1281481
1281481
إشراقات

كيف يجعل المسلــــم عبادته لله؟

22 مارس 2018
22 مارس 2018

الانطلاق من معارف التوحيد -

هلال بن علي اللواتي -

إن من أهم أدوار «خلفاء الله تعالى» بيان إمكانية الجمع بين العبادة والعمل، وبين الحياة الدينية والحياة الاجتماعية بكل سهولة، ومن علل ذلك البيان هو إثبات وقوع الضرر الكبير فيما إذا فصلت الحياة الاجتماعية عن المعارف التوحيدية، لأنها هي الوحيدة الضامنة لإزالة الملل واليأس والضامنة لتجديد الحياة والنشاط بكل سهولة».

محور حركة الإنسان هو ذاته الإنسان، وهي محور نشاطه وتفاعله وحيويته، فإذا أهملها ولم يتعامل معها بالشكل الصحيح فإنه سيصاب بالملل واليأس ربما، كل هذا يعتمد على كيفية تعامل الإنسان مع ذاته، وماهية العناصر الأساسية التي ينبغي الاعتماد عليها، فهذا ما ينبغي على المرء أن يسعى بجهد لمعرفته، فإنه إذا ما عرفها استطاع أن يجعل حياته كلها في حركة ونشاط دائبين، ولابتعد عنه الملل بعيدا.

إن الخلل الأساسي الذي يعاني منه الكثير من الناس هو عدم التزود بالمعارف التي تشبع احتياجهم الذاتي، وتلبي ذواتهم التي صممت على تركيبة خاصة منذ أولى مراحل خلقتهم، ومن الطبيعي أنه إذا زود الإنسان بمعلومات لا تتوافق مع طبيعته الخلقية فإنه وإن يفرح في بداية الأمر بها، ولربما تعتريه نشوة لا يستطيع وصفها، إلا أنه سرعان ما يعود شعوره بالملل، والوحشة لما حوله.

ولو قارنا حياة الكمل من العباد الذين كانوا لا تفارقهم السعادة الحقيقية والنشاط الدؤوب، وكانوا كلما تقدم بهم الزمن تجدهم على نشاطهم وكأنهم شباب وفتية، وكانت الأفكار المستجدة ترد خواطرهم وعقولهم وأذهانهم، فهم كانوا حقا مجددين وبشكل مستمر، وهؤلاء كانوا يتجاوزون الزمان والمكان والنوع البشري في عصورهم بمسافات زمنية تمتد لربما إلى قرون طويلة جدا، وتعتريك الدهشة مما يحملونه من أفكار إبداعية رائعة جميلة تناغم العقل البشري، وتتفاعل مع الوجدان الإنساني، وتلهم الأمم والشعوب بأفكار مبدعة في التنمية والتطوير الاجتماعي على كافة الأصعدة الحياتية، أجل هؤلاء كانوا «خلفاء الله تبارك وتعالى» في أرضه.

ولما كنا نريد سبر غور أفكارهم وشخصياتهم للوقوف على العلة التي تقف وراء هذا النشاط الجبار والعظيم والجميل في حياتهم لوجدناها تتمحور حول العنصر النشط الوجودي، وهو: «التوحيد».

ولما كان هؤلاء ينطلقون من معارف التوحيد في بعدها العلمي والنظري، بل إنها انطلاقة من المعارف التوحيدية العملية التي نتيجتها الوقوف على «حقائق الأشياء»، وهي ما يعرفها القرآن الكريم بــ«عالم الملكوت»، وهذا العالم لا يعرف في مفرداته الجمود والانكفاء على وتيرة واحدة، بل هو عالم مرتبط بالله تعالى الذي هو «كل يوم في شأن»، والذي يتعرف على مثل تلكم العوامل ليرى كل شيء متجددا حيويا نشطا، ويدرك فائدتها العملية والعلمية في حياته الفردية والاجتماعية على حد سواء، إذ من طبيعة الحصول على ثمار تلكم العوالم بشكل صحيح أن يعرف كيف يفعل معارف التوحيد في عمله ووظيفته، في الشارع، في الأسرة، في رحلاته، في شرائه لأغراض المنزل، أو للكماليات، بين الأصدقاء، فأعظم ثمار معارف التوحيد تكمن في الحياة الاجتماعية الصحية، ويبدأ تفاعل هذا التعامل الاجتماعي مع معارف التوحيد العملي ليرتقي المرء إلى سلم درجات العروج إلى الله تعالى.

إن كثيرا من الناس - مما يؤسف له - لا يعرف كيف يملأ الفراغ الموجود بين معارف القرآن الكريم وبين حياته الاجتماعية والعملية؛ لذا يظن أن بينهما بونا شاسعا، بل لربما لا يلتقيان، فيتعامل مع الدين معاملة الطقوس الفارغة من محتواها الاجتماعي، ولا يستطيع أن يستحضر مفردات معارف الدين في حياته الفردية والاجتماعية؛ لذا يصيبه بين فينة وأخرى الملل واليأس لربما.

