الملف السياسي

ضرورة استراتيجية لكل الأطراف ... دون استثناء ولكن !!

26 فبراير 2018
26 فبراير 2018

د.عبد الحميد الموافي -

لعله من المعروف على نطاق واسع أن القضايا الدولية بوجه عام، وقضايا الشعوب بوجه خاص هي قضايا حية، بمعنى أنها، بحكم أطرافها، وبحكم تقاطع مصالحهم، وبحكم تغير رؤاهم وحساباتهم أيضا، لاعتبارات عديدة ومستجدة أحيانا، تتوفر لها الكثير من صفات الكائن الحي، في نموه وتدهوره، وفي عنفوانه وضعفه، وفي نشاطه وذبوله ،

وتظل هذه القضايا حية وباقية، ولو تحت السطح، أو في أذهان وقناعات وثقافة أبنائها وتطلعاتهم، حتى يتم حلها حلا عادلا يستوعب المظلومية التاريخية، ويعيد لأصحاب الحق حقوقهم، أو بعضها، وحتى تصل كل الأطراف المعنية، إلى قناعة بأهمية وضرورة وفائدة التعايش معا وفق ما اتفقت عليه وأقرته من أسس ومبادئ توفر لها جميعها فرص الحياة الكريمة، ونهاية الشعور بالظلم الذي عاشته، أو عانت منه أجيالها لفترات، أو حقب أو عقود وسنوات عديدة. وقد أثبتت خبرة التاريخ أنه من الخطأ الرهان على الزمن، أو على مرور الوقت، لتحويل الاغتصاب، اغتصاب أرض وحقوق الشعوب، إلى واقع يتجاوز الحقائق التاريخية، وحتى تغيير، أو محاولة تغيير هوية الأرض ومن عليها، لا ينجح في إخفاء حقيقة المشكلة وإنهائها، على الأقل من وجهة نظر أبنائها، وأما المغتصبون فإنهم يمكن أن يحجبوا الشمس بأصبعهم !!. ومن بين قضايا عديدة، تقدم القضية الفلسطينية نموذجا واضحا بالغ الدلالة في هذا المجال، وعلى أكثر من مستوى أيضا. وليس من المبالغة في شيء القول إنه من المهم والضروري، ليس فقط بالنسبة للفلسطينيين والعرب، ولكن بالنسبة للإسرائيليين والأطراف الإقليمية والدولية المعنية بالقضية الفلسطينية وبالسلام واستقرار الشرق الأوسط، استيعاب هذا الأمر وعدم القفز عليه، بأي شكل من الأشكال، أو الادعاء بالقدرة على حل المشكلة حلا شاملا، من خلال الوقوع في خطيئة فرض الحلول، أو تكريس الاغتصاب، أو إهمال الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني وتجاهلها والتجرؤ عليها، بسبب مرحلة الضعف والتشتت التي يمر بها العالم العربي في هذه المرحلة، أو بسبب غطرسة القوة الإسرائيلية، وما تحظى به من دعم أمريكي غير مسبوق في هذه الفترة.

