1236195
1236195
إشراقات

قواعد وأخلاقيات المرور.. بين الموجبــات الشرعية والأعراف الإنسانية

01 فبراير 2018
01 فبراير 2018

الالتزام بالنظام -

يحيى بن سالم الهاشلي -

«الالتزام بأنظمة السير هي مطلب ديني قبل أن تكون مطلبا قانونيا، وهنا نقف لبيان أمر الحوادث المرورية الواقعة على البعض من الناس الذين يتسببون بها بسبب الطيش واللامبالاة والتهور، ثم يتعذرون ويعتذرون بأنها قدر مقدور عليهم وكتاب من الله سابق واقع، ولعمري إن هذا لهو العذر الأقبح من ذنب والغفلة المهلكة، إن الله تعالى قد جعل للنتائج أسبابا تؤدي إليها، فمن سلك طرق السلامة نالها، ومن ركب التهور والطيش كان الهلاك مصيره، فالقيادة برعونة وطيش وبسرعات جنونية هو إلقاء للنفس إلى التهلكة وقد قرر العلماء أن من يفعل ذلك فهو آثم ومن تسبب بوفاة نفسه فهو منتحر قاتل لنفسه والله حرم قتل النفس. فإن أهم ما يجعل الإنسان ملتزما بالنظام في الطرق وفي غيرها وجود الرقيب من نفسه والمحاسبة الذاتية لها وخشية الله من عواقب أفعاله».

اعتاد بنو الإنسان منذ بدء خلقهم على السير في مناكب الأرض وقطع فجاجها طلبا للرزق والتوسع في الوطن، وكأن ذلك فطرة مغروسة في نفوسهم، ويمن الله تعالى على بني البشر في غير ما موضع من الكتاب العزيز أن يسر لهم السبل ومهد لهم الأرض، فيذكر سبحانه على لسان نوح عليه السلام في معرض تعداد النعم على البشر بسط الأرض لاتخاذ الطرق فيها فيقول سبحانه: (وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا * لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا)، ومثل ذلك على لسان موسى عليه السلام مخاطبا فرعون بنعم الله عليه وعلى الناس، فقال سبحانه: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّىٰ)، وبين الله ارتباط السير في الأرض وتحصيل الرزق بقوله: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ۖ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ)، فمن هنا يظهر أهمية الطرق في حياة بني الإنسان وكيف سلك الناس عبر القرون طرقا في البر والبحر كانت همزة تواصل بينهم ومن خلالها نقلوا ثقافاتهم وتبادلوا مصالحهم، فوصلت الشرق بالغرب والشمال بالجنوب، وما زالت تلك الطرق من قديم الزمان مسلوكة ويستحدث الناس في كل يوم مسارات وطرقا تربط المدن بالمدن والدول بالدول والقارات بالقارات تحقيقا للتواصل بين الأمم، لذلك لم يغفل الإسلام هذه الأهمية الكبرى للتنقل في حياة الناس، فجاءت النصوص الشرعية بجملة من الأحكام العامة والتوجيهات الخاصة التي تعنى بآداب الطريق توجه المسلم لحسن العمل فعلا وتركا.

