أفكار وآراء

إسرائيل أضحت عبئا ثقيلا على الولايات المتحدة

09 يونيو 2018
09 يونيو 2018

د. عبد العاطى محمد -

لا يود أحد أن تتحول الولايات المتحدة إلى خصم للعالم، بل شريك مؤثر في تحقيق السلام والاستقرار للجميع، ولكن إدارة الرئيس ترامب تسير بقوة في هذا الاتجاه لأسباب عديدة لا تزال موضع بحث واستقصاء من المراقبين والخبراء. وبينما تصر هذه الإدارة وخبراؤها على الاصطدام حتى مع حلفائها التقليديين في أوروبا، فإنها لا تجني سوى المزيد من الخلافات مع حلفاء قريبين منها .

من الممكن أن نفهم أن إدارة ترامب مسكونة بمشاعر القلق على مصالحها ومكانتها الدولية وترى أن حل الكثير من مشكلاتها الداخلية يأتي عبر المواجهة مع الخارج اقتصاديا وسياسيا وأمنيا. ولكن هذا كان دائما محور اهتمام كل الإدارات السابقة جمهورية كانت أم ديمقراطية، فقط كان الاختلاف بين إدارة وأخرى هو كيف يتحقق للولايات المتحدة السبق والتأثير القوي في الأحداث لتبقى الدولة العظمى الوحيدة بالمطلق دون أن تدخل في صدام صريح مع الجميع ودون أن تفقد قدرتها على تغيير مواقف الآخرين عبر الدبلوماسية ، لا عبر الحرب أو التهديد بها. ورغم مظاهر الفشل التي لحقت بالإدارات السابقة في أزمات إقليمية عديدة، إلا أن الولايات المتحدة لم تتعرض لمثل ما تتعرض له اليوم على يد إدارة ترامب، حيث الخلافات أو عدم اتفاق المجتمع الدولي بما فيه الكبار في مجلس الأمن مع ما يخرج من البيت الأبيض كل يوم من «تغريدات» أصبحت تشكل السياسة الخارجية الأمريكية.

ومن الممكن أن نتفهم السياسة الراهنة من منطلق أن الرئيس ترامب مقتنع تماما بأن عليه أن يلغي كل ما فعله سلفه باراك أوباما ، اعتقادا منه أن أوباما قاد البلاد إلى وضع ضعيف وضحى بمصالحها ومصالح الشعب الأمريكي ، حسبما يرى ، ثم عليه أن يفعل دائما عكس ما كان يفعله أوباما. ولكن هذا التفسير غريب تماما على تقاليد الرئاسات الأمريكية كلها تقريبا، فما من رئيس جديد إلا وكان يحرص على أن يكون امتدادا لمن سبقه، فقط يستطيع أن يضيف أولويات أخرى ويقوم بتحركات مختلفة لتبقى «أمريكا عظيمة»، ذلك الشعار الذي لم تخل منه أية حملة انتخابية رئاسية.

وربما كان ذلك فكر ترامب وتكوين شخصيته، وهذا وارد وأمر طبيعي، ولكن السياسة الأمريكية لم تعمل فقط وفقا لفكر ورؤية الرئيس، وإنما وفق المؤسسات الحاكمة سواء في الكونجرس أو البنتاجون أو البيت الأبيض ذاته أو وزارة الخارجية، فضلا عن دوائر المراكز البحثية ومؤسسات الإعلام. ومن الواضح بعد مرور عامين ونصف على إدارة ترامب أن المؤسسات قد تم تنحيتها جانبا لصالح التوجه الشعبوي الذي يهيمن على رؤية ترامب لإدارة شؤون البلاد، ويسأل في هذا الشعب الأمريكي نفسه الذي فقد إيمانه بالمؤسسات (ربما لتكرار مظاهر الفشل الخارجي والتأثيرات السيئة للعولمة على قطاع منتج كبير من الأمريكيين على عكس ما كان متصورا من الترويج لها في الماضي القريب)، وألقى بثقله خلف رئيس من خارج المؤسسات بما فيها الأحزاب، فترامب في نهاية الأمر رجل أعمال جاء من ساحة التجارة لا من ساحة السياسة.

وسط هذا كله وجدت إسرائيل نفسها أمام فرصة تاريخية بالنسبة لها فيما يتعلق بتحقيق ما لم يكن أي رئيس أمريكي سابق يوافق عليه ، برغم الود والصداقة المعروفة بين تل أبيب وواشنطن. وفي نفس الوقت وجدت إدارة ترامب نفسها أمام فرصة تاريخية أيضا ، لدعم توجهاتها الغريبة والمقلقة والصدامية. لقد كان ترامب هو أول من هلل عبر تغريداته بالتقارير التي خرجت من إسرائيل تتحدث عن أن إيران لا تحترم الاتفاق النووي الأمريكي، وحرص على أن يجعل من هذه التقارير دلائل تعزز موقفه من الاتفاق وتعطيه المبرر لإلغائه، مع أن بقية الدول الموقعة على الاتفاق قالت عكس ذلك، ولكنه ضحى بحلفائه الأوروبيين وهو يعلم الضرر الذي سيلحق بمكانة بلاده ومصالحها معهم، مقابل المراهنة فقط على إسرائيل وتصديق كل ما تقوله وعدم احترام ما سمعه من كل من ميركل مستشارة ألمانيا ، وماكرون رئيس فرنسا ، وتيريزا ماي رئيسة وزراء بريطانيا. ودعم ترامب موقف إسرائيل من الأزمة السورية بما في ذلك الاستعداد للمواجهة المسلحة مع إيران عن هضبة الجولان، وصمت هو ومن حوله عن التعليق عما قاله وزير الاستخبارات الإسرائيلي لروينرز بخصوص نية إسرائيل ضم الجولان والحصول على موافقة الولايات المتحدة على سيادتها على هذه المرتفعات. ومن قبل صمم على تنفيذ وعده الانتخابي بأن نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس برغم استنكار المجتمع الدولي ورفض حلفائه الأوروبيين لخطوة خطيرة كهذه. والهدف من جانبه هو أن ينقل إسرائيل من وضع الحليف والصديق القوي إلى وضع رأس الحربة الأمريكية في تنفيذ سياسته الخارجية في الشرق الأوسط، أو بالأحرى أن تخوض هي المواجهات المسلحة المتوقعة في المستقبل القريب وكيلا عن الولايات المتحدة.

