روضة الصائم

لقاء متجدد: فضل العلم «2»

04 يونيو 2018
04 يونيو 2018

أحمد بن حمد الخليلي المفتي العام للسلطنة -

وقد درج السلف الصالح على نقل العلم ونشره بدون استئذان من صاحبه، ناهيك بهذه القصة التي ذكرها البدر الشماخي - رحمه الله - في السير قال: «لما وفد أبو غانم بشر بن غانم الخراساني على الإمام عبد الوهاب ومعه مدونته المشهورة في الفقه التي رواها عن تلامذة أبي عبيدة وجاز على جبل نفوسة استودع عمروسا نسخة منها، وأخذ في نسخها وأخته تملي عليه، ويلازم الموضع حتى تدركه الشمس فينتقل حرصا على إحياء العلم. فما رجع بِشْر إلا وقد استكمل نسخها وهي في اثني عشر جزءا، فوجد نقطة حبر على بعض الكراريس فقال: (سرقت هذه) قال: (سماني سارق العلم)». فترى أن صاحب الكتاب لم يعنف ناقله بأنه نقله بدون إذنه، وإنما قال له مداعبا: (سرقت هذه)، فأجابه بقوله: (سماني سارق العلم). يعني أن هذا وصف حميد، وليس هو مما يذم، وقد كانت لفعله هذا عاقبة حسنة، فإن الإمام أبا غانم -رحمه الله- أودع كتابه هذا مكتبة المعصومة بـتيهرت، وعندما أتلف الغازون تلك المكتبة تلف هذا الكتاب فيما تلف من ذخائر العلم التي كانت تحتويها تلك المكتبة، ولم تبق إلا النسخة التي نسخها عمروس -رحمه الله - ، وكانت هي الأم لما نقل عنها من نسخ.

وما أجدر حملة العلم الشريف أن يترفعوا عن المطامع فيما يؤلفون وينشرون أو يقولون ويخطبون، وأن لا يريدوا بذلك إلا إصلاح الناس، وتبصيرهم بمسالك الحق، وردهم إلى الله تعالى اضطلاعا بمهمة وراثة النبوة، وقياما بحق الدعوة، ونشرا لتعاليم الإسلام بين الناس، فإن العلم هو أساس الصلاح والإصلاح، وبنشره يستقيم شأن الأمة، وينجبر كسرها ويستوسق أمرها، فقد وجدنا دعاة الإصلاح والرشد يتطلعون إلى فئة تقوم بهذا الأمر، لا يعنيها إلا رضى الله سبحانه وتعالى، من غير التفات إلى زخرف الحياة الدنيا، وعليه؛ فكم نتمنى أن يتحلى جميع حملة الشريعة بهذه الأوصاف، وأن يجعلوا معارفهم ينابيع متدفقة يردها كل الناس ليرووا بها غلتهم من غير احتكار لشيء منها، حتى يعم الخير عندما ينهل كل أحد من هذه المناهل بيسر لا تسدهم عنها حواجز تحول بينهم وبين الانتفاع بها، فبهذا ينتشر العلم ويتسلسل في كل الأجيال يحمله الخلف عن السلف، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين»، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بنقل العلم إلى من لم يكن عنده، فقد قال: «نضر الله عبدا سمع مقالتي فوعاها وحفظها ثم أداها إلى من لم يسمعها فرب حامل فقه غير فقيه ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، وقال: «بلغوا عني ولو آية»، وكيف يتحقق البلاغ عندما توضع الحواجز ويحجر على الإنسان أن ينقل ما يجده من العلم مدونا، ويحجر عليه حتى تصويره؟! والله المستعان.