وإذا كنا في غير حاجة إلى العودة إلى جذور المشكلة، وبداياتها، ودور القوى الغربية في إحداثها وأهدافها ومطامعها في هذا المجال، فإنه من المؤكد أن الزيارة التي قام بها معالي يوسف بن علوي بن عبد الله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية إلى القدس الشرقية المحتلة في 13 فبراير الجاري - حيث زار المسجد الأقصى الشريف ومسجد قبة الصخرة وكنيسة المهد - وإلى رام الله وأريحا ونابلس - حيث زار الحرم الإبراهيمي - ولقاءاته مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس ومع العديد من القيادات الفلسطينية في الحكومة الفلسطينية وحركة فتح، تتسم في الواقع بالكثير من الأهمية والدلالة، خاصة في الظروف الراهنة التي تمر بها القضية الفلسطينية، وليس مصادفة أن تأتي هذه الزيارة قبيل الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في مجلس الأمن الدولي يوم العشرين من فبراير الجاري، وأعلن فيه رؤيته ومقترحاته للحل وتحميله مجلس الأمن والأمم المتحدة والمجتمع الدولي، مسؤولية العمل والتحرك لتحقيق الحل العادل والشامل الذي يعيد الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، ومنها حقه في إقامة دولته المستقلة على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، ويعيد بالتالي السلام والأمن والاستقرار إلى الشرق الأوسط ككل. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا : إن الزيارة التي قام بها معالي يوسف بن علوي بن عبد الله الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية هي أول زيارة لمسؤول عربي رفيع المستوى للقدس الشرقية وللضفة الغربية المحتلة، بعد إعلان واشنطن اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها في إسرائيل من تل أبيب إلى القدس، وما ترتب على هذا الإعلان من ردود فعل رافضة ومستنكرة، داخل المنطقة وخارجها، وإذا كان الموقف العماني الداعم للقضية الفلسطينية ولحقوق الشعب الفلسطيني الشقيق، قد اتسم بالشجاعة والصراحة والوضوح، كعادته على امتداد السنوات الماضية، فإنه سار خطوة عملية كبيرة وذات دلالة، في هذا الدعم، عبر زيارة العلوي للقدس الشرقية ولرام الله وأريحا ونابلس، والإعلان خلال الزيارة عن أهمية وضرورة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، في إطار حل الدولتين، وعاصمتها القدس الشرقية، وبذلك ترجمت عمان عمليا، الموقف الذي أعلنته خلال الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب في إطار جامعة الدول العربية في العاشر من شهر ديسمبر الماضي لبحث ما أعلنه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من اعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها. ومع التأكيد على أن السلطنة لا تفكر ولا تريد التناطح مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تظل صديقة لها، إلا أن ذلك لا يمنعها من إعلان موقفها الواضح والصريح والشجاع أيضا، في الوصول إلى درجة متقدمة في دعم الشعب الفلسطيني الشقيق، والاستجابة لدعوة القيادة الفلسطينية للأشقاء العرب بزيارة القدس الشرقية والضفة الغربية المحتلة دعما للحقوق الفلسطينية، وتأكيدا عمليا لهذا الدعم، وردا على سياسات التهويد المسعورة التي تمارسها إسرائيل ضد القدس الشرقية المحتلة وغيرها من مدن الضفة الغربية وضد سكانها الفلسطينيين، حيث تسابق الزمن، وتزيد من وتيرة الاستيطان، قبل أن يعلن ترامب مقترحاته للحل في فلسطين التي تتماشى مع التصورات والأطماع الإسرائيلية بشكل تام. ولأن عمان معروفة بوضوحها وصراحتها، وبقدرتها أيضا على اتخاذ ما تراه مناسبا وصحيحا من مواقف في مواجهة الظروف والتطورات المختلفة فإن موقفها جاء على هذا النحو الجلي وبالغ الوضوح، بعيدا عن ازدواجية اللغة والمواقف، أو القنوات الخلفية، و لقاءات الغرف المغلقة التي لم تعد الأبواب السميكة، ولا الإجراءات الأمنية المعقدة بقادرة على إخفائها، أو حجبها عن الأعين لفترة طويلة. وكانت السعادة والتقدير الفلسطيني لهذه الزيارة وللدعم العماني للأشقاء الفلسطينيين، رفيعا وواسعا وملموسا أيضا، وعلى كل المستويات الفلسطينية.

*ثانيا: إنه بغض النظر عن كل ما تردد ويتردد بشأن مقترحات إدارة ترامب لحل القضية الفلسطينية، خاصة في ضوء قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل السفارة الأمريكية إليها، بل والتعجيل بالبدء في عملية نقل السفارة التي سبق الإعلان عن أنها لن تتم قبل عامين، لتبدأ في منتصف شهر مايو القادم، بالتزامن مع الذكرى السبعين لإعلان قيام إسرائيل عام 1948، وهو أمر ذو دلالة، وقد استنكرته جامعة الدول العربية بشدة، فإنه بات من الواضح والضروري أيضا أن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشرقية، في إطار حل الدولتين، أصبحت ضرورة استراتيجية، وحاجة لكل الأطراف كذلك؛ من أجل التوصل إلى حل عادل وشامل للمأساة الفلسطينية بكل جوانبها وإنهاء الآثار التي ترتبت عليها منذ إنشاء إسرائيل حتى الآن أو التخفيف منها، على الأقل بالنسبة للقدس الشرقية وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين أيضا، وهي جوانب لا يمكن حلها بقرارات منفردة، لا من جانب أمريكا ولا من جانب إسرائيل، خاصة أنه هناك قرارات دولية عديدة، من جانب مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو وغيرها، بشأن الحقوق غير القابلة للتصرف بالنسبة للشعب الفلسطيني، وبطلان كل ما اتخذته إسرائيل وما تمارسه من عمليات تهويد في القدس الشرقية المحتلة، التي تظل جزءا من الضفة الغربية والأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلتها إسرائيل في عدوان الخامس من يونيو عام 1967. وبقدر حاجة الفلسطينيين إلى قيام دولتهم المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، والتمتع بحقوقهم المشروعة على أرضهم، في إطار تسوية شاملة وعادلة، شأنهم في ذلك شأن كل الشعوب الأخرى في العالم، بما فيها الشعوب التي تحررت من الاستعمار، فإن حاجة إسرائيل ذاتها لقيام الدولة الفلسطينية المستقلة هي حاجة حقيقية إلى حد كبير. صحيح أن هناك في إسرائيل من لا يريدون إقامة مثل هذه الدولة، بمن فيهم نتانياهو ذاته، وجموع اليمينيين المتطرفين في الليكود وخارجه، ولكن الصحيح بالفعل أن مصلحة إسرائيل تقتضي إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، ليس فقط لأن ذلك سيفتح أمام إسرائيل كل أبواب المنطقة، ولتبدأ مرحلة جديدة وغير مسبوقة تحدثت عنها مبادرة السلام العربية منذ عام 2002، وهو ما تتوق إليه إسرائيل رغم تمنعها الظاهري، هذا فضلا عن أن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة هو السبيل لتجنب حل الدولة الواحدة، عبر استيعاب الفلسطينيين فيها، بكل ما سيترتب على ذلك من مخاطر داخلية، بما في ذلك تحول إسرائيل إلى دولة واحدة بنظامين، وخطر ظهور وممارسة التفرقة العنصرية الإسرائيلية ضد الفلسطينيين بكل ما يترتب على ذلك من نتائج وآثار في المستقبل، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا بالتأكيد، وهو ما تحتاج إسرائيل بشكل حقيقي إلى تجنبه، إذا أرادت الحفاظ على طبيعتها وهويتها الخاصة، ولن يتحقق ذلك إلا من خلال إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة إلى جانبها. ومن جانب آخر فإن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، هي بوابة السلام والاستقرار في المنطقة، بكل ما يعنيه ذلك من معنى، وهو ما أكدت عليه مصر والدول العربية الأخرى مرارا خلال السنوات الماضية، وبالرغم من أن كل التنظيمات والجماعات الإرهابية في المنطقة لم توجه رصاصة واحدة ضد إسرائيل، وهو أمر لا يمكن أن يكون مصادفة أبدا، إلا أن أدبيات تلك التنظيمات تميل إلى استغلال القضية الفلسطينية في دعاياتها وبرامج تجنيد واستقطاب الشباب المغرر به وجذبه إليها، بغض النظر عن واقعها الحقيقي. ومن ثم فإن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة سيقطع الطريق على كل محاولات تديين الصراع العربي الإسرائيلي الذي حاولته وتحاوله كل المنظمات والجماعات الإرهابية في المنطقة بأشكال مختلفة. ومن ثم سد أحد أبواب التطرف في المنطقة. بالإضافة إلى أن الحل من شأنه إيقاف متاجرة بعض الأطراف الإقليمية بالقضية الفلسطينية بأشكال مختلفة لخدمة مصالحها الذاتية بشكل أساسي، والمزايدة حتى على الأطراف العربية التي قدمت ولا تزال تقدم الكثير لقضية العرب الأولى.

