1345729
1345729
روضة الصائم

حارات عُمانية: «صياء».. تتميز بمناظرها الخلابة وبأشجارها الوراقة ومياهها العذبة المتدفقة عبر أفلاجها

26 مايو 2018
26 مايو 2018

«نفوسة حطاط» تسحر الألباب وذكرها العوتبي في الأنساب قبل قرابة ألف عام -

قريات : سعاد السنانية -

«نفوسة حطاط» هكذا كانت تدعى، تشبيها بنفوسة ليبيا الشهيرة والتي كانت زاخرة بأهل العلم والأدب فلا يكاد يخلو بيت من عالم راسخ.

وصياء قرية جميلة من قرى محافظة مسقط، وتقع بين العامرات وقريات وهي من القرى التابعة لولاية قريات، تجاور الجبل الأسود المعروف بارتفاعه الشاهق ووجود بعض الحيوانات النادرة فيه كالوعل العربي والظبي والقنفذ وغيرها، وبعض الأشجار كالبوت والحناء والعتم، وتتفجر منه العيون التي هي شريان الحياة، حيث تتمتع قرية صياء منذ القدم بوفرة المياه التي تنقلها أفلاجها العديدة كالمبغي والشيحاني والمسموم والزبري، وبعضها يمتد لعدة كيلومترات لتسقي بساتينها الغناء، فتجري بين النخيل وأنواع أخرى كثيرة من الأشجار كالرمان والأمبا (المانجو) والفافاي والليمون والنارنج والاستعفل والفرصاد والجوافة والتين والزام وغيرها، إلا أن النخيل بأنواعها الكثيرة تغطي النسبة الأكبر من مساحاتها الخضراء وسيحظى الزائر لها بإراحة النفس ومتعة النظر من خلال مناظرها الجميلة لأنها واحة غناء تسعد الزائر فسبحان من أبدعها في أجمل صورة.

«$»التقت حمد بن سليمان المعولي أحد القاطنين بالقرية ومن المهتمين بالتراث فقد حدثنا قائلا: لقد استوطن الإنسان صياء منذ مئات السنين، وعمّرها وزرع أراضيها مستفيدا من مياهها، ولذلك تجد فيها الكثير من الآثار التي تعود لمئات السنين، فقد ذكرها الكتاب القدامى كالعوتبي في الأنساب قبل قرابة ألف عام.

آثار بعبق الماضي

وقال: صياء ما زالت تحتفظ بعبق الماضي التليد، من خلال الآثار الشاهدة لحصونها الشامخة، وأبراجها العالية، وحاراتها العتيقة، وبيوتها الجميلة، ومساجدها الكثيرة، ومن بينها مساجد العبّاد المتناثرة في أماكن عديدة للمنقطعين للتبتل والاعتكاف، ومن بين الآثار القديمة جدا بقايا حصن الملك الذي قيل بأنه بني قبل الإسلام، ولم يبق منه سوى بعض الحجارة الدالة على وجود تحصين كبيرة بموقع استراتيجي شرق صياء.

حارات تحكي ما أبدعه الأسلاف

أما عن الحارات القديمة بالقرية فقال: أما الحارات التي بقيت ببيوتها الطينية وتحكي أطلالها ما أبدعته يد الأسلاف من بناء مُحكم متراص كخلايا النحل فهي الحصن والحرف والحارة والجهيمية وغيرها، وبعضها يتكون من طابقين، أو طابق مع غرفة علوية، حيث يسمون الغرف إن كانت بالأعلى، أما في الطابق الأسفل فتسمى حجرات، والجميل أنهم يطلقون على كل حجرة منها اسمًا، فقلما تجد غرفة إلا ولها اسم، مثلا: الحجرة الشرقية وهكذا.

وبعض بيوتها بني على صخور ضخمة لتطل على الوادي من جهة، وتعانق الأشجار من جهة أخرى في منظر بديع مهيب، وذلك كبيت البستان التاريخي والذي لا يزال شموخه يسر الناظرين ويحير عقول المتأملين، وقيل بأنه بني في عهد اليعاربة.

