إشراقات

في قلب المؤمن له ثمرات

15 فبراير 2018
15 فبراير 2018

د.صالح بن سعيد الحوسني -

«ويلزم الإنسان في هذه الحياة أن يؤمن بالله تعالى إيمانا لا يخالجه أدنى ريب أو شك وهذا الإيمان لا بد وأن يكون راسخا لا يشوبه شك ولا يعتريه أدنى ريب فهو قائم على أدلة وثوابت راسخة في النفس لا تتغير ولا تتبدل بأي حال من الأحوال».

شاءت إرادة الله تعالى أن يخلق الخلق متباينة طباعهم، ومختلفة خصالهم وأحوالهم وفق إرادته ومشيئته وحكمته سبحانه؛ قال تعالى: (وربك يخلق ما يشاء ويختار..)، ومن بين أعظم هذه المخلوقات هذا الإنسان الذي تميز عن غيره من المخلوقات بمزايا كثيرة جدا، قال تعالى: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم)، ولم يكن لهذا الأمر أن يمر دون تبعات يتحملها هذا الإنسان فقد اضطلع بأمانة التكليف والخلافة؛ قال تعالى: (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا)، ومع ما أُعطي إياه هذا الإنسان من صفات وملكات وقدرات وعقل كبير ضخم يفكر به ويتبصر لشؤونه وأحواله إلا أن هذا العقل تعتريه الانفعالات والمؤثرات المختلفة التي توجهه تارة ذات اليمين وأخرى ذات الشمال من غير ضابط يحكمه ويعقله، فكانت حكمة الله تعالى أن أرسل الرسل بدعوة الحق ليكون كل امرئ على بصيرة وبينة ومعرفة بما يأتيه من خير أو شر، ومعرفة واعية بخالقه سبحانه وتعالى، وهذا الاعتقاد هو بدوره يوجه الخلق إلى اعتقاد جازم بقدرة الله تعالى المطلقة، وهو ما يتطلب منه الإيمان القاطع بأن الله هو الموجه والمدبر الحكيم سبحانه؛ (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين).

ويلزم الإنسان في هذه الحياة أن يؤمن بالله تعالى إيمانا لا يخالجه أدنى ريب أو شك كما قال تعالى: (أفي الله شك فاطر السماوات والأرض..)، ومن شأن المؤمن إيمانه بالغيب كما قال تعالى:( ..الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)، وهذا الإيمان لا بد وأن يكون راسخا لا يشوبه شك ولا يعتريه أدنى ريب فهو قائم على أدلة وثوابت راسخة في النفس لا تتغير ولا تتبدل بأي حال من الأحوال.

وإذا تأملنا أحوال الأنبياء ومن سار على نهجهم من شدة اليقين وجدنا شيئا عجبا فهذا خليل الله إبراهيم عليه السلام الذي سأل ربه عن كيفية إحياء الموتى؛ (قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى) ليزداد يقينا فينتقل من علم اليقين إلى عين اليقين، لأن العيان أقوى من التأثير من غيرها، فيسأله ربه (أو لم تؤمن)، أي بقدرتي على إحياء الموتى؛ فيجيب إبراهيم بقوله: (بلى ولكن ليطمئن قلبي) فإبراهيم قد أيقن بقدرة الله تعالى، ولكن ليصل إلى مرحلة متقدمة من اليقين؛ حينها يأمره ربه بقوله: (قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم)، وهكذا شاهد إبراهيم قدرة الله تعالى في إحياء تلك الطيور بعد أن ماتت وتفرقت فجمعها الله تعالى وعادت إليها الحياة بقدرة الله تعالى ليكون درسا يزداد به سيدنا إبراهيم يقينا بقدرة الله وعظمته.

وهذا اليقين القاطع القائم على عقيدة راسخة لا تتزعزع مهما عصفت بها العواصف الهوجاء، أو اشتدت بها الظروف هي مما امتدح الله به عباده المؤمنين، فكثيرا ما تصرف الإنسان بعض الشبه والأباطيل عن هذا اليقين، ولكن ما إن تظهر دلائل الحق حتى يسارع الناس لإتباعها والإيمان بها وهي عادة لا تلتبس إلا على مطموس الفطرة وهو ما نراه بجلاء ووضوح في موقف سحرة فرعون الذين كانوا قبل مبارزة سيدنا موسى يطلبون الأموال والتقرب من فرعون، وبعد أن ظهرت إمارات الحق واليقين وصدق سيدنا موسى عليه السلام حتى انقلبوا أشخاصا آخرين فكفروا بفرعون وكيده وسجدوا لله تعالى وصاحوا بلسان واحد (آمنا برب العالمين رب موسى وهارون)، وهو ما جعل فرعون يزمجر غضبا وحنقا عليهم فصاح بهم متهددا ومتوعدا إياهم (قال آمنتم له قبل أن أذن لكم إنه لكبيركم الذي علمكم السحر فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف ولأصلبنكم في جذوع النخل ولتعلمن أينا أشد عذابا وأبقى)، ومع كل هذا الوعيد والتهديد وأشكال العذاب التي قرر فرعون أن يمارسها وينفذها فيهم لإيمانهم بربهم إلا أنهم كانوا في رسوخ الجبال الرواسي، فلم تكن تلك التهديدات لتؤثر طرفة عين فيما وقر في قلوبهم وصدورهم من الحق واليقين فقالوا جميعا: (قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والذي فطرنا فاقض ما أنت قاض، إنما تقضي هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر والله خير وأبقى..).

