أفكار وآراء

التسمم الإخباري !

08 أبريل 2018
08 أبريل 2018

أ.د. حسني نصر -

هل حدث وذهبت مرة إلى الطبيب تشكو من عارض صحي، واكتشف أن أساس مرضك نفسي، ثم نصحك بالتوقف عن متابعة الأخبار لأن هذه المتابعة ضارة بصحتك؟

في عالمنا العربي المتوتر والمزدحم بالخلافات والصراعات والحروب والكوارث الإنسانية لا يمكنك أن تجلس أمام نشرة أخبار تلفزيونية دون أن تشعر بالقلق والاكتئاب وربما الخوف والغضب، وكلها مشاعر تؤثر علينا وتحرمنا النوم أحيانا، وتجعلنا غير قادرين على التفكير الصحيح. لذلك لم يعد غريبا أن تسمع من كثيرين من أصدقائك أو أقاربك أنهم توقفوا عن متابعة الأخبار أو قللوا من التعرض لها، للحفاظ على سلامتهم النفسية والعقلية، وأنهم أصبحوا اكثر استقرارا وسعادة بعد أن اقلعوا عن هذه العادة السيئة.

في العقود الماضية كان العالم يتحدث عن خطورة الإسراف في تناول الطعام والآثار غير الصحية المترتبة على ذلك، مثل الإصابة بالسمنة والسكري وأمراض القلب والعظام وغيرها، ثم ظهرت الدعوات إلى ضرورة تغيير عاداتنا واتباع حمية غذائية «ريجيم»، تتضمن الامتناع عن تناول أنواع متعددة من الأطعمة وخفض كميات الطعام بشكل كبير. وبعد الانفجار المعلوماتي الذي أحدثته الإنترنت ووسائل الإعلام الجديدة إلى جانب تعدد وسائل الإعلام التقليدية أصبحت التخمة المعلوماتية والإخبارية خطيرة مثل التخمة الغذائية. ومن هنا وجب التنبيه من خطورة الإسراف في استهلاك الأخبار على العقل التي أصبحت تماثل خطورة الإسراف في استهلاك السكر أو الملح أو المشروبات الغازية على الجسم. وللدلالة علي خطورة الإفراط في التعرض للأخبار نشرت صحيفة الجارديان البريطانية، الجمعة الماضية، مقتطفات من كتاب « فن التفكير بشكل واضح: تفكير أفضل ، قرارات أفضل» للكاتب رولف دوبللي، والذي نجح في الإقلاع عن قراءة الأخبار أو سماعها أو مشاهدتها لمدة أربع سنوات، ووصف ما يحدث لعقولنا نتيجة الاستهلاك الزائد عن الحد للأخبار بالتسمم الإخباري، الذي ينتشر ببطء داخل عقولنا ويؤثر سلبا على صحتنا البدنية والنفسية.

وتقوم فكرة التسمم الإخباري على فرضية أن التعرض للأخبار التي تثير الخوف والذعر والغضب والإحباط والحسد، وما أكثرها في وسائل الإعلام، يحفز باستمرار المخ الانفعالي، أو ما يطلق عليه الجهاز الحافي أو الفص الخامس في المخ، وهو المسؤول عن الوظائف الانفعالية في جسم الإنسان، ويتحكم في انفعالاتنا ومشاعرنا ودوافعنا وسلوكنا، مما يؤدي إلى زيادة إفراز الكورتيزون، وهو ما يؤدي إلى حدوث خلل في نظام المناعة، ويتسبب في الإصابة بأمراض سوء الهضم، وضعف نمو الخلايا ونمو الشعر والعظام بالإضافة إلى الإصابة بالعصبية وزيادة القابلية للإصابة بالأمراض. وبعبارة أخرى فإن الجسم نتيجة التعرض لهذه الأخبار يجد نفسه في حالة قلق مزمنة يرافقها زيادة في مشاعر الخوف والعدائية والاكتئاب، واختلال الرؤية وتحجر العواطف.

