أفكار وآراء

رسائل الإعصار «مكونو»

27 مايو 2018
27 مايو 2018

أ. د. حسني نصر -

تمثل الأزمات والحالات الطارئة اختبارا حقيقيا للشعوب الحية يكشف إلى حد كبير قدرتها على التلاحم والترابط لاجتياز الأزمة ومعالجة آثارها والخروج منها وهي أكثر قوة وقدرة على مواجهة التحديات والأزمات التالية، كما تمثل في الوقت نفسه اختبارًا للحكومات ومؤسساتها يكشف مدى استعدادها وجاهزيتها لمواجهة الأزمات الطارئة، ومدى قدرتها على التنبؤ بالأزمة قبل وقوعها والتعامل بكفاءة مع مراحلها المختلفة.

وتصنف الحالات المناخية الطارئة من الأحداث الجسيمة أو، على الأقل، الأزمات الطبيعية التي لا دخل للإنسان في تشكلها أو في تحديد مسارها، وبالتالي يُقاس النجاح في التعامل معها ليس بمنعها أو التحكم فيها ولكن بالقدرة على التعامل معها وتقليل الخسائر الناتجة عنها قدر الإمكان، واتخاذ كافة الاحتياطات والإجراءات الاستباقية والتوعوية لحماية الأرواح والممتلكات، ثم تقييم هذه الإجراءات بعد انتهاء الحالة، والخروج منها بدروس مستفادة.

وفق هذا المنظور يمكن القول إن إعصار «مكونو» الذي ضرب سواحل محافظتي ظفار والوسطى نهاية الأسبوع الماضي كان اختبارا جديدًا للحكومة والشعب العماني، جاء بعد اختبارين مماثلين في العشرية الأولى من القرن الحالي تمثلا في إعصاري «جونو» و«فيت».

لقد أثبت تعامل السلطنة مع هذا الإعصار على مدار الأيام الماضية أن الدول تتعلم من تجاربها، وأن الشدة، وإن تمثلت في أمر خارج عن إرادة البشر، هي التي تظهر معدن الدول والشعوب، وأن مثل هذه الحالات الطارئة، رغم صعوبتها، هي ما تمنح الشعوب الصلابة والقدرة على البقاء والاستمرار وصنع التاريخ. وكم من دولة صهرتها الأزمات وخرجت منها بفضل تلاحم الشعب والحكومة أقوى مما كانت عليه.

وإذا كان من المبكر جدا تقويم الجهود التي بذلتها الحكومة ومعها الشعب العُماني في مواجهة إعصار «مكونو»، فإن الأمانة تقتضي ألا ننتظر عملية التقويم النهائية التي قد تطول، وأن نبادر جميعا إلى إعطاء كل من أدى واجبه حقه من الشكر والتقدير والعرفان.

إن ما كشف عنه هذا الإعصار من تلاحم شعبي كبير وجهود منسقة بين مختلف الوزارات والهيئات والمؤسسات في الدولة قد يبدو طبيعيا لمن يعيش على أرض عمان الطيبة ويعرف جيدا طبيعة شعبها، لكن صورة هذا التلاحم يجب أن تصل أيضا إلى الخارج عبر وسائل الإعلام المختلفة حتى يعرف القاصي والداني كيف تعاملت عُمان مع هذا الإعصار القوي الذي قد لا تستطيع دول كثيرة في العالم مواجهته، رغم فارق الإمكانات المادية والبشرية.

لقد حمل إعصار «مكونو» وهو يضرب بقوة هائلة سواحل محافظتي ظفار والوسطي ليل الجمعة/‏‏ السبت الماضية كثيرا من الرسائل الإيجابية التي يجب التوقف أمامها وإبرازها والتأكيد على المعاني الكبيرة التي تحملها.

ولعل أول وأهم هذه الرسائل أن السلطنة حكومة وشعبا استفادت كثيرا من دروس إعصاري «جونو» و«فيت»، ووظفت تلك الدروس في الاستعداد المبكر والجاد والشامل لمواجهة الحالات المناخية الطارئة، وذلك ببنية أساسية قوية قادرة على الصمود، أو على مستوى وضع خطط استباقية واضحة ومنسقة تنسيقا جيدًا للتعامل معها، أو على مستوى جهود توفير الخدمات الأساسية وتوفير الإغاثة العاجلة والإيواء الكريم للسكان المعرضين للخطر، وكذلك على مستوى إمداد المواطنين والمقيمين بالمعلومات ورسائل التوعية عبر وسائل الإعلام الوطنية. ولعل هذا ما عبر عنه بصدق الشعار الذي انضوت تحته هذه الجهود، وهو «عمان مستعدة»، والذي منح قدرا كبيرا من الطمأنينة، ليس فقط لسكان المناطق الذي هددها الإعصار ولكن لكل من يعيش على أرض عمان وكذلك أحباء عُمان في العالم كله.