*ثالثا: إنه في ظل حقائق القوة على الأرض، وفي ظل ما تمر به المنطقة العربية من تطورات، ومن تدهور في الأوضاع العربية بوجه عام، فإن مسؤولية كبيرة تقع على عاتق القوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، والصين والهند والمجتمع الدولي ككل في مساندة إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، والتمسك بتحقيقها، باعتبار ذلك من أهم سبل تحقيق السلام في الشرق الأوسط، وإخماد الكثير من الحرائق المشتعلة في جنباته، وما يترتب عليها من تهديدات حقيقية لأمن أوروبا والعالم حول المنطقة. وإذا كان من غير المجدي ومن غير الممكن أن يحارب العالم معركة الفلسطينيين والعرب نيابة عنهم، فإن مسؤولية أكبر تقع بالضرورة على عاتق الفلسطينيين والعرب ككل، في العمل من أجل مساندة حل الدولتين، والتهيئة لإمكانية تحقيقه، والتعاون مع القوى الدولية من أجل هذه الغاية. وهنا تحديدا فإنه مع إدراك الآثار المترتبة على قرارات الرئيس الأمريكي، والتعجيل بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس في مايو القادم، إلا أن تحريك عملية السلام مرة أخرى، ودفعها على طريق جاد لن يتم بدون مشاركة أمريكية كبيرة وصادقة في العمل للتوصل إلى حل عادل وشامل، بغض النظر عن مواقف اللوم أو التنديد أو الإدانة أو غيرها، إذ تظل واشنطن قوة دولية شديدة التأثير بالنسبة لمجريات الأوضاع في الشرق الأوسط، رضينا بذلك أو لم نرض به، وسواء تم ذلك من خلال مؤتمر دولي برعاية الأمم المتحدة، أو من خلال آلية أخرى، فإنه من المؤكد أنه من غير المتوقع حدوث تغيير كبير إذا استمرت الأوضاع العربية والفلسطينية على النحو الذي هي عليه الآن، لسبب بسيط وهو أن أية قوة في العالم، بما فيها إسرائيل، لا تأخذ هذا الوضع على مأخذ الجد، كما أن قدرة المجتمع الدولي على الضغط على إسرائيل، تظل ضعيفة طالما بقي العرب ضعفاء. وحتى تتغير أوضاعنا العربية والفلسطينية فإنه من المهم والضروري دعم الأشقاء الفلسطينيين بكل السبل الممكنة ومنها مساعدتهم على استعادة الوحدة الوطنية الفلسطينية مرة أخرى.