وتشير الدراسات في هذا المجال إلى أن الاستهلاك الزائد للأخبار يحد من قدرتنا على التفكير، لأن التفكير يحتاج إلى تركيز. ويشبه دوبللي الأخبار بالفيروسات التي تسرق الانتباه لكي تتسلل إلى عقولنا، ولذلك فإن الأخبار تجعلنا مفكرين سطحيين. والأخطر من ذلك أن الأخبار تؤثر بقوة على الذاكرة. فلكي نفهم الخبر فإنه يجب أن يمر من الذاكرة المؤقتة قصيرة المدى التي تختزن كمية محدودة من المعلومات إلى الذاكرة الدائمة طويلة المدى، وإذا تم تعطيل هذا المرور بسبب تلاحق الأخبار فإن الذاكرة الدائمة قد لا تحتفظ بشيء. ويبدو التأثير على الذاكرة أسوأ في الأخبار التي نطالعها علي المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، إذ أكدت دراسة قام بها باحثان في كندا أن فهم الأفراد للأخبار ينخفض كلما زاد عدد الروابط التشعبية في القصة الخبرية، لأنه كلما ظهر رابط يكون على العقل أن يختار بين استخدامه أو عدم استخدامه، وهذا في حد ذاته يشتت الانتباه ويضعف الذاكرة.

من أين تأتي خطورة الإسراف في التعرض للأخبار التي تزودنا بها وسائل الإعلام على مدار الساعة؟ الواقع أن الدعوة إلى «الريجيم» الإخباري تستند إلى عدد من المسلمات والحقائق التي يمكن التأكد من صحتها بالتطبيق على انفسنا أو المحيطين بنا. أولى هذه المسلمات أن الأخبار اليومية تأتينا ملخصة وتغذينا بها وسائل الإعلام في جرعات صغيرة ومعظمها لا يتعلق بحياتنا وإنما بحوادث أشخاص آخرين ومجتمعات أخرى، وبالتالي فإنها لا تتطلب منا التفكير العميق مثلما الحال في قراءة الكتب. ومع الاستمرار في عادة التعرض الكثيف للأخبار تنخفض قدراتنا الذاتية على التفكير العميق في الأحداث والقضايا ونصبح أسرى لقائمة الأولويات التي تريد وسائل الإعلام ومن يملكونها أن نحصر اهتمامنا فيها. ولكي نستعيد قدرتنا على التفكير يجب أن نتوقف عن الاستهلاك الكثيف للأخبار أو التوقف عن متابعة الأخبار لفترة من الزمن. ولعل ما يؤكد أن الأخبار التي نتعرض لها غير ذات صلة بمصالحنا الشخصية أننا من النادر أن نجد شخصا يزعم أن قراءته للأخبار جعلته يتخذ القرار الصحيح في أمر ما يؤثر على حياته أو عمله. وعلى هذا يمكن القول إن استهلاك الأخبار بكثافة لا يضيف ميزة شخصية لنا، ولا يحقق لنا النجاح في حياتنا وأعمالنا، وإلا كان الصحفيون الأكثر نجاحا في العالم.

المسلمة الثانية التي يستند إليها أنصار الدعوة إلى الحد من استهلاك الأخبار، هي أن الأخبار التي تنشرها الصحف ومحطات التلفزيون وغيرها من وسائل الإعلام لا تعبر بصدق عما يحدث في العالم، وبالتالي فإن الحقائق الجزئية التي تقدمها لنا لا تساعدنا على فهم العالم الذي نعيش فيه، بل على العكس فإن العلاقة بين التدفق الإخباري وبين فهم العالم تبدو عكسية. وعلى هذا الأساس كلما زاد استهلاكنا للأخبار كلما غابت عن عقولنا الصورة الكلية التي نستطيع من خلالها فهم ما يجري في العالم. ويرتبط بهذه الحقيقة أن التدفق الإخباري الذي نتعرض له هو المسؤول الأول عن الأخطاء المعرفية والإدراكية التي نقع فيها، بسبب أن عقولنا تميل إلى قراءة قصص «منطقية» ، حتى وإن كانت لا تتوافق مع الواقع.

إن الدعوة إلى اتباع حمية إخبارية، إن جاز التعبير، أصبح لها ما يبررها، كما أن لها مناصرين حتى بين الصحفيين وأساتذة الصحافة، وهي صيحة تحذير تكتسب أهميتها في هذا العصر الذي تعددت فيه المنافذ الإعلامية والإخبارية، وتضاربت تقاريرها حتى عن الحدث الواحد، واختلط فيه الحابل بالنابل. صحيح أن البعض قد يتخوف من تأثير مثل هذه الدعوات على مهنة الصحافة وعلى تعددية وسائل الإعلام، ولكن من الضروري أن نشارك العالم إطلاق صيحة التحذير من الإفراط في استهلاك الأخبار ومن التسمم الإخباري الذي أصبح يؤثر بالفعل على صحتنا النفسية والعقلية، وكذلك على قدراتنا على التفكير والإبداع، كما أنه من الضروري أن تبحث الصحافة عن مداخل أخرى أكثر عمقا لرواية القصص وتقديم الحقائق مثل الصحافة الاستقصائية والمقالات المتعمقة.