يستحق من أبدع هذا الشعار وجعل منه وسما ذائع الصيت في وسائل الإعلام وعلي شبكات التواصل الاجتماعي التحية والإشادة، لأنه استطاع بكلمتين فقط أن ينشر حالة من الارتياح الشعبي في ربوع السلطنة ويطمئن الجميع على قدرة الدولة على مواجهة هذا الاختبار الصعب، وهي حالة يندر أن تراها في دول أخرى أثناء مواجهة حالات مناخية مماثلة، حيث تسبب الرسائل الإعلامية السلبية إلى نشر الفزع والخوف وربما الرعب بين السكان، خاصة في المناطق الأكثر تعرضا للأضرار .

وقد رافق هذا الشعار شعار آخر مهم أصبح أيقونة تعبر عن التلاحم الشعبي في مواجهة الإعصار، وهو شعار «كلنا عمان» الذي عبر عن تضامن واسع لكل العمانيين والمقيمين مع إخوانهم في محافظتي ظفار والوسطى.

قد حمل هذا الشعار معنى وطنيا مهما وهو أن الإعصار لا يعني المحافظتين المتضررتين فقط ولكن يعنى عمان كلها، وأن الكل يتضامن معهما.

والجميل في الأمر أن العمانيين وضعوا هذا الشعار موضع التطبيق الفعلي والفوري، فسمعنا وقرأنا عن عشرات وربما مئات المواطنين سواء من داخل المحافظتين أو من المحافظات الأخرى، قدموا منازلهم وأخلوا بناياتهم لاستقبال الأسر التي كان يهددها مسار الإعصار. وقد تكاملت هذه المبادرات الشعبية مع الجهود التي بذلتها الحكومة وإعلانها المبكر عن المدارس التي حولتها إلى مراكز إيواء وجهزتها بكل الإمكانيات والمتطلبات الحياتية في مختلف ولايات المحافظتين.

من الرسائل المهمة التي كشف عنها إعصار «مكونو» أيضا أن الإعلام العماني أثبت أنه قادر في أوقات الأزمات وفي غيرها أن يكون عونا حقيقيا للشعب والحكومة، وأن يكون عين المجتمع التي ترى وتنقل ما تراه بصدق وأمانة وموضوعية ومسؤولية، كما أثبت أنه مهما تعددت منصات النشر الإلكترونية الجديدة، فإنه يبقى للإعلام التقليدي الدور الأكبر في تغطية الأحداث الوطنية المهمة. هنا يجب الإشادة بما قامت به الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون التي أخذت على عاتقها مسؤولية كبيرة في الإعلام والتفسير والتوجيه والتوعية والإرشاد. إذ انتشر مراسلوها المزودون بالتقنيات الحديثة وفرق العمل المتكاملة في جميع الولايات في محافظتي ظفار والوسطى، ونقلوا إلى المستمعين والمشاهدين أدق التفاصيل عن الأوضاع الحياتية في المحافظتين، وكان استوديو التلفزيون يبث باستمرار لقاءات حية من مواقع الأحداث سواء مع المراسلين أو المسؤولين. ومن المهم أن نشيد أيضا بالدور الكبير الذي لعبه التلفزيون في متابعة الإعصار قبل وصوله وأثناء حدوثه.

وقد اختار التلفزيون شعارًا جيدًا لهذه المتابعة، وهو «التغطية مستمرة»، في إشارة ذات دلالة إلى قيامه بتجنيد كل إمكانياته البشرية والتقنية لتقديم تغطية حية وشاملة من المواقع التي ضربها الإعصار ومن مواقع متابعته في المركز الوطني للإنذار المبكر من المخاطر المتعددة، واللجنة الوطنية للدفاع المدني، والهيئة العامة للطيران المدني، والمديرية العامة للأرصاد الجوية، وغيرها.

ولم تقصر الهيئة جهودها على المحطات الإذاعية والتلفزيونية ومدت التغطية المستمرة إلى مواقعها الإلكترونية المتعددة وحساباتها المختلفة على شبكات التواصل الاجتماعي، التي شهدت إقبالا كبيرا من الجمهور من داخل عُمان وخارجها، بفضل متابعتها حركة الإعصار ونشر البيانات والرسائل التوعية على مدار الساعة. ومن المؤكد أن عمليات التقويم التي ستعقب انتهاء الإعصار سوف تثمّن أدوار كل من ساهم في مواجهة «مكونو»، خاصة الدور الكبير الذي لعبته وسائل الإعلام المسموعة والمرئية من خلال التغطية المستمرة التي أعادت المشاهدين والمستمعين إلى الالتفاف حول شاشة التلفزيون العماني وأجهزة المذياع.