الملف السياسي

مقدمة لانتفاضة شعبية سلمية أم تجلٍ للأزمة الفلسطينية؟

09 أبريل 2018
09 أبريل 2018

د.صلاح ابونار -

في 30 مارس انطلقت الحافلات من قطاع غزة، صوب الحدود الإسرائيلية حاملة آلاف الفلسطينيين، معلنة انطلاق ما دعته فصائل غزة «مسيرة العودة الكبرى».

وتدريجيا اتضح شكل المسيرة: خمسة معسكرات دائمة، تبعد ثلاثمائة متر فقط من الحدود وتنتشر شرقي رفح وخان يونس والمنطقة الوسطى وغزة وبيت حنون، وستمتد لستة أسابيع متوالية حتى 15 مايو: يوم نكبة الفلسطينيين وعيد إسرائيل القومي. وعندما انتهى يومها الأول بستة عشر شهيدا وما يزيد عن ألف جريح، اتضح أن هناك متغيرا جديدا وقويا اقتحم المشهد السياسي الفلسطيني الراكد والمأزوم. وانطلقت التساؤلات: ماهي الدوافع والقوى التي صنعت هذا التحول؟ وماهي السياقات التي تشكلت فيها؟ وماهي مآلاته المحتملة؟ .

كانت المقدمات تتوالى على امتداد مارس. من بدايته انطلق الصحفي مثنى النجار صوب الحدود وهناك نصب خيمة أقام بها لمدة شهر. ثم جاء آخرون وشرعوا في زراعة أشجار الزيتون، في ممارسة ترمز لشوقهم لأرضهم السليبة. وضبطت السلطات الإسرائيلية محاولات للتسلل، تسعى لتجسيد رمزية التواصل مع الأرض، وتخلو من نوايا ممارسة العنف. ولكن هذه المحاولات كانت في حاجة لمناسبة رمزية قادرة على الحشد، وعندما جاء يوم الأرض في 30 مارس انطلقت: مسيرة العودة الكبرى.

تميل التحليلات الإسرائيلية إلى إرجاع الدافع الرئيسي للمسيرة إلى سعي حماس لحل أزمات حكمها، وتراجع شعبيتها داخل القطاع، وتردي الأوضاع الاقتصادية والخدمية، وصراعاتها مع السلطة الوطنية، عبر إطلاق جولة جديدة من الصراع مع إسرائيل. سعيا لإعادة بناء شرعية حكمها، واستيعاب التوترات الداخلية، وفك الحصار من حولها. ولا يخلو هذا التحليل من الصحة، لكنه يمنحنا إجابات متحيزة، ويتجاهل الواقعي والمؤكد لصالح الافتراضي والمحتمل.

ما هي طبيعة تلك الأبعاد الواقعية والمؤكدة؟ يهمنا منها بعدان أساسيان. يمثل البعد الأول امتدادا لتقاليد النضال الفلسطيني، كما تجسدها الاحتفالات الجماعية بيوم الأرض. هذا البعد يمكننا رصده عبر تحليل التناول الإعلامي المباشر لممارسات المعتصمين.

ممارسات إحياء الذاكرة الوطنية، وتأكيد الارتباط بالأرض والتاريخ، وإعادة التأكيد على الروابط الجامعة بين الشتات الفلسطيني، واستلهام خبرات وممارسات يوم الأرض. ولكي نفهم التحليل السابق بدقة يتعين استعادة خبرات هذا اليوم.

ترجع بدايات يوم الأرض إلى إضراب عرب 1948 العام في 30 مارس 1976، اعتراضا على مصادرة إسرائيل لأراضيهم في الجليل الأوسط. ودخل هذا اليوم الذاكرة الفلسطينية، بوصفه رمزا للتمسك بالأرض، وانطلاق صحوة عرب 1948 السياسية بعد تأسيس إسرائيل.

