفرض هَيمنتها وتعميم أخلاقيّاتها، وبسْط نفوذها الاقتصاديّ والعسكريّ والسياسيّ والثقافيّ، فحدثت قطيعة بين تاريخَين: قديم جرى طمسه هو والجماعة الحاملة له، وحديث جرى تثبيته هو والجماعة المؤسِّسة له.

ويكشف توزيع استخدام اللّغات الاستعماريّة في العالَم عن النفوذ الذي مارسته الإمبراطوريّات الاستعماريّة، في إعادة تشكيل الوعي الثقافيّ للعالَم في العصر الحديث، فصار الغرب جاذباً ومُلهماً للتطلّعات الشخصيّة والخبرات الأكاديميّة والتصوّرات الفكريّة. فقد أفضت التبعيّة إلى مُحاكاة شاملة اتَّخذت لبوساً إيديولوجيّاً، جذب الأنظار إلى الموقع الرمزيّ للمتبوع ومركزيّته الثقافيّة بوعي أو من دونه، واختيار التهجين المُتاح أمام عددٍ كبير من الشعوب التي خضعت للتجربة الاستعماريّة حال دون ظهور الهُويّات المتماسكة وإعادة تشكيلها، اعتماداً على تاريخها وموروثاتها. فقد تشظّى مفهوم الهُويّة في وعي هذه المجتمعات، وجرى تخريج ذلك بوصفه نوعاً من التنوّع الخلّاق.

يلزم التفكير في نموذجٍ ثقافيٍّ جديد مع الأخذ في الحسبان مُكتسبات الحداثة، وامتداد تأثيرها في العالَم، ولا يشترط اعتبار الحداثة الغربيّة هي الحداثة الوحيدة في التاريخ، القادرة على حلّ المعضلات الكبرى التي تواجِه الإنسان؛ فالحداثة الغربيّة هي رواية الغرب لتاريخه، وتفكيك الروابط التقليديّة المعيقة للتطوّر في هذا المجتمع أو ذاك ستفضي إلى حداثاتٍ كثيرة، يُمكن لها أن تصوغ نماذج تُسهِم في تغيير وجهة نظر المجتمعات تجاه ماضيها وحاضرها، وفي علاقتها بنفسها وبغيرها من المجتمعات، وبذلك تتشارك الثقافاتُ على قاعدة من «التعارف» قبل «التحالف»، يُمكن لها أن تمهّد الأرضية لشراكةٍ إنسانيّة بدل تفرّد نموذجٍ ثقافيّ، وسيطرته على مقادير العالَم.

■ ناقد وباحث من العراق

✱ بالتنسيق مع مركز الفكر العربي