الملف السياسي

سوريا الحائرة بين سوتشي وجنيف و«غصن الزيتون»

05 فبراير 2018
05 فبراير 2018

بشير عبد الفتاح -

ما بين مسارات سياسية تفاوضية تمضي متوازية ومتزامنة في جنيف وسوتشي وأستانة من جهة، وعمليات عسكرية ملتهبة على الأرض السورية ، لا تكاد تهدأ حتى تتجدد ، كان أحدثها عملية «غصن الزيتون» التي أطلقتها أنقرة في عفرين، قبل ما يربو على أسبوعين لتقويض التطلعات الاستقلالية والانفصالية للأكراد السوريين، يظل مصير سوريا تائها بين طيات المجهول.

ها هي تسع جولات من مفاوضات جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة منذ العام 2011 ، تفشل في تحقيق اختراق ملموس على صعيد التسوية السلمية للأزمة السورية ، التي أدت إلى مقتل أكثر من 340 ألف شخص وتشريد الملايين حتى الآن ، كما لم تفلح جولاتها التسع حتى في جمع طرفي الصراع وجها لوجه على مائدة مفاوضات مباشرة . وقد تنوعت أسباب ذلك الإخفاق . فمن جهة ، برأسه أطل تضارب رؤى طرفي التفاوض ، فبينما عمد وفد النظام المدعوم روسيا على حصر المفاوضات في نطاق محاربة الإرهاب وصياغة الدستور للانتقال لاحقا إلى تنظيم انتخابات برعاية أممية، كان وفد المعارضة يعتبر الإطاحة بالأسد وعدم السماح بأي دور سياسي له في مستقبل سوريا أبرز الأولويات . وكان هذا التضارب في المواقف كفيلا بإصدار الحكم بالفشل على كل جولة تفاوضية قبل أن تبدأ، خصوصا مع تمسك كل طرف بموقفه وعدم استعداده لتقديم تنازلات.

ومن جهة أخرى، تسنى لنظام الأسد تقوية موقفه التفاوضي خلال الآونة الأخيرة بعدما تمكن ، بفضل دعم روسيا وإيران والميليشيات العقائدية الموالية ،من استرداد مساحات أوسع من الأراضي التي كان قد فقدها في السابق بعدما سيطرت عليها «داعش» أو قوات المعارضة المسلحة المدعومة من أطراف إقليمية . ولقد جاءت الجولة التاسعة من مفاوضات جنيف والتي عقدت في فيينا هذه المرة ، وسط أجواء بالغة التعقيد ، فما لبث أن أعلن وزير الخارجية الأمريكية ريكس تيلرسون استراتيجية واشنطن الجديدة في سوريا ،والتي تؤكد على بقاء القوات الأمريكية هناك ، بينما انطلقت بالتزامن حملة «غصن الزيتون» التي تشنها تركيا في منطقة عفرين ضد وحدات حماية الشعب الكردية.

من جانبه، حمل مندوب روسيا الدائم لدى مقر الأمم المتحدة في جنيف أليكسي بورو دافكين وفد المعارضة السورية مسؤولية فشل هذه الجولات التسع التي انعقدت بالتوالي ، حيث دأبت المعارضة على طرح شروط مسبقة على طاولة الحوار، لا سيما مطالبتها برحيل الرئيس السوري بشار الأسد . وهو الموقف الذي وصفه بورو دافكين بـأنه «موقف لا يمكن وصفه بالتفاوضي»، مضيفا أن هذا المنهج للمعارضة يجعل من المستحيل مشاركة وفد الحكومة السورية في الحوار، بينما يتطلب نجاح المفاوضات إدراك المعارضة ومموليها ضرورة استبعاد مطالب كهذه من أجندتهم ، فضلا عن الامتناع عن استخدام مصطلح «وفد النظام» عند الحديث عن وفد الحكومة السوري ، علاوة على التعبير عن دعمها وجاهزيتها للمشاركة في الصراع المشترك ضد ما تبقى من تنظيم «داعش» و«جبهة النصرة» في الأراضي السورية ، وكذلك ضد الفصائل المسلحة الأخرى المتواطئة مع هذين التنظيمين الإرهابيين . كما دعا المندوب الروسي المعارضة السورية إلى دعم الجهود المبذولة بغية وقف العمليات القتالية وإنشاء ودعم مناطق خفض التوتر، ورفض أي حل عسكري والعمل على إنجاح التسوية السياسية.

وبرغم تأكيد موسكو على أن منتدى سوتشي وحوارات أستانة لا ترمي إلى تقويض مسار جنيف التفاوضي ، كما لا تتطلع إلى أن تكون بديلا عنه ، وإنما تهدف إلى إعطاء زخم إيجابي له ، إلا أن هذه المسارات التفاوضية الموازية ، التي انطلقت من مرجعيات ومآرب مغايرة أحيانا لمسار جنيف ، لم تكن لتحقق الغرض الذي طالما تشبثت موسكو بالإعلان عنه بقدر ما أعاقت بلوغ مسار جنيف لغاياته المتمثلة في إدراك تسوية نهائية وعادلة للأزمة السورية.