إن من أهم أدوار «خلفاء الله تعالى» بيان إمكانية الجمع بين العبادة والعمل، وبين الحياة الدينية والحياة الاجتماعية بكل سهولة، ومن علل ذلك البيان هو إثبات وقوع الضرر الكبير فيما إذا فصلت الحياة الاجتماعية عن المعارف التوحيدية؛ لأنها هي الوحيدة الضامنة لإزالة الملل واليأس والضامنة لتجديد الحياة والنشاط بكل سهولة.

إذن .. فإن ما يعتمد عليه كل ذلك هو: «معرفة الله تعالى» المعرفة الصحيحة التي تجد لها تفاعلا ووجودا في الحياة الفردية والاجتماعية، وهي الحياة التي لا تنفصل عن كل مفردة من مفردات الحياة، ومع قليل من التأمل سنجد أن أهم ما يمكن الوقوف عليه في معارف التوحيد هو: «حب الله» تبارك وتعالى، إذ إن هذا الحب في الحقيقة يوقف الإنسان على جماليات الوجود، جماليات الخلقة، وروعة وإبداع الكائنات، فإذا نظر العبد إلى هذا الجمال وروعته فإنه يتعلق قلبه بخالقه، ومن ثم يبدأ البحث عنه وعن صفاته وأسمائه المباركة، وبعد أن يقف على جماليات الخالق عندها سيأتي إلى العبادات بنفس مشتاقة بل وكأنها فاقد لشيء، وعندما يحين وقت العبادة تجد نفسها وتجد روعة ما تبحث عنه، ولعل هذا ما نجده في كلمات رسول الله صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين: «أرحنا يا بلال»، فكم هو فرق بين هذه المقولة تصدر من النبي صلى الله عليه وآله الطاهرين وأصحابه المنتجبين وبين البعض منا وهو يقبل إلى الصلاة متكاسلا، أجل .. العلة تكمن في «معرفة الله» تعالى معرفة حقيقية.

 

البعد عن الجمود وما يصيب النفس بالملل -

علاء كمال اللبودي - إمام جامع الملدة بالمصنعة -

«بالتنوع في العبادة يستطيع المسلم أن يجعل حياته كلها عبادة لله تعالى، فيصدق فيه حينئذ قول الله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

وفي التنوع بيان عدل الشريعة الإسلامية في إعطاء كل ذي حق حقه من النفس والأولاد والأزواج بعد حق الله تعالى.

وفيه أيضا أن التعبد لله تعالى يكون براحة النفس؛ لأن العبد إذا أثقل على نفسه مل وتعب، وربما أضاع حقوقا كثيرة.

ومن ذلك (البعد عن تكليف النفس ما لا تطيق من العبادة) ومما يبعث في النفس الأمل ويصرف عنها الملل والكسل ألا يكلف المسلم نفسه ما لا يطيق من العبادة، بل عليه أن يسلك طريق الوسطية بعيدا عن الإفراط والتفريط والغلو، مقتديا في ذلك بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم».

فإن الله تعالى خلقنا بقدرته، وجعل الغاية والهدف من ذلك: هو أن نعبده وحده لا شريك له قال سبحانه: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين).

والعبادة التي من أجلها خلقنا الله تعالى هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة (كالخوف من الله، والتوكل عليه، والاستعانة به) والظاهرة (كالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وغير ذلك).

كما أنها تعني أيضا: طاعة الله المتمثلة بامتثال ما أمر به، وأخبر به عنه الرسل والأنبياء.

فالعبادة إذن هي الغاية المحبوبة لله سبحانه وتعالى التي بسببها خلق الله الخلق وأوجدهم لأجلها (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ولأجلها وبمضمونها أرسل الرسل، وبها بلغوا عن الله، فقد كان قول الأنبياء والرسل جميعا إلى أقوامهم يتلخص في آية واحدة هي قوله سبحانه: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره).

ولكي تكون عبادة المسلم لله عز وجل فإنه يشترط لها شرطان رئيسيان هما: الإخلاص والموافقة.

فالأول الإخلاص: وهو الأساس الذي بنيت عليه دعوة الأنبياء والرسل لجميع من بعثوا إليهم دون استثناء، قال تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ...) وقال سبحانه: (فاعبد الله مخلصا له الدين ألا لله الدين الخالص).

وأفضل ما يحقق الإخلاص في العبادة هو النية الصالحة، فكل عمل يحتاج إلى نية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ...).

بل إن النية الصالحة تجعل العادة عبادة، فمثلا: الأكل والشرب والنوم عادة، ولكن إذا وجدت نية صالحة مع هذه العادة بأن نويت التقوي بها على الطاعة، أصبحت عبادة لله تعالى.