وقد تم بناء حارات صياء ببيوتها الرائعة وفق هندسة رائعة، وتصاميم جميلة وفق الطراز الإسلامي العماني، في شكل النوافذ مثلا وارتفاعها، ووجود فتحات تهوية متعددة، والروازن الجميلة في الداخل، ووجود مكتبات في بعضها، مع تقارب البيوت وتلاصقها، ومراعاة القيم الإسلامية في مواضع النوافذ والأبواب والمزاريب وغيرها، حيث لا يكون هناك إيذاء للجار أو كشف لبيته وما شابه ذلك من الأخلاقيات المعروفة في ديننا الحنيف، كما يميزها قربها من البساتين والأفلاج، ووجود المجازة على الفلج، والمجازة عبارة عن غرفة يجتازها الفلج تستخدم للاستحمام، وبعضها خاصة بالنساء ويلحق بها مصلى للصلاة.

كما توجد بجانب تلك الحارات بعض الاستراحات التي تستخدم كمجالس مفتوحة بين ظلال الأشجار، وعلى ضفاف الأودية، وبجوار الأفلاج، يجتمع فيها الناس بشكل يومي، يُحكى سابقا ما كان يتم فيها من مدارسة الكتب وتناشد الأشعار وتناقل الأخبار، مع ما يكون فيها أحيانا من جلسات التشاور أو حلّ القضايا بوجود الوالي والقاضي.

مهن وحرف

وسألناه عن المهن والحرف التي كان يمارسها أهل القرية حيث حدثنا قائلا: مهن أهالي صياء كانت متعددة، فقد كان بعضهم مهندسين معماريين وتدل على مهارتهم الفائقة ما تشهد به الأفلاج التي أبدعوها، والبيوت والحصون التي شيدوها.

ومنهم نسّاجون مبدعون، فقد كانت صياء تحتضن أكثر من 20 معملا للنسيج والتي تسمى محليا بـ (الكارجة) وكان نسيجهم ذا جودة عالية، وقد أهدى العلامة الليبي سليمان باشا الباروني في القرن الماضي عمامة فاخرة لسلطان زنجبار وكتب له بأنها من صنع صياء وذكر أنه بلغه أن صناعتها تروق للسلطان.

ولاة وقضاة ومعلمون وأطباء شعبيون وشعراء، حيث أشرنا سابقا في مقدمة حديثنا بأنها كانت تدعى نفوسة، نظرا لكثرة أهل العلم فيها وعنايتهم بالمعارف وتدارسها، وتعليم القرآن الكريم والعلوم النافعة، لهذا تدرّج بعضهم في المناصب العالية والمراتب الرفيعة، وفي العهود المتأخرة (خلال الدولة البوسعيدية) عُرف منهم عدة ولاة وقضاة.

فلاحون منتجون، وهم الأغلب حيث تشهد الرقعة الخضراء الشاسعة التي وفقهم الله تعالى لزراعتها والعناية بها عبر التاريخ، وكانت صياء ملتقى تجاريًا مهمًا لبيع المحاصيل الزراعية عموما وثمرات النخيل خصوصا.

تجار نشطون، حيث عرفتهم صياء بنشاطهم المتنوع كما عرفتهم مدن أخرى كمطرح وقريات ومدن الشرقية وغيرها، وفي مطرح كانت لبعض أهالي صياء بيوتهم الخاصة التي يقيمون فيها أثناء وجودهم هناك، ولذلك نال أبناؤهم حظا من التعليم في الفترات السابقة التي سبقت عهدنا الزاهر هذا، وكانوا يتاجرون بالمنتوجات الزراعية عموما والتمور خصوصا، كما شملت تجارتهم ما يحتاجه الناس آنذاك من مواد وسلع مختلفة.

وهناك مهن وحرف أخرى برع فيها أهالي صياء منذ القدم، كصناعة السعفيات والحلوى العمانية والصياغة وغيرها.

هذا بعض ما تحكيه جدران الطين في حارات صياء، وتبوح به سككها البديعة، وتنمّ عنه أفلاجها الدفّاقة التي لم يعهد التاريخ لها نضوبًا أو جفافًا بفضل الله تعالى، فادخلها وقل: بسم الله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله.