الملف السياسي

استقلال أوروبا أمنيا .. الهاجس الأكبر !

05 مارس 2018
05 مارس 2018

عماد عريان -

,, « البريكست « - أو الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي - لا يعني انسلاخ لندن عن القارة العجوز، فالسياسات الخارجية البريطانية لن تختلف كثيرا في مجملها عن سياسات الاتحاد الأوروبي، والشيء ذاته يمكن قوله عن العلاقات الأمريكية الأوروبية التي ستختلف في كثير من التفاصيل ولكنها لن تتصادم استراتيجيا ,,

بكل تأكيد العلاقات عبر ضفتي الأطلنطي بين أوروبا والولايات المتحدة ليست في أحسن حالاتها ولا تعيش في الوقت الراهن أفضل مراحلها منذ أكثر من سبعة عقود من الزمان، بل إنها تمر بالفعل بأزمات حقيقية وتباينات عديدة في التعامل مع مجمل القضايا والأزمات الملتهبة على الصعيد العالمي خاصة فيما يتعلق بتفاصيل ومناهج التعاطي مع تلك القضايا، فمن كوريا الشمالية إلى إيران ومن أوكرانيا إلى أزمات الشرق الأوسط , وغيرها من القضايا الأخرى التي تختلط فيها العوامل السياسية بأخرى فنية مثل قضايا المهاجرين واللاجئين والمناخ وخفض الانبعاثات الضارة والحرب التجارية حول «الصلب» على وجه خاص، تتعدد أوجه الخلافات بين الجانبين، ولا شك في أن هذه الخلافات أو التباينات هي حصيلة طبيعية لمرحلة ما بعد تولي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مهامه التنفيذية انطلاقا من البيت الأبيض في يناير من العام الماضي، حيث تسارعت خطاه على أرضيات سياسية جديدة عمقت من مظاهر الاختلاف والانقسام عبر ضفتي الأطلنطي.

فعلى وجه التقريب أراد الرئيس الأمريكي أن تكون له مقاربات مختلفة تماما عن سلفه في التعامل مع مجمل القضايا العالمية، ما دفعه إلى اتخاذ سلسلة من القرارات المغايرة التي لم تجد ترحيبا حتى لدى أقرب شركائه تحت المظلة الأطلنطية وربما داخل بلاده أيضا، فعلى سبيل المثال الاتحاد الأوروبي يطالب واشنطن بالعودة لدعم عملية السلام في الشرق الأوسط بعد قرارات ترامب الأحادية والمفاجئة والصادمة على صعيد المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية وخطوة واشنطن بتجميد المساعدات المخصصة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين «الأونروا» ما دعا الاتحاد لمطالبة واشنطن بالعودة للتوسط في عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين ، مؤكدا أنه لا يمكن إحراز نجاح بدونها، والإشارة هنا واجبة إلى أنه بعد تجميد واشنطن مساعداتها للفلسطينيين، أعلن الاتحاد الأوروبي عن تقديم دعم مالي إضافي لهم بقيمة 42.5 مليون يورو ، إثر اجتماع للمانحين الدوليين في بروكسل، كما طالبت وزيرة خارجية الاتحاد الاوروبي فيديريكا موجيريني بانخراط الولايات المتحدة مجددا في عملية السلام ، بعد اعتراف الرئيس الامريكي دونالد بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، والذي أثار جدلا واسعا وموجة تنديدات واحتجاجات كبيرة على الصعد كافة.

ومن المعروف أن الاتحاد الأوروبي يعد من أكبر الجهات المانحة للفلسطينيين ما دفعه لتوجيه انتقادات لقرار ترامب، وقالت موجيريني إنه «في ما يتعلق بخطط الولايات المتحدة، دعونا ننتظر لنعرفَ، ليس لدينا في الوقت الراهن تفاصيل أو جدول أعمال» و «ما يهمنا أولا أن يقر الجميع بأن مشاركة الولايات المتحدة أساسية لكي تحظى أي عملية بفرص واقعية للنجاح ولكن أيضا أن يقتنع أصدقاؤنا الأمريكيون بأنه سيكون من الأصعب عليهم تحقيق أي إنجازات وحدهم».

ومن القضايا الأخرى التي يتجلى فيها التباين الأمريكي - الأوروبي، المسألة الإيرانية، فقد أوجد ترامب حالة من الاضطراب الشديد في التعامل مع هذا الملف بعدما كان قد اقترب بالفعل من التطبيع في عهد سلفه باراك أوباما بفضل اتفاق « 5+1 « النووي، إلا أن ترامب وتحت ضغوط يمينية متطرفة يرفض هذا الاتفاق ويدعو لتعديله جوهريا أو حتى نسفه وهوما لا يجد قبولا لدى شركائه الأوروبيين خاصة أطراف الاتفاق وأعطى ترامب الكونجرس ستين يوماً مهلة لإعادة فرض العقوبات على إيران ومع الضغط الشديد من الأوروبيين ، لم يفعل الكونجرس شيئا ، ليظل الاتفاق ساريا، إلا أن الجو السياسي في المرحلة الراهنة قد لا يتناسب تماما مع بقاء الاتفاق النووي بعد التصعيد الكبير من جانب ترامب .

