أفكار وآراء

أحاديث ما بعد المعجزة

18 أبريل 2018
18 أبريل 2018

مصباح قطب -

ستظل الصين ولوقت طويل تشاغل عقول الباحثين والسياسيين والاقتصاديين بل والمجموع البشري كله. الصين هي قدر العالم المقبل “شاء من شاء وأبى من أبى” كما هو القول المأثور. الأخبار التي تتدفق طوال الوقت عما يحدث فيها من تطورات وعن علاقاتها بالدول الكبرى أو القارات المختلفة أو هذه المنطقة أو تلك تزيد مساحاتها في الميديا يوما بعد يوم. لا يوجد -على الأقل مما قرأته أو عرفته- من وثق التحولات التي طرأت على توجهات وسياسات وهياكل العمل والتفكير في الدول المختلفة في العالم، بعد أن تيقن الجميع بعد الحرب العالمية الثانية أن الولايات المتحدة الصاعدة هي القوة التي سترث أدوار الامبراطوريات القديمة، وفي وقت لاحق بعد ذلك بعقود (بعد انهيار الاتحاد السوفييتي) هي التي ستقود العالم منفردة، وصولا إلى اللحظة الحالية بكل تعقيداتها. لم يرصد أحد بالدقة المفيدة ماذا حدث في كل وزارة اقتصاد وفي كل وزارة خارجية وفي كل وزارة تعاون دولي وفي كل وزارة ثقافة، وكل مؤسسة إعلامية ضخمة، أو مركز بحثي كان جل خبرة من فيه هي تحليل أعمال وأدوار الامبراطوريات التقليدية لدول الاستعمار القديم وكيفية التعامل معها وفجأة أدرك الجميع أن كل قواعد اللعبة قد تغيرت. الآن ثمة بعض الوقت ولا أقول أنه فات. تستطيع كل جهة أن توثق ماذا يجب أن تعمل من اجل التكيف مع عالم تقوده اقتصاديا وربما سياسيا وعسكريا أيضا الصين بعد اقل من 20 سنة من الآن؟، وكيف تجاوبت وغيرت في الخبرات والموظفين والإدارات ومطابخ السياسات وقواعد العمل والمعلومات إلخ. لن يتحمس قارئ لقراءة مقال يتحدث عن معجزة الصين الاقتصادية منذ اليوم أو ربما منذ الأمس، فقد تخطى ما يحدث في الصين والمرتقب أن يحدث ذلك بكثير.

الحادث في الصين كما يقولون تجاوز منذ سنوات مضت وصف معجزة اقتصادية، حيث تغيرت تماما وتتغير - ربما لحظيا!- النفسيات ونوعية الحياة وطرائق التفكير والعيش والعمل والعمران، والدور السياسي والإنساني للصين، وأصبحت الصين في مقدمة المتطلعين إلى زعامة الاقتصاد العالمي في الذكاء الاصطناعي لغة العصر الذي دخلناه بالفعل ولم تتبلور ملامحه بعد، أو لم تكتمل التصورات عنه وعما يمكن أن يقود إليه.

من أجل كل ذلك لم أتردد إذا دعيت -وحدي كإعلامي لحسن الحظ- منذ أيام إلى حوار شامل بمنتدى البحوث الاقتصادية (للشرق الأوسط وتركيا وإيران) حول مسارات التعاون بين الصين وإفريقيا ومصر في السنوات المقبلة بمشاركة وحضور نخبة من قيادات سفارة الصين بالقاهرة وباحثين وخبراء وأكاديميين ورجال أعمال وصناع قرار، حيث قدم المشاركون فيضا من المعلومات المترابطة والأفكار الجادة والجديدة والتوجهات البازغة والتي بدأت بشائرها في الظهور والمقترحات العملية.

أظهرت النقاشات أن الناتج الصيني المحلي بلغ نحو 11 تريليون دولار ومن المخطط أن يصل إلى 50 تريليون دولار بعد ربع قرن من الآن، وقد أصبحت الصين ومنذ 9 سنوات اكبر شريك تجارى لإفريقيا، وبحجم تجارة بلغ 170 مليار دولار في عام 2017، وبلغ العدد التراكمي للكوادر الإفريقية التي تم تدريبها في الصين نحو 150 ألفا، وتراهن الصين على تعميق العلاقات مع إفريقيا في ضوء تولي مصر رئاسة الاتحاد الإفريقي في 2019 في المقابل ستقوم الحكومة الصينية عبر أجهزتها المعنية في سبتمبر 2018 بوضع الخطة الجديدة للتعاون مع إفريقيا في الثلاث سنوات المقبلة لذا حرصت على إجراء أوسع استطلاعات ودراسات بحثية ممكنة لفتح مسارات جديدة للتعاون ودعم القائم منها والتعرف على أدق تفاصيل ممكنة في واقع واحتمالات اقتصاد كل بلد إفريقي - وربما كل بلد في كل القارات فقد بدا أن الأمر فيه تكليف من قمة القيادة للجهاز الدبلوماسي الصيني كله.

