روضة الصائم

المعــرضون عـــن اللغــــو

24 مايو 2018
24 مايو 2018

أولئك هم الوارثون -

إعداد: حمادة السعيد -

من الصفات التي تورث جنة الخلد وذكرها الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم، وحث عليها رسوله العظيم صلوات الله وسلامه عليه، الإعراض عن اللغو قال تعالى: }وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ{، وفي ختام الآيات قال جل وعلا: }أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ، الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ{ «سورة المؤمنون» وقال تعالى {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ..} سورة القصص»، وقال تعالى في «سورة الفرقان» }وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاما{.

يقول الطيب أحمد حطيبة في تفسيره: «اللغو: هو ما ينبغي أن يُلغى ويُطرح من أقوال وأفعال لا قيمة لها، فهم لا يأبهون لها ولا ينظرون إليها، فالإنسان المؤمن يحافظ على نفسه، ويحافظ على وقته، ويحافظ على أفعاله، ويحافظ على كلماته، فلا يضيع وقته فيما لا ينفعه، أو فيما يأتي من ورائه الضرر، فالمؤمن حريص على وقته، يعلم أن عمره أيام محسوبة، وليال مكتوبة، فهو يخاف أن يضيع عمره في لهو ولعب؛ بل يريد أن ينتهز كل ساعة من ساعات عمره بل وكل لحظة فيما هو طاعة لله، حتى إذا جاء يوم القيامة وجد صحيفته ممتلئة بالأعمال الطيبة العظيمة. فالمؤمن دائما يفكر كيف ينجو يوم القيامة، وكيف يطيع الله سبحانه وتعالى، وكيف يحافظ على وقته في طاعة وفي خشوع وفي عبادة.

ويفسر الدكتور مصطفى العدوي قول الحق تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} قائلا: إن اللغو هو الباطل الذي لا يتصل بفعل صحيح، ولا يكون لقائله فيه فائدة، وربما كان وبالا عليه، ثم ينقسم فيكون منه أن يتكلم الرجل بما لا يعنيه من أمور الناس فيفشي أسرارهم، ويهتك أستارهم، ويذكر أموالهم وأحوالهم ومعاملاتهم من غير حاجة إلى شيء من ذلك عادة، ويكون من الخوض فيما لا يحل من ذكر الفجار والفجور والفساق والفسوق، فخطر اللسان عظيم، فقد يُلقى الإنسان في جهنم والعياذ بالله؛ بسبب كلمة يقولها، وربما يكب على وجهه في جهنم بسبب ما حصده لسانه، فليس هناك أحوج إلى طول حبس من اللسان حتى تكتب السلامة للعبد يوم يلقى الله..

فأهل الإيمان لا يقفون عند اللغو، بل يهجرونه ويتقونه، قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا، وإن من أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيقهون)، يقول الترمذي رحمه الله تعالى: والثرثار: كثير الكلام، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله كره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال)، ويقول عليه الصلاة والسلام: (وهل يكب الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم)، ويقول صلوات الله وسلامه عليه: (إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يهوي بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب)، فصلوات ربي وسلامه على هذا النبي الكريم.

وعلى المسلم أن يقلل الكلام قدر الاستطاعة، لما لكثرة الكلام من خطورة بالغة عليه يوم يلقى ربه، وعليه أن يقتدي بما قاله النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)، ويقول بعض الشراح لهذا الحديث: إن استوى عندك الوجهان في الكلام ولم تدر أفي الكلام خير أم ليس فيه خير لزمك الإمساك؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليقل خيرا أو ليصمت). وأيضا فليعلم أن الكلمات تسطر وتكتب، لقول الله تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}، أي قول حتى المزاح والأنين يكتب.

ولقد كان الإمام أحمد رحمه الله في مرض موته يئن منه أنينا فقيل له: يا إمام! إن طاووسا يقول: إن الأنين يكتب، يعني لقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: }مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ{، فيقول الراوي: فما أنّ الإمام أحمد رحمه الله تعالى حتى مات.

ذكر الله تعالى أن ما يقال يسطر في مواضع أخرى في كتابه الكريم، فيقول رب العزة: }وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَة وَلا كَبِيرَة إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدا{.

ويقول جل وعلا: }وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ{، ويقول تعالى: }وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاما كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ{. فلأن تأتي صحائف أعمالك يوم القيامة نقية بيضاء مسطّرا فيها ذكر الله عز وجل خير لك من أن تأتي صحائفك قد ملئت باللغو واللغط، واغتياب المسلمين والمسلمات.

ويقول الشيخ عبد العزيز رجب من علماء الأزهر الشريف: إن الإسلام أتى للإنسانية في باب تربية الأفراد وتنقيح أفعالهم وتهذيب أخلاقهم بما لا مثيل له، ففتح على المسلم عالما خصبا ممتد الأرجاء مكتمل الجوانب في التكميل النفسي والتطهير الروحي والتزكية الخلقية والتربية البدنية؛ فهو يأتي في جميع هذه الممارسات بأسمى القيم وأفضل المبادئ وأنفع القواعد التي من إحدى خصائصها سهولة تكيّف النفس بها ويسر تطبيقاتها الواقعية، واهتم بالممارسات غير الأخلاقية والعادات السيئة التي لا تأتي للفرد والأمة بخير وصلاح، وتضرهما ضررا بالغا، ومن هذه الممارسات السلبية اللغو: فاللغو بمعناه اليسير يضفي صبغته الممقوتة على جميع صفحات بعض من المسلمين ومعظم جوانب حياة بعضهم الآخر منهم، مع أن المفروض أن يكون أبعد خلق الله من اللغو هم المسلمين؛ لوفرة تلك التعاليم القرآنية الإسلامية الرادعة لهم عن التلبس باللغو إلى درجة أن جعل في المنظور النبوي ترك اللغو شاهدا على حسن إسلام المرء، فعن أبى هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه».

لكن مع الأسف الشديد بلغ الأمر بالمسلمين في التوجه لهذا اللغو البغيض واللهو المقيت إلى حد لا تفرق بين حياة مسلم وغيره في الانعكاسات اللَّغْوية والتظاهرات اللهوية، ولم يقف فُشُوُّ اللغو عند حد الفرد بل وصل إلى مستوى التوجه الجماهيري؛ فمن هنا تراجع المسلمون تراجعا حضاريا مرعبا، فارتبكوا من جراء ذلك في أوحال التخلف والجهالة. ورغم الضربات القاسية التي كانت تتوالى ولا تزال على جسد أمتهم العظمى بين فينة وأخرى لكنهم لم يتنبهوا من غفلتهم، ولم يتجنبوا مواطن ذلهم وخنوعهم لما خدرهم به ذلك التلبس باللغو والممارسة البالغة له، فأورثهم أمراضا لم يعلموها؛ فكان اللغو من أعظم العوامل في ازدياد سباتهم في مراقد غفلتهم وجهالتهم.. فسبحان من جعل الإعراض عن اللغو من صفات ورثة الجنة.