وهذا اليقين الذي يكون في قلب المؤمن له من الثمرات والخيرات الشيء الكثير فهو يوجهه لمعالي الأمور، وكريم الخصال، وزاكي الأفعال، فهو خضوع وتبتل وانقياد وتسليم مطلق لأمر الله تعالى، ينتج عنه راحة وطمأنينة لقضاء الله وقدره رغم ما قد يصيب صاحبه من الأذى والمكروه بل حتى لو عُذّب في سبيله فهو يستعذب ذلك العذاب كما وصف الله تعالى أصحاب الأخدود الذين لحقهم العذاب لا لجرم اقترفوه سوى إيمانهم ويقينهم بالله العلي العظيم، فقد قال تعالى في حالهم: (قُتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود، وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد، الذي له ملك السموات والأرض وهو على كل شيء شهيد)، وقد قص لنا القرآن عاقبة الإيمان بالله والتضحية بزخرف هذه الحياة، ومواجهة الباطل بنفس مطمئنة بعون الله ونصره حين قال في شان ذلك الرجل الذي هو نكرة لا يكاد يعرف في محيطه، وصدح بما وقر في قلبه من الإيمان واليقين بالله تعالى وقدرته الباهرة وأنه صاحب الأمر والنهي المطلق وما آل إليه حاله بعد ذلك من الإكرام والنعيم المقيم؛ فقد قال تعالى في شأنه: (وجاء من أقصا المدينة رجل يسعى قال يا قوم اتبعوا المرسلين، اتبعوا من لا يسألكم أجرا وهم مهتدون، ومالي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون..)، إلى أن قال بعد كل هذه المقدمات والدلائل التي تدل على صدق المرسلين فيما جاؤوا به من الحق واليقين: (إني آمنت بربكم فاسمعون)، فما هي العاقبة والنتيجة والجزاء من عند المنعم الكريم: (قيل ادخل الجنة..)، فيفرح بذلك الجزاء العظيم ويقول: (..يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين)، فأنعم به من جزاء على صدق يقينه بالله.

وحتى نصل إلى مرحلة اليقين في شدة إيماننا بالله تعالى ينبغي أن نسلك جملة من الطرق الموصلة لذلك، ومنها:

- العلم بما أنزله الله من هداية وأحكام: فالعلم أول طرق الوصول إلى اليقين المنشود، وهو يزيل الجهل من العقول، ويبصّر الإنسان بما يأتيه وما يذره، ولذا قال تعالى موجها نبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات)، والعلم يرتقي بصاحبه منزلة تفوق كل المنازل كما قال تعالى: (شهد الله أنه لا إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط)، فلا بد من معرفة واطلاع على ما جاء من عند الله تعالى مما في كتاب الله تعالى من الآيات، وما جاء على لسان النبي الكريم من الأحاديث النبوية لتكتمل الصورة في نفس المؤمن ويزداد يقينا.

- التأمل والتفكر والتدبر: وهو مما ينبغي أن يُعنى به المؤمن وهو يسير في هذه الحياة، فمن تأمل نسق هذا الكون وما فيه من دلائل التنسيق والإبداع والنظام المحكم الباهر أيقن أن ذلك عن إله قادر قاهر حكيم يدبر هذا الكون، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا تسقط من ورقة إلا يعلمها، ولا يتحرك متحرك، أو يسكن ساكن إلا بأمره وقدرته وعلمه سبحانه، وقد كان من هدي الأنبياء الذين كلفوا بدعوة أقوامهم إلى الإيمان بالله تعالى أن وجهوا أقوامهم إلى النظر والتأمل والتفكر في هذا الكون الواسع فها هو إبراهيم الخليل الذي قال الله فيه: (وكذلك نُري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وليكون من الموقنين، فلما جن عليه الليل رأى كوكبا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين..) وهكذا استعرض لهم سيدنا إبراهيم تلك الأجرام من شمس وقمر وكواكب وأثبت لهم بالدليل القاطع عدم قدرتها على خلق السموات والأرض.

- الدعاء وكثرة الاستغفار: فالله قريب من عبده، وكلما دعاه وألح عليه في الدعاء كان معه بنصره وتأييده وعونه، كما قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم)، وهو يرى أثر دعائه في أمور تتحقق، وفي مكاسب كثيرة قد يستشعر شيئا كثيرا منها، فتتوثق صلة العبد بربه. - الوقوف على سلوك الأنبياء والمرسلين في تعاملهم مع ربهم: فهؤلاء الأنبياء والرسل الكرام هم صفوة الخلق، وقد كان لشدة يقينهم بالله مواقف متعددة سطرها لنا القرآن الكريم، وقد أمرنا الله بحسن التأسي بهم كما قال تعالى: (أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده)، وفيما مر بهم من أحوال ومواقف وشدة وابتلاء بالخير أو الشر أنموذج ومثال عملي لنقتدي به في تعاملنا مع خالق هذا الكون.

وختاما.. فإن استشعار الإنسان معية الله تعالى في كل أحواله، وفي مختلف الظروف والأحوال يضفي على الإنسان الراحة والسعادة في الدنيا، والفوز والكرامة في العقبى.