وما بين «الحذر» الأوروبي و«الاندفاع» الأمريكي، تجلت التباينات بين الطرفين نحو الاحتجاجات الشعبية الإيرانية أواخر العام الماضي، فقد تعدى إظهار التعاطف مع المتظاهرين وتفهم مطالبهم ،إلى وضوح المواقف المختلفة لأوروبا والولايات المتحدة في التعامل مع إيران من جديد، إذ كان موقف الإدارة الأمريكية واضحاً من تغريدات الرئيس ترامب على تويتر، بينما ظل موقف أوروبا من الاحتجاجات حذرا، فدعت موجريني إلى احترام حرية التجمع والتعبير وقالت إن الاتحاد الأوروبي يراقب عن كثب الاحتجاجات ودعت جميع الأطراف إلى الامتناع عن العنف , وكذلك جاء موقف برلين وباريس ودعوتهما إلى ضبط النفس في التعامل مع الاحتجاجات .

وتبقى المسألة الأكثر أهمية في علاقة الطرفين هي «العقيدة الأمنية» المشتركة تحت المظلة الأطلنطية، فقد غير قواعدها الرئيس الأمريكي إلى حد كبير بعد توليه الرئاسة، ما أوجد تحركات عكسية على الضفة الشرقية أو الأوروبية للاطلنطي، وإذا كان الأوروبيون لا يرون الحل الصحيح في العودة إلى سباق التسلح ، من خلال الوثيقة الأمريكية الجديدة التى أقرها ترامب لتبني سياسة نووية جديدة، فقد كشف مؤتمر ميونيخ للأمن سعي الأوروبيين للاعتماد على انفسهم فيما يخص القضايا الأمنية ، والتخلص- أو الحد بحذر- من الاعتماد على واشنطن، وقد سيطرت هذه القضية على أعمال المؤتمر في دورته الخامسة والخمسين، حيث رأى وزير الخارجية الألمانية أن «العالم يقف على حافة الهاوية» في حين أكدت باريس وبرلين على ضرورة تولي أوروبا الدفاع عن نفسها.

وحول هذا التوجه وفي رصدها لتفاصيل أعمال المؤتمر رأت تقارير إعلامية أنه وبشكل عام كان اليوم الأول من المؤتمر يوم الأوروبيين بامتياز، حيث ألقت سيدتان خطبتين افتتاحيتين في قاعة ممتلئة بالرجال معظمهم يرتدون زياً عسكرياً، السيدتان كانتا وزيرتي الدفاع الألمانية ، أورزلا فون دير لاين ، والفرنسية فلورنس بارلي، ودعت الوزيرتان وباهتمام كبير إلى تقوية التعاون العسكري بين دول الاتحاد الأوروبي والاستقلالية بشكل أكبر عن الولايات المتحدة، بينما تعتزم كل من فرنسا وألمانيا دراسة مشروع مشترك لتصنيع الدبابات والطائرات المقاتلة، كما أشارت الوزيرة الألمانية إلى أهمية سياسة التنمية بالنسبة للأمن والسلام، وقد انتقدت فون دير لاين وبشدة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتركيزه في سياسته على القوة العسكرية فقط ، حسب كلام الوزيرة الألمانية ، محذرة من ضرورة عدم وجود تقسيم في العمل يقوم بموجبه الأمريكيون بالشؤون العسكرية والأوروبيون بالأمور الإنسانية والإغاثية، وأضافت فون دير لاين قائلة: ان الهيكلية العسكرية الجديدة داخل الاتحاد الأوروبي ليست لمنافسة الناتو.

وبدا على أمين عام حلف الناتو القلق من احتمالية نشوء هكذا هيكلية جديدة في الاتحاد الأوروبي موازية للناتو، مؤكدا أنه « في واقع الحال فإن الاتحاد الأوروبي لا يمكن أن يحمي نفسه بمفرده وبعد البريكست فإن 80 من النفقات العسكرية للناتو يتم تغطيتها من قبل دول غير أوروبية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وتركيا « ، وقد طغت نقاشات في هذه الخصوص على أجواء مؤتمر ميونيخ للأمن ، حيث كان التركيز على موضوعات الدفاع عن أوروبا وزيادة نفقات الدفاع ، وأهمية الناتو و«التهديدات القادمة من روسيا « .

وواقع الأمر أن تلك الحقائق والقضايا ستكون في الغالب حاكمة للعلاقات المستقبلية بين الولايات المتحدة وشركائها الأوروبيين تحت المظلة الأطلنطية، فالتباينات و الاختلافات بين الجانبين حول تفاصيل الكثير من القضايا والأزمات العالمية والبينية وكيفية التعاطي معها وسبل تسويتها أو حلها لن تطغى على حتمية استمرار العلاقات الإستراتيجية، بين ضفتي الأطلنطي خاصة مع التهاب الأوضاع في شبه الجزيرة الكورية ، ومشكلة ضم موسكو للقرم ، ومراوحة العلاقات مع الصين وروسيا ، والمصالح المشتركة في الشرق الأوسط ، وجميعها تحتم تعاونا مشتركا من نوع خاص حتى وإن ظلت النزعة الأوروبية نحو مزيد من الاستقلال الأمني هاجسا كبيرا لكل الأطراف .