ومن هذا التاريخ تأسست تقاليد حركية، سعت لتأكيد قيمة الارتباط بالأرض والهوية والوحدة عبر الشتات. داخل إسرائيل اطلق الفلسطينيون مسيرتين سنويتين: مسيرة الأرض التي وصلت الآن إلى 42 مسيرة، ومسيرة العودة التي وصل عددها حتى الآن إلى 21 مسيرة.

مسيرات جماعية تتحرك بين القرى العربية المهجورة والمهدمة. وهناك يجددون علاقتهم بالأرض، ويوثقون ما بقي من منازل، ويتذكرون جماعيا تاريخ الأماكن. وينخرطون في ممارسات إحياء جماعي لثقافاتهم القديمة، ويسجلون شهادات من بقي من الأهالي. ولكن خارج فلسطين اتخذ اليوم شكل الاحتفال السياسي والإحياء الثقافي، ولم يمارس المسيرات صوب الحدود إلا عام 2011، عندما تدفق الآلاف إلى الحدود اللبنانية الإسرائيلية، وهناك توقفوا ليوم فقط ينظرون للأرض بشجرها وطيورها.

وسنجد البعد الثاني في الدافع الوطني التحرري في مواجهته للازمة الراهنة للقضية الفلسطينية. وفقا للبيانات الصادرة عن منظمي المسيرة تعني تلك المواجهة، اعتراض مسيرة صفقة القرن، والتأكيد على حق تقرير المصير، والتمسك بالقدس عاصمة للدولة الفلسطينية، وتأكيد حق العودة. وهنا ستظهر مشكلة حقيقية.

تلك الأهداف في حاجة لعمليات سياسية تعبوية اكثر قدرة على الحشد، من عمليات مسيرة العودة. فتلك العمليات في جوهرها ذات طبيعة ثقافية ورمزية، وتحتاج لمدى زمني طويل لممارسة تأثيرها السياسي. بينما يتسم الوضع الراهن بالفوران وسرعة الإيقاع، وبالتالي ضرورة المواجهة السياسية السريعة والمباشرة. فكيف يمكننا فهم هذه المفارقة؟. سنطرح احتمالين للتفسير.

يفيد الأول أن خطة منظمي المسيرة وهم أساسا حماس وحلفاؤها، محصورة فعلا في هذا الاحتجاج الثقافي والرمزي. ويفيد الثاني أن منظمي المسيرة يخططون لتوظيفها، في إطار عملية تعبوية أوسع نطاقا بمراحل من عمليات التعبئة الثقافية.

يستبعد المنطق السياسي الاحتمال الأول؛ حيث يبدو عند رده لنمط تصاعد الأحداث، وحدة الضغط الأمريكي لصالح المشروع الإسرائيلي، والتحالفات الإقليمية الجديدة مع إسرائيل، نوعا من الرفاهية السياسية والاهم لا ينسجم مع التاريخ الصدامي لحماس. وهكذا تبدو كفة الاحتمال الثاني مرجحة. كيف يمكننا فهم هذا الاحتمال؟ ماهي مساراته المتوقعة؟ وماهي حظوظها من النجاح؟

حتى 15 مايو يبدو السياق العام للأزمة زاخرا بعوامل التصعيد. في 17 أبريل سيحل يوم الأسير الفلسطيني، ومن المتوقع أن يحمل معه بدايات لإضراب الأسرى عن الطعام. وفي 12 مايو قد يعلن ترامب رسميا الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران.

وفي 15 مايو سيحل يوم النكبة، وفي نفس اليوم ستنقل السفارة الأمريكية رسميا إلى القدس. وبالتوازي مع ذلك تبدو مؤسسات السلطة في إسرائيل والضفة الغربية مرشحة لتغيرات كبيرة. داخل إسرائيل يواجه نتانياهو ضغوطا قانونية، يرجح أنها ستدفعه للاستقالة ولهذا قد يلجأ لاتخاذ قرارات درامية على الجبهتين الفلسطينية والسورية.