تطرق النقاش إلى ما تحظى به الصين من مكانة في الوقت الراهن لدى قادة وشعوب إفريقيا وحيث العلاقة بين قادة إفريقيا ورئيس الصين ظاهرة محل نظر أطياف العالم كله السياسية وكما هو معروف إن الصين أقامت وربما تواصل إقامة عدد من مقرات الحكم في عديد من دول إفريقيا وأيضا بسبب الشراكة ذات الطابع العادل والأصيل إلى حد معقول وتنوع إشكال التعاون بما يلبي طموحات الأفارقة ويؤكد مكانة الصين ذاتها أيضا كقوى عظمى. لكن الصدق أمانة.. فقد ذكر أحد المتحدثين أن اللغة ستشكل عائقا صعبا أمام قيادة الصين للعالم وكان القدر يعطي ها هنا ويأخذ مما ها هناك، ما يجعل حاجتها للتعاون الثقافي -إلى جانب الاقتصادي بالطبع- مطلوب طول الوقت. فلن يحدث اللهم إلا بعد أجيال وبمعجزة أن تصبح الصينية لغة عالمية كالإنجليزية. أشير أيضا إلى تهاون الصينيين مع غش السياح والى ضعف المعلومات عن الأسواق هناك وعدم إبداء القدر المشجع من التعاون... صحيح أن الصين متفوقة لكن الشباب العربي والمصري ربما بخاصة لديه مهارات تصعب تجاهلها وسيكون مفيدا للطرفين أن يتعاونا في هذا المجال.

طالب المشاركون بأن يشمل التعاون تعزيز وزيادة السياحة الصينية إلى مصر والمنطقة العربية وإفريقيا وتغيير نمط العلاقة ليكون أشمل وأوسع من التبادل التجاري والاستثمار على أهميتهما ليضم أيضا مجالات التعاون في المحافل الدولية الاقتصادية والمالية والجوية والفضائية وإيجاد أدوار أوسع لدول إفريقيا والمنطقة في مشاريع الحزام والطريق، كما تمت مطالبة الجانب الصيني بتقديم خبراته لإنجاز طريق “كيب تاون”- “كايرو” واستكماله وعمل مشروع للنقل النهري من مصب النيل إلى بحيرة فيكتوريا وهما مشروعان حيويان لكل إفريقيا.

وقد اقترح الرئيس السابق للمجلس التصديري للمنسوجات والملابس في مصر مشروعا صينيا يخدم إفريقيا شمالا وجنوبا ويتمثل في نقل مصانع الصين للملابس والمنسوجات إلى إفريقيا وهي المصانع التي بدأت الصين نقلها للخارج بالفعل بعد أن زادت التكاليف هناك وتغير مستوى المعيشة، وأشير إلى استعداد الحكومة ومجتمع الأعمال المصري إلى إقامة مدينة لتلك المصانع في وسط الصعيد أو ربما مدينة أسوان.

يذكر أن الصين تنتج 50 % من الإنتاج العالمي للمنسوجات حاليا وتستحوذ على 40 % من الصادرات.

أشارت دراسات تم عرضها إلى أن أمام الحكومة المصرية الكثير من العمل لتحقيق هدف نقل الموارد من القطاعات الأقل إنتاجية إلى الأعلى إنتاجية وتحسين إنتاجية عوامل الإنتاج وعلى رأسها العمل، وان صادرات مصر من الصناعات كثيفة المعرفة لا تزال قليلة، وهناك حاجة إلى خطة لإصلاح قطاع الأعمال العام وزيادة ائتمان القطاع الخاص. كان المقصود توضيح أن تعميق الإصلاحات في كل دولة عربية أو إفريقية هو الضامن الأكبر لإيجاد مشاركات أقوى مع الصين.

وتم اقتراح إقامة صندوق مصري صيني يعمل في إفريقيا ويركز على التصنيع والاستدامة والدعوة إلى أن يتم نقل خبرة اتفاق تبادل العملات بين كل من البنكين المركزين في مصر والصين إلى بقية دول القارة لتسيير التجارة والاستثمار من جهة وتقليل مخاطر الاعتماد على عملة واحدة مهيمنة من جهة أخرى.

وأشارت الأوراق إلى حاجة دول إفريقيا إلى تنويع القطاعات الجاذبة للاستثمار الأجنبي حتى لا يظل قطاع البترول والمعادن والموارد الطبيعية عموما صاحب النصيب الأكبر منها وحسن “تشبيك” المشاريع الصغيرة بالكبيرة وزيادة قدرة المشاريع الصغيرة على التصدير بالإفادة من تجربة الصين وتعظيم الاستفادة من اتفاقيات التجارة الحرة المبرمة مع التكتلات المختلفة وزيادة تكامل سلاسل القيمة وتقوية التعاون العلمي والبحثي وتبادل الخبرات في مجال مكافحة الفساد وفي شان كيفية عمل التوليف الفعال بين المركزية واللامركزية، والنظر إلى أن إفريقيا كلها ستكون سوقا واحدة في 2060، وإقامة مركز صيني بحثي بالقاهرة وتسهيل التحويلات المالية لتكون مباشرة وسريعة وإضافة مجالات جديدة إلى التدريب وبناء القدرات مثل مجال الإعلام حتى لا تكون قنوات أخرى هي مصدر المعلومات الاقتصادية عن كل من الصين وإفريقيا معا. الكرة الآن في ملعب الجميع.. الصين وشركاؤها معا.