أفكار وآراء

عشر سنوات على الأزمة العالمية

30 مايو 2018
30 مايو 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

تمر هذه الأيام عشر سنوات على اندلاع الأزمة المالية العالمية 2008 ، والتي تحولت لاحقا الى أزمة اقتصادية عالمية. كان كل شيء يبدو عاديا، في صباح يوم الأزمة، وكما قال خبراء من قبل انه لا يمكن لإنسان ان يعرف أبدا الموعد المحدد لاندلاع الأزمة بشكل عام ، لكن أظن ان المقصود بالمحدد هنا اصبح الدقة حتى جزء من الثانية ، ولا نتحدث فقط عن أيام او أشهر ، فالدنيا تغيرت. في جزء الثانية هذا تجرى معاملات بأحجام هائلة في

البورصات الكبرى المميكنة، ويجرى جانب ضخم من التعاملات وفق أوامر مبرمجة مسبقا ما يزيد التعقيد ، ومعنى ذلك انه لا يعد مفيدا بشكل كاف ان تتنبأ ببدء الأزمة قبلها بأيام او أسابيع ، فالأمر الأخير مفيد فقط للذين لا تغويهم المخاطر ، ويهربون بسرعة عند مرور أي سحابة ، بينما المستثمر في أسواق المال هو عادة مستثمر يتبع المخاطر كما يتبعه ظله. وقد عرفنا بعد الأزمة بوقت قصير كيف ان بيوت المال الكبيرة كان لديها قدر من التوقع بقرب حدوث الأزمة لكن كل مضارب أو مخاطر كان يقول لنفسه ( فلننفذ هذا الأمر وبعدين نتوقف ... طيب كمان أمر في الثانية المقبلة ثم نتوقف يعني هي ستنهار في هذه الثانية؟) وهكذا راح الطمع - وعوامل أخرى بالطبع مثل المراهنة على تعاف سريع بعد موجة فرار كبيرة - يجذب البيوت المالية الكبيرة الى اسفل الى ان أطبقت الأزمة على أبدان الجميع .

