أفكار وآراء

الحفاظ على العمل المؤسسي .. وسط ظروف قاسية

27 مايو 2018
27 مايو 2018

عماد عريان -

,, انعقدت جلسات المجلس الوطني الفلسطيني وانفضت دون أن تثير اجتماعاته وقراراته النهائية الكثير من الاهتمام الإقليمي أو الدولي باستثناء تلك اللحظات التي وجد خلالها الرئيس الفلسطيني أبو مازن نفسه محاصرا بسيل من الاتهامات الدولية بمعاداة السامية ولم تتوقف إلا باعتذاره رسميا بعدما وصلت لردهات مجلس الأمن!,,

لعل هذا المشهد وحده كفيل بالتعبير عما آلت إليه القضية الفلسطينية والظروف التي عقدت في ظلها اجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني الأخيرة بعد طول غياب تزامنا مع الذكرى السبعين لاغتصاب الأراضي الفلسطينية وإعلان قيام إسرائيل بدعم أمريكي - غربي، غير مسبوق لا يزال مستمرا حتى أيامنا تلك وأكثر، هذه الظروف تعكس أوضاعا هي غاية في القسوة تمر بها القضية الفلسطينية وعموم الفلسطينيين على كل الصعد الداخلية والإقليمية والعالمية، وبالفعل كان المشهد مؤلما عندما هاجم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو ومسؤولون إسرائيليون آخرون وأمريكيون خطاب الرئيس الفلسطيني محمود عباس خلال افتتاح دورة المجلس الوطني الذي تطرق فيه للمحرقة، ووصفوه بأنه «معاد للسامية»، حيث اعتبر نتانياهو أن عباس ألقى خطابا آخر معاديا للسامية بتكراره «أسوأ الشعارات المعادية للسامية» على حد قوله!!

كما رأت الخارجية الإسرائيلية أن عباس أطلق تصريحات لا يمكن وصفها سوى بأنها معادية للسامية وإنكار للمحرقة، بتحميله اليهود مسؤولية الهولوكوست وإبادتهم، مع استخدام قوالب نمطية وأساليب لوم مأخوذة من معجم معاداة السامية الكلاسيكي، واعتبرت أنه لا يمكن القبول بقيادة وطنية يحركها مثل هذا الشعور، وأنه «من المؤسف أن رئيس السلطة الفلسطينية يكرر مرة تلو الأخرى هذه التصريحات المعادية للسامية غير المقبولة»، وباشرت إسرائيل حملة تحريض شعواء ضد الرئيس عباس وقدمت شكوى رسمية إلى مجلس الأمن الدولي بشأن تصريحاته، كما طالب داني دانون سفير إسرائيل الدائم لدى الأمم المتحدة في الشكوى التي تقدم بها بـإدانة ما اعتبره «تعليقات معادية للسامية من قبل الرئيس الفلسطيني، وألا يقف مكتوف الأيدي إزاء «إنكار حق إسرائيل في الوجود»!! أما جيسون جرينبلات، مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترمب إلى المنطقة، فقد علّق بالقول «مؤسف ومثير للقلق ومحبط للغاية ولا يمكن بناء السلام على هذا النوع من الأساسات»، كما ندد الاتحاد الأوروبي بتصريحات عباس، معتبرا إياها «غير مقبولة» وقال المتحدث باسم الجهاز الدبلوماسي في الاتحاد الأوروبي: إن الخطاب الذي أدلى به الرئيس الفلسطيني يحمل تصريحات غير مقبولة تتعلق بأصل المحرقة وشرعية إسرائيل، مضيفا إن مثل هذا الخطاب لن يفيد سوى هؤلاء الذين لا يرغبون في حل الدولتين الذي دعا له الرئيس عباس مرارا.

وقد اعتذر الرئيس الفلسطيني عن تصريحاته التي دفعت الدول الغربية إلى اتهامه بمعاداة السامية، وذلك بعدما قال في كلمة له خلال افتتاح أعمال المجلس الوطني: إن الاضطهاد التاريخي لليهود الأوروبيين نجم عن دورهم الاجتماعي المتعلق بعملهم في البنوك والربا، وليس بسبب دينهم.

وأكد عباس، في بيان احترامه للديانة اليهودية وإدانته للمحرقة النازية بقوله: إذا شعر الناس بالإهانة من خطابي أمام المجلس الوطني الفلسطيني، خصوصا من أتباع الديانة اليهودية، فأنا أعتذر لهم وأود أن أؤكد للجميع أنه لم يكن في نيتي القيام بذلك وأنا أؤكد مجددا على احترامي الكامل للدين اليهودي، وكذلك غيره من الأديان السماوية.

وأضاف عباس: أريد أيضا أن أكرر إدانتنا للمحرقة النازية، كونها أشنع جريمة في التاريخ، وأن أعرب عن تعاطفنا مع ضحاياها، كما ندين معاداة السامية بجميع أشكالها، ونؤكد التزامنا بحل الدولتين، والعيش جنبا إلى جنب في سلام وأمن.

ولا شك في عبثية هذا المشهد برمته حيث يتعرض الفلسطينيون أنفسهم لأكثر من «هولوكوست» يومية يموت فيها عشرات الأبرياء ويتم تدمير أراضيهم وتخريب ديارهم وسجن أبنائهم ولا تهتز شعرة واحدة في رأس هذا العالم الذي يكيل بأكثر من مكيال وكذلك تضعف الكثير من أعمال المجلس الفلسطيني ومواقفه وقراراته حيث تعكس هوانا فلسطينيا غير مسبوق!! ولم تكن العجرفة الصهيونية وحدها هي التي خرجت باجتماعات المجلس الوطني الفلسطيني من سياق عمله الطبيعي، بل كانت هناك سهاما أخرى نالت من الجسد الفلسطيني من داخل البيت الفلسطيني ذاته في تعبير صريح عن عمق الخلافات الفلسطينية الداخلية برغم كل خطوات المصالحة بين الفصائل.

