الملف السياسي

... في الطريق إلى المؤتمر الوطني

19 مارس 2018
19 مارس 2018

د.صلاح أبونار -

خلال الفترة من نوفمبر 2017 إلى 15 مارس 2018، تصاعدت جهود تشكيل «الرؤية المستقبلية: عمان 2040». في 8 نوفمبر انعقد الاجتماع الخامس للجنة الرئيسية للرؤية المستقبلية، وتلاه السادس في 10 ديسمبر، والسابع في 5 مارس 2018.

وبالتوازي مع ذلك انعقد «ملتقى استشراف المستقبل» في 6 و7 ديسمبر، وتلاه اجتماعات حلقات عمل سيناريوهات المستقبل في 12 و13 ديسمبر، ثم اجتماعات حلقات عمل الرؤية في 12 و15 مارس. وبتحليل هذا التصاعد يمكننا الخروج بنتيجتين. الأولى أن عملية تشكيل الرؤية تسير بنجاح وفقًا لجدولها المرسوم، والثاني أن العد التنازلي للصياغة الأخيرة للوثيقة قد انطلق، ومعه الإعداد للمؤتمر الوطني العماني المقرر انعقاده في الربع الأخير من 2018.

انطلقت المسيرة في 30 ديسمبر 2013، أي نهاية العام الثاني من الخطة الخمسية الثامنة 2011 – 2015، بصدور الأمر السامي بتكوين اللجنة الرئيسية لرؤية عمان 2040، والتوجيهات الحكيمة المصاحبة له .وعلي امتداد السنوات التالية انتظمت جهود صياغة الاستراتيجية عبر تيارين. تيار أول كانت له مقدماته، يسعى لتكوين استراتيجيات مستقبلية تخص قطاعات اجتماعية وإنتاجية معينة، عبر مزيج من الجهد الذاتي والتعاون مع هيئات دولية وفرق خبراء. وسينتج هذا التيار مجموعه وثائق مهمة، يرتبط أغلبها بوثائق أخري تمهيدية ومساندة، ويتفرع منها مبادرات لسياسات تنفيذية.والنماذج الأبرز: الاستراتيجية الوطنية للتنمية العمرانية 2014، والاستراتيجية الوطنية للتعليم 2014، ورؤية احتياجات القطاع الصحي حتى عام 2050 الصادرة عام 2014 بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية، والاستراتيجية الوطنية للطاقة 2015، واستراتيجية تنمية الثروة السمكية 2015 بالتعاون مع البنك الدولي، والبرنامج الوطني للتنويع الاقتصادي (تنفيذ) 2016 المصاحب للخطة الخمسية التاسعة، والاستراتيجية الوطنية للابتكار 2017.

وسنجد التيار الثاني في العمل المباشر لصياغة رؤية 2040 ذاتها. انطلقت مسيرة هذا العمل المنظم مهتدية بعدة مرجعيات. أولها مرجعية الواقع نفسه. الواقع بمعنى: المطالب الاجتماعية والمتطلبات التنموية، وحدود الموارد المتاحة، وضرورة المشاركة الجماعية في تشكيلها ضمانا لأكبر قدر من الرشاد والإجماع. وثانيها نتائج استراتيجية التنموية «عمان 2020» التي امتدت لربع قرن، وبالتحديد خطتها الخمسية التاسعة والأخيرة. وثالثها الأطر الاستراتيجية القطاعية السابقة، عبر دمجها وتنقية مكوناتها واستكمالها في إطار رؤية واحدة متكاملة. ورابعها المعايير والتجارب التنموية الدولية، كما تجسدها أهداف التنمية المستدامة 2030 الصادرة عن الأمم المتحدة، والتجارب التنموية المعاصرة، ومؤشرات التنمية الدولية المقارنة مثل مؤشرات التنمية الإنسانية والتنافسية والابتكار والشفافية والحوكمة.

وتأسيسا على ذلك اتجهت جهود تشكيل الاستراتيجية عبر ثلاثة محاور. يتعلق الأول بالإنسان والمجتمع، ويتكون من ثلاث ركائز. ركيزة تعزيز الرفاه الاجتماعي، الهادفة تحقيق العدل والمساواة بين أفراد المجتمع، وتوفير إمكانيات الازدهار الإنساني المتوازن للمواطنين. وركيزة المحافظة علي الهوية العمانية، بوصفها القاعدة الثقافية للنهضة، وإطار التعامل مع التدفقات الثقافية الخارجية. وركيزة تطوير كفاءات وقدرات الموطنين، عبر إكسابهم المهارات الضرورية لمواجهه تحديات المستقبل، وتسليحهم بالانتماء الوطني وإرادة البناء.

ويتعلق المحور الثاني بالاقتصاد والتنمية، ويتكون من أربع ركائز. ركيزة بناء اقتصاد أكثر تنوعا، يحتل فيه القطاع الخاص مكانة أساسية، ويمتلك الخصائص التي تمكنه من التعامل مع معطيات السوق العالمي.وركيزة التنمية المتوازنة بين المحافظات، الساعية لتخطي الفجوات التنموية بينها، والاستغلال الأمثل لموارد كل منطقة. وركيزة استدامة البيئة، عبر حماية الموارد الطبيعية والاستخدام الآمن لها. وركيزة استكمال إنشاء وتحديث البنية الأساسية، سواء المتصلة بالمجال الاقتصادي مثل: التسهيلات اللوجيستية، أوالمتصلة بالحياة اليومية مثل المرافق العامة والمدن الملائمة للعيش.