بعد أيام قليلة من انتهاء الجولة التاسعة من مفاوضات جنيف في فيينا ، برعاية الأمم المتحدة ، بغير تقدم ملموس على صعيد التسوية السلمية للأزمة السورية، انطلق الأسبوع الماضي مؤتمر سوتشي ، الذي أعلن الممثل الخاص للرئيس الروسي في سوريا، الكسندر لافرنتييف، إن مهمته تتمثل في إطلاق عملية إعداد دستور سوري جديد يتم عرضه على الحكومة والمعارضة الداخلية والخارجية وحتى المسلحة ، من خلال إطلاق لجنة دستورية يمكن أن تواصل عملها من أجل إعداد دستور جديد للبلاد تحت رعاية الأمم المتحدة . وأكد لافرينتيف، أنه سيقترح على وفود المؤتمر مناقشة البيان الختامي وتقديم رسالة إلى الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والمنظمات الإنسانية الدولية لتقديم المساعدة في إعادة إعمار سوريا.

ويعتبر مؤتمر سوتشي للحوار الوطني السوري أول مؤتمر من نوعه منذ بداية الأزمة عام 2011، سواء من حيث عدد الأطياف الواسعة المشاركة فيه، أو عدد المدعوين بشكل عام، أو تنوع اتجاهاتهم وانتماءاتهم وتشعبها، وذلك في أول محاولة لجمع مثل هذا الطيف الواسع في إطار منصة تفاوضية واحدة . فإلى جانب روسيا وإيران وتركيا ،التي تشارك كبلدان ضامنة لاتفاقات أستانا بشأن وقف إطلاق النار في سوريا ، تتنوع الوفود المشاركة في هذا المؤتمر الوطني، بتنوع المكونات في سوريا واتجاهاتها، بمن فيهم ممثلون عن حزب البعث الحاكم، والمجتمع المدني والنقابات والمعارضة الداخلية . حيث شارك في المؤتمر أكثر من 1600 شخص ، يمثلون مختلف المجموعات السياسية والعرقية الطائفية في سوريا ، كما تمت دعوة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، والأمانة العامة للأمم المتحدة، فضلا عن مصر والعراق والمملكة العربية السعودية ولبنان والأردن وكازاخستان لحضور المؤتمر بصفة مراقبين.

غير أن مؤتمر سوتشي ، شأنه شأن مفاوضات جنيف وأستانا ، قد مني بإخفاق لافت ،حتى قبل أن يبدأ بسبب المقاطعة اللافتة للمؤتمر من قبل فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا ، جراء تعنّت حليفتها دمشق في مناقشة مسألتي الدستور والانتخابات خلال المحادثات ، وفي ظلّ عدم إيفاء روسيا بوعودها في ما خصّ تطبيق وقف النار في غوطة دمشق الشرقية ، ويتملك كل من باريس وواشنطن ولندن يقين بأن روسيا أوهمت وفد هيئة تفاوض المعارضة السورية بوعود خلال زيارته الأخيرة موسكو، وتعهّدت خلال محادثات فيينا بتطبيق وقف اطلاق نار في الغوطة الشرقية، في حين أن القصف تواصل بقوة على المنطقة. وتعتقد القوى الغربية وبعض الدول العربية ، أن محادثات منتجع سوتشي هي محض محاولة من جانب روسيا لتعويم نظام الأسد وإطلاق عملية سلام منفصلة تقوض جهود السلام التي تقوم بها الأمم المتحدة وتضع أسسا لحل يفضله الرئيس السوري بشار الأسد وحليفتاه روسيا وإيران.

وفي السياق ذاته ، غابت أطراف سورية عديدة. فرغم تأكيد موسكو أن هذا المؤتمر لا يشكل مبادرة منافسة لتلك التي ترعاها الأمم المتحدة في جنيف وفيينا ، أعلن رئيس هيئة التفاوض لقوى الثورة والمعارضة السورية ، التي تمثل أبرز مجموعات المعارضة ، نصر الحريري، عدم مشاركة الهيئة في مؤتمر سوتشي مخافة أن يكون التفافا على مسار جنيف برعاية الأمم المتحدة ، واحتجاجاً على فشل روسيا في حمل النظام على تقديم تنازلات في مفاوضات جنيف ومحادثات فيينا الأخيرة، بما يسهّل مسار الحل السياسي للأزمة . ومع انطلاق المؤتمر ،رفض بعض المشاركين المعارضين مغادرة مطار سوتشي لدى وصولهم، بسبب استخدام المؤتمر شعارات وعلم الحكومة السورية ، وبقي الوفد في المطار لا يقبل الدخول حتى تغيير الشعار على بطاقات مشاركته إلى علم ذي النجوم الحمراء.

وبالتوازي ، أعلنت فوزة اليوسف الرئيسة المشتركة للهيئة التنفيذية لفيدرالية شمال سوريا ، عدم مشاركة الإدارة الذاتية الكردية في مؤتمر سوتشي بسبب العملية العسكرية التي تشنها تركيا على عفرين ، والتي تحظى بموافقة ضمنية من جانب موسكو على نحو ما تجلى في سحبها قواتها من محيط عفرين وفتحها الأجواء السورية أمام المقاتلات التركية، موضحة أن الضامنين في سوتشي هما روسيا وتركيا، اللتين اتفقتا على عفرين ، وهو الأمر الذي يتناقض مع مبدأ الحوار السياسي حين تنحاز الدول الضامنة إلى الخيار العسكري.