فقد شكك رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية بشرعية اجتماعات المجلس الوطني لمنظمة التحرير الفلسطينية قبل سويعات من انعقادها في مدينة رام الله وأعلن أن الحركة لن تلتزم بما سيصدر عنها، مؤكدا أن «حماس ترفض مخرجات اجتماعات المجلس الوطني كونها تتم من دون توافق داخلي وأن أي مجلس وطني لا يحمل بشكل عملي مفهوم الوحدة، هو مجلس لا يعبر عن الكل الوطني، بل يمس بشكل صارخ وحدة الشعب الفلسطيني ويضرب منظمة التحرير وشرعيتها وجدارة تمثيلها لكل الفلسطينيين»على حد قوله، مجددا رفضه مخرجات المجلس الوطني والأطر القيادية التي ستصدر عنه لن تمثل الشعب الفلسطيني ولن يقر أحد لها بذلك، وهي لن تعالج أزمة الشرعية التي تعاني منها القيادة الفلسطينية الحالية، متهما الرئيس محمود عباس بإدارة الوضع الفلسطيني من خلال «تكريس الرغبة في التفرد والإقصاء خاصة في ملف المصالحة والتنصل من تفاهماتها» ورأى أن «عقد المجلس الوطني من دون نصاب وطني وتحت حراب الاحتلال الإسرائيلي يعكس غياب الجدية عند السلطة للاتفاق على برنامج كفاحي لمواجهة هذه المرحلة الدقيقة»، وجدد هنية دعوة حماس إلى عقد انتخابات رئاسية وتشريعية ومجلس وطني فلسطيني فورية لتجديد الشرعيات والبرامج انطلاقا من التمسك بالثوابت الفلسطينية، وقال: إن منظمة التحرير ستظل إن بقيت على هذا الحال تعيش أزمة الشرعية، فلا يعقل أن تكون ممثلا شرعيا ووحيدًا للشعب الفلسطيني من دون أن تضم حركتي حماس والجهاد الإسلامي!؟

وبرغم تهديدات هنية بأن حركته لن تقبل الاستمرار في البقاء في قلب هذه الحلقة المفرغة وستضطر لاتخاذ مواقف واضحة للحفاظ على مصالح الشعب وتمثيله الحقيقي وستعيد موقفها بشأن منظمة التحرير، إلا أن ذلك لم يحل دون تجديد أبو مازن التزامه بأنه لا سلام بدون القدس، العاصمة الأبدية لفلسطين، وأنه لا دولة في غزة ولا دولة بدون غزة، في رسالة تحدٍّ للولايات المتحدة، مرددا بعض الجمل ذات الأهمية المعنوية على غرار «نحن صابرون، وسنصبر وسنفلح، وبالتأكيد واصلون للنصر، وسنحقق الدولة الفلسطينية المستقلة» وانتهت أعمال المجلس في رأي البعض بتكريس الرئيس الفلسطيني محمود عباس نفوذه حيث حصل على شرعية جديدة بانتخابه مرة أخرى من طرف المجلس الوطني الفلسطيني، أعلى هيئة تشريعية فلسطينية، رئيسا للدولة الفلسطينية، ورئيسا كذلك للجنة التنفيذية الجديدة لمنظمة التحرير، ليبدأ حقبة جديدة على رأس السلطة، مجددا «الشرعيات» بالطريقة التي أرادها إلى حد كبير، على الرغم من معارضة فصائل رئيسية، وعبر إعطاء المجلس المركزي الفلسطيني صلاحيات المجلس الوطني، بما يضمن جمعه في أي وقت واتخاذ قرارات أسرع، بخلاف الوطني المعقد، وهي الخطوة التي قرأها كثير من المراقبين على أنها قد تكون نهاية المجلس الوطني للأبد، ولم يغير عباس أيا من توجهاته السياسية على الصعيدين الخارجي والداخلي، لكنه فتح بابا أوسع أمام حركة حماس للانضمام لمنظمة التحرير الفلسطينية، معلنا أنه ترك لـ«حماس» ولـ«الجهاد الإسلامي» و«الجبهة الشعبية» ثلاثة مقاعد في اللجنة التنفيذية الجديدة للمنظمة، التي تكونت من 15 عضوا، بدل 18، وكان عباس قد عرض هذه القائمة للتصويت، وحصل على موافقة شبه جماعية عليها، متجاهلا أصواتا طالبت بإجراء الانتخابات وكانت تنوي الترشح للجنة.

وفي ضوء هذه النتائج والحقائق والظروف التي واكبت انعقاد المجلس وأعماله، ليست مبالغة التأكيد على أن التئام شمل المجلس حقق مكاسب معنوية أو أدبية لن تضيف كثيرا لرصيد القضية ولن تسحب منه كذلك لأن الظروف الإقليمية والدولية لا تلعب على الإطلاق لصالح القضية الفلسطينية، بمعنى أنه لا توجد نتائج إيجابية كبرى لاجتماعات المجلس الفلسطيني، اللهم إلا الحفاظ على الشكل المؤسسي للعمل السياسي الفلسطيني، ولم تكن هناك سلبيات كبرى اللهم إلا إبراز الخلافات الفلسطينية البينية بشكل أكثر وضوحا مرة أخرى، وهو أمر مؤسف بكل تأكيد!