وأما الثاني فالموافقة؛ فحتى تكون عبادة المسلم لله تعالى، فلا بد لها بعد الإخلاص من الموافقة، بمعنى: أن توافق العبادة شرع الله تعالى الذي جاء به الوحي عن طريق الكتاب والسنة المنقولة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قال تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ...)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد).

وحتى لا تكون العبادة جامدة تصيب النفس بالسآمة والملل، فإن الإسلام سلك طرقا تبعث في النفس الانشراح والأمل، ومن ذلك (تنوع العبادة)، فمن سمات الإسلام ويسره تنوع العبادات فيه، وهذا يبعث في النفس النشاط عند القيام بالعبادة ويدفع عنها السآمة، فلا تشعر بالمشقة ولا بالملل.

فتنوع العبادة رحمة من الله تعالى بنا تجعلنا ننتقل من عبادة إلى عبادة، وقد نمزج بين نوعين أو أكثر من العبادات في الوقت ذاته، فمثلا: ترى أحدنا صائما ويصلي، أو صائما ويزكي ويتصدق ويصل رحمه، ويعود مريضا، ويعاون محتاجا، ويذكر ربه بقراءة القرآن وسائر الأذكار، ولا يتنافى هذا مع ذاك، بل يقويه ويبعث في نفس صاحبه النشاط.

وبهذا التنوع في العبادة يستطيع المسلم أن يجعل حياته كلها عبادة لله تعالى، فيصدق فيه حينئذ قول الله تعالى: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين).

ومما يؤكد لنا أن تنوع العبادة يطرد عن النفس الملل والسآمة قصة الصحابي الجليل حنظلة الأسيدي رضي الله عنه؛ فعن حنظلة قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال قلت: نافق حنظلة. قال سبحان الله ما تقول!؟ قال قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كثيرا. قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا؟ فانطلقت أنا وأبو بكر، حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: نافق حنظلة يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما ذاك؟ - وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ما قاله لأبي بكر - فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر، لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة، ثلاث مرات). ومعنى ساعة وساعة: أي ساعة في الحضور والذكر، وساعة في معافسة الأزواج والأولاد والضيعات؛ والتكرار للتأكيد على التنوع.

وفيه بيان عدل الشريعة الإسلامية في إعطاء كل ذي حق حقه من النفس والأولاد والأزواج بعد حق الله تعالى.

وفيه أيضا: أن التعبد لله تعالى يكون براحة النفس؛ لأن العبد إذا أثقل على نفسه مل وتعب، وربما أضاع حقوقا كثيرة.

ومن ذلك أيضا (البعد عن تكليف النفس ما لا تطيق من العبادة)، ومما يبعث في النفس الأمل ويصرف عنها الملل والكسل ألا يكلف المسلم نفسه ما لا يطيق من العبادة، بل عليه أن يسلك طريق الوسطية بعيدا عن الإفراط والتفريط والغلو، مقتديا في ذلك بسيد الخلق صلى الله عليه وسلم.

فعن أنس رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالُوها (أي عدوها قليلة)، فقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا؛ فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني).

أي من أعرض عن نهجي وطريقتي فهو بعيد كل البعد عن متابعته صلى الله عليه وسلم.

كذلك (حرص المسلم على التعبد لله تعالى بما يقوي روحه وتستمد منه الأمل والصبر) فأفضل ما يعين المسلم على ذلك هو قيام الليل، فهو يبعث في النفس النشاط والانشراح، فيكون بمثابة طاقة روحية تحرك النفس نحو الخير وتصرفها عن الشر، ففي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، وقربة لكم إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، وتكفير للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد).

وقال صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة منها عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان).

.. وأفضل العبادة لله هي عبادة الوقت، كيف ذلك؟ والجواب: يقول العلماء إن لكل وقت عبادة، أي أن أفضل العبادة: العمل على مرضاة الله تعالى في كل وقت بما يقتضي ذلك الوقت ووظيفته: فالأفضل مثلا في وقت السحر الاشتغال بالدعاء والاستغفار، قال تعالى: (وبالأسحار هم يستغفرون).

والأفضل في أوقات الأذان الاشتغال بإجابة المؤذن، ففي الحديث (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول).

والأفضل في أوقات الصلوات الخمس الاجتهاد في إتمامها على أكمل وجه، والمبادرة إليها في أول الوقت، قال تعالى: (إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا).

فالأفضل في كل وقت وحال إيثار مرضاة الله في ذلك الوقت والحال، والاشتغال بما يقتضيه ذلك الوقت والحال.

وفي الختام أذكر بحديث سيد الأنام عليه الصلاة والسلام: (الدعاء هو العبادة)، فالدعاء يدفع البلاء، ويرد القضاء، وبه تفتح المغاليق، ويتقرب به العبد من الرحيم الرحمن.

فاللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.