كان السبب الجوهري للأزمة كما نتذكر هو التوسع الشديد في الرهونات العقارية وتحويل الرهن العقاري الى ماكينة حلب نقود لأعداد هائلة من المواطنين تشتري ثم تبيع وتقترض لتشتري ثم تبيع الى ان وقعت الواقعة فأصيب ملايين الناس بالهلع ، وفقدت أعداد هائلة من البشر مساكنها ومدخراتها بالطبع . ولم يكن لذلك ان يتم إلا مع تساهل مذهل من البنوك ومن الرقيب المصرفي مع عمليات التحوط وتوريق الديون العقارية اكثر من مرة والتوسع في البيع بالهامش وبيع الأوراق المقترضة وعبر المشتقات ، وبالمجمل التفلت من كل القواعد المنظمة للعمل المصرفي السليم. وقد تغير العالم الذي سبق الأزمة ليس فقط من الناحية البنكية والتنظيمية الرقابية فقط ، ولكن أيضا اقتصاديا وربما سياسيا بسبب تلك الأزمة وتداعياتها ، ولازلنا ندفع ثمنها حتى هذه اللحظة وربما ايضا سنظل ندفعه لأجل لم تتحدد نهايته بعد . لكن المهم الآن ان نعرف أين وصلنا والى أين نريد ان نذهب ؟ . لقد أنهت أمريكا منذ عامين عمليات التسيير النقدي  (أو التيسير الكمي) والتي كانت بمثابة الآلية الرئيسية للتعامل مع الأزمة وتم بمقتضاها ضخ أموال هائلة في شرايين الجهاز المالي والإنتاجي (بنوك وشركات تأمين وشركات صناعية كبرى ) وفي الأسواق عموما بينما مازالت أوروبا مترددة في حسم تلك الخطوة ، وأخذت أسعار الفائدة الأمريكية ترتفع وستواصل الارتفاع وفق كافة التوقعات وبكل ما يرتبط بذلك من تأثيرات ليس اقلها ارتفاع تكلفة الاستدانة على الدول الناشئة فضلا عن ارتفاع عبء مديونياتها نتيجة ارتفاع أسعار الدولار أيضا. وقد نشرت اكثر من وسيلة ميديا خلال الأيام الماضية بيانات نقلا عن بنك التسويات الدولية - وهو بنك البنوك المركزية كما يقال -  توضح استمرار انفجار أزمة الديون العالمية بشكل مخيف ، حتى ان ديون الحكومات والشركات أصبحت تقارب نحو 250 % من الناتج العالمي، وأعلى بكثير مما كانت عليه وقت الأزمة المالية العالمية. والمحير أن الدول لا زالت تستخدم نفس الحجج للاقتراض وعلى رأسها انه لا مشكلة في زيادة الدين ما دام الاقتصاد يمضي على الطريق الصحيح ، وان الناتج سيزيد بعد ذلك وسترتفع عوائد الدولة وبالتالي تقوى قدرتها على السداد، ولم يحدث ان رأينا وجهة النظر هذه تتحقق بالفعل وبشكل نطمئن الى سلامة قياساته ومع ذلك لا زال خبراء وساسة يرددونها كل يوم بلا ملل ولا كلل. لكن الأخطر في عشرية الأزمة المالية العالمية هو الأثر السياسي لها فكثيرون في عالم اليوم يرون ان الانفلات السياسي المخيف في سياسات دول كبرى ، وانفجار الصراعات المسلحة المباشرة أو عبر وكلاء أو جماعات إرهابية أو مرتزقة موظفين بشركات مسجلة او او ، كل ذلك مرجعه بالأصل الى الانهاك الاقتصادي والشعور بانه لم يعد ممكنا الخروج بحق من الأزمة الاقتصادية وإعادة التوازن الى معدلات النمو والإنتاجية والتشغيل والرفاه الا بتوليد فوائض من “الهواء” أي من حيث لا جهد ولا تعب ... من باب جديد ..باب للضغط السياسي والابتزاز مثلا وليس من الإنتاج والتطوير والمنافسة، لأجل ذلك يشعر الناس في كل مكان بأنهم مضغوطون ومتوترون ، وشعورهم نابع من انهم يرون بأعينهم انه لم تعد هناك قواعد لعبة اقتصاد ومنافسة ..فهذه ورغم وطأتها يمكن التعامل معها وتهيئة النفس لمقتضياتها والحصول على فرص في ظلها الى حد معقول ، اما في غياب القواعد فأنى للإنسان ان يعرف ما هو المطلوب منه؟ او كيف يستعد للآتي؟ وبأي السبل يجد مكانا تحت الشمس الاقتصادية في بلاده أو أي بلد يتواجد فيها مهاجرا او لاجئا ؟.  تجيء الذكرى والمخاوف تتعاظم في اكثر من بلد من حدوث فقاعة عقارية وقد كان حديث كل الأوساط العالمية منذ اشهر قليلة ان الصين مقبلة على فقاعة عقارية سيكون لها دوي عالمي - بدرجة اقل بكثير طبعا مما جرى في أمريكا وأوروبا 2008 -  لكن السلطات الصينية والبنك المركزي هناك تحديدا اتخذوا من الإجراءات ما أبعد بالفعل شبح الأزمة وقام بتحجيم تمويل العقارات وتوريق الديون العقارية ، بيد ان حديث الفقاعة لم يعد في الصين وحدها او الولايات المتحدة - مرة أخرى - وحدها ، حيث يجري في كل بلد ، وفي مصر كمثال ، التحذير منذ فترة من فقاعة عقارية بسب وجود عدد ضخم من المشاريع الخاصة مضافا إليها ما قامت وتقوم به الدولة ذاتها في المجال العقاري منذ ثلاثة أعوام فضلا عن وجود ملايين الشقق المغلقة أو غير المستغلة، كما كشف التعداد الشامل منذ اشهر وان كانت الدعاية العقارية تقول طوال الوقت ان الأسعار سترتفع وترتفع ، لكن الأزمة في مصر ستكون مختلفة بهذه الدرجة أو تلك ولا اعني بذلك حجم الأزمة فقط ولكن أيضا طبيعتها ، فأغلب المساكن في مصر يتم تمويلها من مدخرات الأفراد وليس عبر نظام الرهن العقاري او التمويل من البنوك، وان كانت الشركات العقارية الكبيرة عليها مديونيات للبنوك بالطبع وظني أنها أيضا ليست كبيرة لأن الكل تقريبا يعتمد بشكل أو بآخر على التمويل من نظام المقدمات والدفعات المبكرة .

وهكذا إذا يسمع المرء حديث الأزمة العقارية في اكثر من بلد وربما كل يوم بعد ان ظننا ان العالم تعلم من كارثة 2008 وانه تم وضع أدوات رقابية كافية لمنع تكرار ما جرى. ويعود جزء من الاندفاع الى العقارات رغم المخاطر الى ضبابية عوائد الأعمال الاستثمارية في الكثير من المناطق بالعالم والغيوم التي تحيط بمناخات الأعمال بسبب التوترات السياسة والجيوستراتيجية .

وتأتي عشرية الأزمة المالية أيضا والبنوك المركزية تتعرض لضغوط غير مسبوقة وقد أشرت الى بعضها في مقال سابق وهي التي تم التعويل عليها في الخروج من الأزمة الماضية فكيف تعمل في حالنا الراهن وهي ترى ان الساسة يستكثرون عليها استقلالها ويريدون ان يقحموا انفسهم في شؤونها ؟ . وهناك أيضا ان العناية بإصلاح الضوابط الرقابية للجهاز المالي والمصرفي توارت نسبيا لصالح الاهتمام البازغ بمكافحة التهرب والتجنب الضريبيين بعد أن اصبح هذا الفعل يهدد الديمقراطيات كافة وليس فقط موازنات الدول.