أفكار وآراء

تجارب مع القرار المرير

06 يونيو 2018
06 يونيو 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

ليس جديدا الحديث عما تثيره إجراءات خفض دعم الوقود أو تحرير أسعاره من احتجاجات اجتماعية وغضب جماهيري واسع النطاق. أصبح الدرس واضحا للجميع، وربما كان ما جرى في مصر في يناير 1977 إنذارا مبكرا إلى الكافة بأهمية معالجة هذا الملف بحرص وحكمة. في عدد كبير من الدول رأينا كيف اشتعلت المظاهرات احتجاجا عند رفع أسعار الوقود سواء تم تحرير الأسعار وفق برنامج مع صندوق النقد أم لا، وسواء كان في البلاد معارضة تستغل الحدث أم لا. بعض التجارب كانت أفضل من غيرها حيث تم ابتكار فكرة الإطلاق المتزامن لزيادة الأسعار ومعها في اللحظة نفسها حزم تعويضية لتخفيف الأثر على المتضررين خاصة من الفئات الفقيرة. لكن لا يمكن الادعاء بأنه تم حسم المسألة. ليس المطلوب أبدا الجمود أو التعايش طويل الأجل مع شلل القدرة على التصدي لاختلالات الدعم كلية بدعوى الخوف من الانفجارات الاجتماعية. وليس المطلوب كذلك الاندفاع غير المحسوب الى العلاج الراديكالي بدافع الشعور بأن ما يجب عمله يجب عمله بأسرع وقت وأن المنافسة المحتدمة بين الأمم لا تدع لصناع القرار ترف أن يمشوا الهوينى في هكذا أمور.

أن ما يزيد عادة من تعقيد هذا الملف أن محاولات تصحيح تشوهات الأسعار والأسواق تتم عادة في أوقات صعبة اقتصاديا وفي ظل تضخم مرتفع يخلق هو بذاته أرضية مناسبة للفوران مع أي محفز ناهيك عن أن يكون المحفز هو رفع سعر سلعة حيوية تؤثر على كل أسعار السلع الخدمات مثل الوقود. وأسوأ ما تود أن تسمعه أي حكومة هو أن يقال لها إن الوقت غير مناسب، إذ لم تتوصل البشرية حتى الآن ، وربما لن تتوصل في المستقبل ، إلى وقت مناسب لرفع الأسعار، أو وقت مناسب لفرض ضرائب إضافية. بيد أن ما تقدم لا يعني أنه لا توجد أوقات أفضل نسبيا من غيرها. توجد كذلك آليات أفضل من أخرى في تحريك أو تحرير أسعار مواد الطاقة. لكن ليس بمستطاع أي حكومة أن تمنع الناس أو المعارضين من أن يقولوا أن الوقت غير مناسب أو أن الآلية غير مناسبة. وقبل أن انتقل الى عرض بعض المقترحات للتعامل مع هذه القضية أشير أيضا الى عامل مستجد زاد من تعقيد المعقد، ألا وهو أثر التجارب الإقليمية أو ما يجري في دول الجوار على صناع القرار. فمصر مثلا لا يمكنها أن تتغافل عما يجري في الأردن إزاء سعي الحكومة لزيادة البنزين والعكس بالعكس. وفي مثل تلك الحالات أيضا تشيع أفكار منقولة عند الجمهور تأثرا بشعارات أو آراء عن مجتمع آخر في دولة أخرى بسهولة ، وحتى ولو لم تكن منطقية أو تناسب الواقع المختلف، لكن المناداة بها تتصاعد وتربك أيضا حسابات الحكومات بل وحتى حسابات المعارضين الذين لديهم رؤى أخرى حقيقية مبنية على حسابات للموارد والنفقات وللتوزيع لصيقة بالبلد الذي تعيش المعارضة فيه ولا علاقة لها بغيره أو إلى حد بعيد.

إن ما لا يجب عمله أولا هو الجمع بين إجراءين كبيرين في وقت واحد، كمثال خفض دعم الوقود مع تثبيت مخصصات المرتبات والأجور ولا أقول تخفيض عملي لها ، أو فرض ضرائب جديدة، أو فرض حزمة زيادة في رسوم سلع وخدمات أساسية ، أو تغيير معدلات ضريبة القيمة المضافة، وهكذا. بوضوح وبلغة الرياضة لابد أن تكون الحكومة متفرغة لمصارعة وترويض الوحش الواحد الذي هو زيادة أسعار المواد البترولية ، ولا تنشغل بمعارك أخرى حين تفتح هذا الملف بالذات.