أيا من الرؤساء السابقين بمن فيهم جورج بوش الابن لم يمنح إسرائيل هذه المكانة أو هذا الدور في تنفيذ السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط. لم يطلب جورج بوش الابن التدخل العسكري الإسرائيلي في الحرب على العراق، ربما كانت هناك مساعدة استخبارية ولكن لم نجد القوات الإسرائيلية في هذه الحرب. وعندما تعرضت إسرائيل للقصف ببعض الصواريخ تم استيعاب الموقف ولم تتبرع تل أبيب بالرد. ومن قبل لنا أن نتذكر أن جورج بوش الأب منع صفقة سلاح مهمة لإسرائيل ردا على عدم توقفها عن الاستمرار في الاستيطان، ولنا أن نتذكر الخلافات العميقة بين أوباما ونتانياهو إلى حد إعلان كل منهما كراهيته للآخر ، أو بلغة أخف ما قيل عن عدم وجود الكيمياء بين الرجلين. ولم يعرف يوما أن أيا من هؤلاء كان لا يود إسرائيل أو يعتبر حمايتها جزءا من الأمن القومي الأمريكي. ولكن هو الفرق بين النظر لإسرائيل على إنها حليف مهم وبين أن تكون وكيلا للولايات المتحدة، حيث يتحدث الجانبان لغة واحدة ويفعلان شيئا واحدا. ما يبدو أنه فرصة تاريخية للجانبين ما هو إلا كارثة على كل منهما، فالوكيل الإسرائيلي تحول إلى عبء ثقيل على الولايات المتحدة. أوروبا التي كانت دائما ما تصطف إلى جانب الولايات المتحدة لم تعد كذلك. صحيح أن هناك أزمة تجارية فرضها ترامب على القارة العجوز مما تسبب في تعكير العلاقات، ولكن هناك خلاف مبادئ سياسية بين الجانبين، حيث لا تريد أوروبا أن تتخلى عن المبادئ . جلسة مجلس الأمن بخصوص توفير حماية للمدنيين الفلسطينيين والتي عقدت بطلب ومشروع كويتي وضعت الولايات المتحدة في وضع الدولة الكبرى المعزولة دوليا. هذا يحدث لأول مرة تقريبا، حيث حظي القرار بموافقة عشر دول من بينها روسيا وفرنسا والصين واستخدمت الولايات المتحدة حق الفيتو وظهرت بوصفها الدولة الوحيدة بين من صوتوا على القرار التي اتخذت موقفا مضادا، علما أن بريطانيا امتنعت عن التصويت والامتناع يحسب في سياق الموافقة لا الرفض. وفي نفس اليوم تقدمت الولايات المتحدة بمشروع قرار يدين حماس قوبل بالرفض، مما يعني أن هناك إرادة دولية مصممة على معاقبة الولايات المتحدة أو وضعها في وضع الدولة الكبرى المعزولة. لم تمر الولايات المتحدة بهذا الموقف من قبل، ولكن التحدي الذي باشرته إدارة ترامب عند نقلها السفارة، والصدام مع أصدقائها الأوروبيين، كان حاضرا في الخلفية ليحدث أثره عن التصويت على المشروع الكويتي المساند للفلسطينيين وعلى المشروع الأمريكي الذي سعى إلى إدانة حماس. هذا بالإضافة إلى الرفض الأوروبي للسير خلف الولايات المتحدة فيما يتعلق بإلغاء الاتفاق النووي الإيراني. يضاف إلى ذلك المظاهرة التي قوبلت بها نيكى هيلي مندوبة الولايات المتحدة في الأمم المتحدة بالاستهجان من طلبة جامعة هيوستن عندما أرادت إلقاء محاضرة هناك، وأسمعها المحتجون وكان من بينهم طلاب غير عرب ولا فلسطينيين هتافات معادية.

الوقائع السابقة لا تجعل من التحالف الجديد بين إسرائيل والولايات المتحدة فرصة لأي منهما، بل تجعل الأولى عبئا ثقيلا على الثانية في سابقة لم تحدث في تاريخ العلاقات بين البلدين. مما يعزز ذلك أن فلسطينيي غزة الذين تظاهروا عند الطرف الآخر من الحدود ردا على المظالم الإسرائيلية (الحصار) وتأكيدا للتمسك بحق العودة، ودفعوا الثمن 119 شهيدا ونحو 30 ألف جريح، صامدون ومصرون على استعادة الحقوق الفلسطينية وفضح الممارسات العدوانية الإسرائيلية، وقادرون على ابتكار وسائل جديدة غير الصواريخ لبث الذعر في قلوب المستوطنين في شمال القطاع (الطائرات الورقية الملغمة). ولو ذهبت إسرائيل والولايات المتحدة لأبعد مما هو متصور بشن الحرب، فإن الثمن الذي تدفعه إدارة ترامب يصبح باهظا. أليس كل ذلك يؤكد أن إسرائيل أصبحت عبئا ثقيلا على الولايات المتحدة؟!