ويتعلق المحور الثالث بالحوكمة والأداء المؤسسي وسيادة القانون، ويتكون من الركائز التالية. ركيزة تعزيز فعالية الحوكمة وسيادة القانون، وركيزة رفع كفاءة الأجهزة الحكومية وتعزيز ثقة المواطنين بها. وركيزة ترسيخ الإطار المؤسسي الحكومي، عبر تطوير وتفعيل القوانين والممارسات، وإيجاد نظام مسائلة فاعل وشفاف، وتبني توزيع أمثل للموارد.

انطلقت جهود العمل المنظم لبناء الرؤية من تصور متكامل يستهدي بعدة قواعد. أول تلك القواعد: التدرج المنهجي في البناء. تدرج يقوم على تقسيم مرحلي للمهام، وفقا لجدول زمني واضح. عبر خطوات متصاعدة، تنطلق كل خطوة من السابقة عليها، وتؤسس للتالية عليها. وثانيها مأسسة عملية بناء الرؤية.

وتعني المأسسة هنا اعتماد جملة من المؤسسات، تنظم علاقاتها عبر قاعدتي التراتبية والاختصاص الوظيفي. على رأس تلك المؤسسات سنجد اللجنة الرئيسية للرؤية، برئاسة صاحب السمو السيد هيثم بن طارق آل سعيد. وبعدها اللجنة الفنية للرؤية، ثم الفريق التنفيذي ولجانه الفرعية: لجنة الإنسان والمجتمع، ولجنة الاقتصاد والتنمية، ولجنة الأولويات الوطنية وموائمة الاستراتيجيات، ولجنة التنظيم والمتابعة، وفريق الإعداد للمؤتمر الوطني. ومكتب الرؤية المتولي لمهمة تنظيم وتقديم الدعم الفني والإداري.

وثالثها التشاركية عبر ضمان أوسع مشاركة اجتماعية، في تشكيل وصياغة ومراجعة وإقرار الرؤية. سنجد التشاركية على عدة مستويات. سنجدها في تكوين اللجان الفرعية التابعة للفريق التنفيذي، التي يشارك فيها اكثر من مائة عضو يمثلون جهات مختلفة وفئات المجتمع. وسنجدها في سلسلة المبادرات الاتصالية المستهدفة لقطاعات اجتماعية ومهنية معينة، مثل مبادرة كل عمان المتجهة للمجتمعات المحلية، ومبادرة حاضنة الإبداع الشبابي، ومبادرة حوار رجال الأعمال. وسنجدها أيضا في الملتقيات الحوارية الموسعة، مثل ملتقي استشراف المستقبل وورش عمل الرؤية والمختبرات الافتراضية.

وستصل تلك المشاركة إلى ذروتها مع انعقاد المؤتمر الوطني في الربع الأخير من 2018، الذي سيمثل أوسع مناقشة اجتماعية عامة لها بعد اكتمالها، والسابقة على رفعها إلى صاحب الجلالة للنظر والمراجعة والإقرار النهائي لها.

في 2016 أصدر المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، دراسته «سيناريوهات النمو السكاني ومتطلبات التنمية المستدامة حتى عام 2040». تفيدنا هذه الدراسة في تحويل مساحة، من مهام محاور الرؤية تتصل بالتنمية الإنسانية، إلى أهداف ملموسة معروضة عبر معايير كمية. وعبر تلك الصيغة الكمية تخبرنا الدراسة بضخامة المهام، التي يتعين على خطط الرؤية تحقيقها حتى عام 2040.

انطلقت الدراسة من ستة سيناريوهات للنمو السكاني، سنكتفي بالأخير منها. وفقا لهذا السيناريو سيصل سكان عمان إلى 8.17 مليون عام 2040، بافتراض بقاء نسبة الوافدين عند 44.5% مع معدل خصوبة مرتفع مقداره 4.5 مولود للأسرة. وفي ظل هذا السيناريو وخلال الفترة من 2016 إلى 2040، رصدت الدراسة الزيادات التالية في احتياجات: التعليم والصحة والمياه والكهرباء المخصصة للمنازل والإسكان.

سيصل إجمالي الملتحقين الجدد بالتعليم إلى 2.2 مليون طالب سيكونون في حاجة، مع افتراض الاحتفاظ بنفس المستوي، إلى 64000 معلم جديد، و22000 فصل دراسي جديد، وزيادة في نفقات التعليم مقدارها 1.4 مليار ريال عماني إضافي. وسيحتاج العمانيون بافتراض تحسين مستوي الخدمات، إلى 13000 طبيب و2146 صيدلي و25800 ممرض إضافيين، و759 مليون ريال عماني إضافي للإنفاق علي الصحة. وستحتاج مياه المنازل إلى 63.8 بليون جالون إضافي، و377.2 مليون ريال نفقات إضافية لإنتاج الزيادة المطلوبة. أما كهرباء المنازل فسوف تحتاج الي11.1 جيجاوات ساعة إضافية، تتطلب نفقات إضافية مقدارها 336 مليون ريال. وسيحتاج العمانيون إلى 476000 وحدة سكنية جديدة.

وتلك الأرقام الضخمة مجرد جزء بسيط، من التصور التنموي المتكامل الذي تتبناه الرؤية. رؤية كلية تمزج بين النهضة الحضارية والنمو الاقتصادي والتنمية الإنسانية والتحديث المؤسسي والقانوني والمشاركة الاجتماعية الواسعة، في سعيها للدفع بعمان إلى صفوف طليعة الأمم النامية المزدهرة المتقدمة.