ليس من المفضل أبدا اعتبار الحوار مع أعضاء البرلمان كافيا حول هذه العملية، فالبرلمان له دوره الدستوري والسياسي الشعبي بكل تأكيد غير أن على الحكومة أن تطرق أبوابا أخرى لتستمع الى أهلها وتفيد من آراءهم. تتحدث حكومات كثيرة عن الحوار المجتمعي وعندما تقع الواقعة ويثور الجمهور تكتشف أن أحدا لم يكلم أحدا ولم يفهم طرف ما عند الآخر على نحو صحيح مطلقا. لا أقصد بالحوار المجتمعي مناقشة الاقتصاديين من التيارات المختلفة فقط أو الأحزاب السياسية وذلك أيضا مطلوب لكن الاستماع الى الذين لا نرى وجوههم إلا ساعة انفلات الغضب مثل سائقي سيارات التاكسي والميكروباص وأصحاب السيارات ذات السعات الليترية الصغيرة وقادة القطارات والشاحنات وأصحاب وكالات نقل السلع اليومية المتداولة أو وكالات البيع بالجملة لتلك السلع.

ويستغرب المرء كيف أن الحكومات تخشى وعن حق في كثير من الأحيان من عمل منظمات أجنبية أو ممولة من الخارج في أنشطة تدور وسط الجماهير الشعبية مخافة الإمساك بمفاتيح التأثير على تلك الجماهير وإساءة استغلالها، بينما لا تقوم الحكومات بالجهد اللازم وسط جمهور العامة لفهم مخاوفهم وتطلعاتهم والعمل بمقتضى هذا الفهم مما يقود الى تقبل أفضل للسياسات العامة ؟ .

إلى ذلك فمحصلة مناقشات ومتابعات ممتدة منذ سنوات تجعلني أقول أن تحريرا ناجحا لأسعار الوقود يلزمه ما يلي: مناقشة سيناريوهات متعددة لحجم وأجل التطبيق لاختيار أفضل بديل، والتدرج الزمني وفق خطة معروفة ومعلنة مسبقا ويعد تحرير أسعار الكهرباء على أجل خمس سنوات في مصر نموذجا معقولا فالكل يعلم مسبقا موعد الزيادة ومقدارها، وإذا كان الإعلان المسبق عن أسعار الوقود يمكن أن يؤدي الى تخزين المواد والاتجار بها بشكل غير قانوني فإن الرد على ذلك هو عمل زيادات صغيرة كل ستة أشهر مثلا ولمدة عدة سنوات ما يمنع من التخزين لأن تكلفته ستزيد والعائد على النفقة سيصبح ضعيفا وغير مغر.

يتعين أيضا إدراك حقيقة أن دعم وسائل النقل العام يعد في الأدبيات الحديثة من عناصر العدالة الاجتماعية المهمة مع التعليم والصحة وأن النقل الرخيص يساعد الأفراد على الحراك الاجتماعي وتغيير مسارات أعمالهم وحياتهم.

من الضروري أن يكون لدي الحكومة وعي بخطورة شعور الجمهور /‏‏ ولو بسبب معلومات خاطئة /‏‏ أنه هو وحده من يدفع الثمن بينما أعضاء السلطة التنفيذية أو الأغنياء لا ، كما أن القدوة مهمة للغاية في هذا المجال.

وعند إعلان الأسعار الجديدة/‏‏ ويبدو أن منتصف الليل موعد مناسب بالفعل/‏‏ يجب أن يصدر معها دليل إرشادي واضح بالأثر على تكلفة أهم السلع والخدمات وكيفية نقل التكلفة الحقيقية إلى المستهلكين بلا مبالغات.

بطبيعة الحال فإن انضباط تكاليف السلع أو الخدمات التي تنوي الحكومة رفع أسعارها عنصر مهم فالجمهور لا ذنب له إذا كانت الجهات التي تقدمها تخسر بسبب الإهمال أو الفساد أو سوء الإدارة. أعرف أن هناك معارضين أو أناس من الجمهور العام يعارضون وفي كل الأوقات أي علاج لتشوهات الأسعار وحجتهم هي أنه يمكن تدبير عشرات المليارات من كذا وعشرات المليارات من كذا و من كيت قبل التفكير في رفع الأسعار وتنطوي مثل تلك الأفكار على شعبوية ومزايدات في كثير من الحالات بيد أن ذلك لا يعني أنه يوجد بالفعل فاقد ضخم في الإيرادات العامة يجب تحصيله أن لم يكن قبل رفع الأسعار فبالتوازي معه حتى يمكن توفير موارد لتحقيق خدمات أفضل للمواطن تعينه على التحمل.