وفي الضفة الغربية تعاني السلطة الوطنية أزمة عميقة. فلقد انتهى رهانها الأساسي على خيار الدولتين، وتشير قياسات الرأي العام إلى تراجع حاد في شعبية الرئيس عباس.

ويعاني عباس من تدهور صحي يدفعه للتقاعد، وأوصله اليأس في الشهور الأخيرة لحالة دفعته في خطاب 19 مارس إلى سب السفير الأمريكي في إسرائيل، ومعاقبه سكان غزة بإعادة فرض العقوبات الاقتصادية عليها في أعقاب محاولة لاغتيال رامي حمد الله في 13 مارس. وفي أوائل مايو سيجتمع المجلس الوطني الفلسطيني، ومن المرجح انه سيشهد ترتيبات تمهد لخلافة عباس ستشعل حرب الخلافة.

يعي منظمو المسيرة هذا السياق المحمل بالصراعات، ويسعون عبر عملهم للمساهمة في تفجيرها. ماهي الأشكال المحتملة لتلك المساهمة؟ هناك احتمال أول يفيد انهم سيكتفون بالاعتصام والتظاهر السلمي الواسع على مدى ستة أسابيع بمحاذاة الحدود، كنوع من الرسالة التحريضية الموجهة إلى بقية الفلسطينيين، مراهنين على أن وقائع مثل إضراب الأسرى ونقل السفارة ستولد الاحتجاجات عبر الضفة الغربية، وتخلق معها تيارا احتجاجيا عاما أو انتفاضة سلمية ثالثة. والاحتمال الثاني أنهم سيحافظون على مسارهم السلمي حتى نقطة زمنية معينة، وعندها يقررون الانتقال لمسار آخر هدفة إطلاق شرارات التفجير. ماهي ملامحه؟ زمنيا يرجح تأخر إطلاقه حتى نهاية أسبوع مايو الثاني، حتى لا تمنح إسرائيل ذريعة لضربة عسكرية مبكرة لغزة.

شكليا لن يأخذ شكل عمليات عسكرية، بل محاولات لاقتحام علني وسلمي للحدود تقوم بها جماعات من المعتصمين، وسترد عليها إسرائيل بعنف مميت. عمليا لن يطلق هذا المسار، إلا بعد التأكد أن احتجاجات الضفة محدودة النطاق، وفي حاجة لمحرك خارجي.

لا يرى المحللون الإسرائيليون سوى الخيار الثاني، ولكن عمليا ليس هناك ما يرجح كفته على الآخر، وسيظل الأمر في النهاية رهينا بمسار الأحداث. ولكن السؤال الأهم: ماهي الاحتمالات الواقعية لانطلاقة انتفاضة شعبية سلمية؟ كل العوامل الموضوعية تدفع لذلك، فالاستيطان في تصاعد، والاقتصاد متدهور، ومعدلات البطالة شديدة الارتفاع.

ولكن الانتفاضات لا تصنعها الظروف الموضوعية فقط، بل أيضا وأساسا الظروف الذاتية. وهنا تظهر المعضلة. في قياس حديث للرأي العام الفلسطيني، سؤال المبعوثين: مع فشل خيار الدولتين ماهو بديلك المفضل؟ اختار 63% الانتفاضة الشعبية السلمية، و49% الانتفاضة المسلحة. وسجلت نسبة الرضا عن مؤسسة الرئاسة 33% فقط، وتراوح رفضهم لعناصر صفقة القرن من 63% إلى 94%.

ولكن في المقابل يشعر الفلسطينيون بالارهاق، ويتذكرون ضخامة خسائر الانتفاضتين، ولا يميلون لخوض ثالثة.

كما فقدوا ثقتهم في مؤسساتهم السياسية. ويرصدون تراجع مساندة النظم العربية، وانكفاء الجماهير العربية على أزماتها.

وهو ما يعني انه حتى في حالة انطلاق انتفاضة شعبية سلمية واسعة، لن تجد الأبنية والهياكل التي تمكنها من الاستمرار، لفترة كافية لتعديل جذري لوضعهم الراهن.