إن التطور المتسارع في وسائل النقل الحديثة نتج عنه إلى جانب الفوائد والمنافع ظواهر سلبية، فكان من الواجب أن تكون هناك أنظمة وقواعد تضبط أمر النقل، ولعل قيادة المركبات السيارة صغيرها وكبيرها من أكثر ما يمس حياة الناس إذ أصبحت من ضرورات الحياة التي تعسر بدونها، واستخدامها شائع لدى الأغلب من الناس قيادة وركوبا، لذا سعت الدول لوضع القوانين المنظمة لقيادة المركبات والسير بها على الطرق وما يكون من ضوابط للسرعة واشتراطات الأمان الواجب توافرها في المركبات وغيرها من الأنظمة التي تحقق السلامة والأمان لعموم المجتمع، وإن الشرع الحنيف ليوجه في نصوصه العامة والخاصة على أن حفظ النفوس والأموال مطلب شرعي وكل ما يحقق ذلك فهو واجب، لذلك لا يمكن للإنسان أن يتنصل عن الالتزام بالقوانين والأنظمة التي تحكم قيادة المركبات وذلك في حال غياب الرقابة القانونية، إذ أمر الالتزام بها يترتب عليه قبل المساءلة الدنيوية مساءلة أخروية ثوابا وعقابا، وهناك الكثير من النصوص التي وردت لها صلة بهذا الجانب نستعرض بعضها، إذ يبدأ الله في ذكر أوصاف عباد الرحمن ثناء عليهم بذكر سيرهم بطمأنينة فقال سبحانه {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا}، إن هذا الوصف لا يقتصر على الراجلين من الناس بل يشمل كل ما يكون سيرا على الأرض، فالمسلم الذي يقود سيارته ينبغي أن يقودها ملتزما بالسرعات المحددة قانونا، بل وجاء النهي عن المشي مرحا فقال تعالى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا)، فذا النهي عن السير بمرح متحقق في قيادة المركبات كمن يقود سيارته متجاوزا السرعة والأنظمة المرورية طيشا واستهتارا، وإن تحقق هذه الأوامر ولزومها لقائدي السيارات أكثر لزوما من السائر على قدميه، إذ الخطورة الواقعة من قيادة السيارات على الأنفس والأموال عظيمة وفسادها كبير والله نهى عن السعي بإفساد فقال: (وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)، كما نجد في سنة النبي صلى الله عليه وسلم من التوجيهات الجليلة والنبيلة ترشد لآداب حنيفية توافق الفطر السليمة، فنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم يقرر أن أدنى شعب الإيمان إماطة الأذى عن الطريق كما جاء النهي عن الصلاة وهي قربة لله في الطريق المسلوك تحقيقا لرفع أدنى درجات الضرر عن سالكي الطريق، فالمسلم الذي يعي هذه المقاصد النبوية الشريفة لن يكون مصدرا لأذى وضرر يحققه بنفسه أو بسيارته التي يقودها، وتقرر السنة المطهرة عموم ذلك كما في حديث (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده) فمن السلم في واقعنا اليوم أن يلتزم المسلم بقواعد قيادة المركبات ليحقق سلم المجتمع وأمنه، فمن هنا نعلم أن الالتزام بأنظمة السير هي مطلب ديني قبل أن تكون مطلبا قانونيا، وهنا نقف لبيان أمر الحوادث المرورية الواقعة على البعض من الناس الذين يتسببون بها بسبب الطيش واللامبالاة والتهور، ثم يتعذرون ويعتذرون بأنها قدر مقدور عليهم وكتاب من الله سابق واقع، ولعمري إن هذا لهو العذر الأقبح من ذنب والغفلة المهلكة، إن الله تعالى قد جعل للنتائج أسبابا تؤدي إليها، فمن سلك طرق السلامة نالها، ومن ركب التهور والطيش كان الهلاك مصيره، فالتوجيه القرآني صريح الدلالة على ذلك فالله تعالى يقول: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إن القيادة برعونة وطيش وبسرعات جنونية هو إلقاء للنفس إلى التهلكة وقد قرر العلماء أن من يفعل ذلك فهو آثم ومن تسبب بوفاة نفسه فهو منتحر قاتل لنفسه والله حرم قتل النفس فقال: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) فمن فعل ذلك بسلاح أو بشرب سم أو بتهور في قيادة مركبة كلها تعمد في قتل النفس وهي في الحكم سواء، وإن ما ينتج عن هذه الحوادث من إهلاك للأنفس والأموال وترويع للآمنين كله مما يأثم فاعله المتسبب به فلا يظن أن تعليق كسب يده على شماعة القدر يعفيه عن المسائلة عند ربه، فهذا ظن فاسد وفكر عقيم مهلك، فكل نفس بما كسبت رهينة، وإن ما نشاهده من فواجع في الطرق يتسبب بها المتهورون يستلزم أن تكون هناك وقفة جادة صارمة تعيدهم للصواب، فكم من عائلات فقدت عن بكرة أبيها وبيوت خوت من ساكنيها ونساء رملت وأولاد تيتمت وأمهات ثكلت في لحظة طيش من سائق متهور، فواجع تشاهد في المستشفيات لشباب صاروا ضعافا من بعد قوة، عاجزون من بعد قدرة، يبكون لحظة الطيش التي قلبت حياتهم رأسا على عقب ولكن هيهات ساعة ندم حين لا ينفع الندم، ولا تخفى الخسائر المادية المترتبة على هذه الحوادث والنفقات التي تنفق على آثارها مستنزفة موارد الأمم، وكان أحق أن تصرف في البناء والرفعة والتنمية.

إن الجهود المبذولة في الحد من الحوادث المرورية والمظاهر السلبية للقيادة من الجهات المسؤولة ينبغي أن تساند من المجتمع، فالدور الأول يكون من داخل الأسرة إذ هي المسؤولة عن إخراج الأفراد الواعين الملتزمين بحفظ أمن وسلامة المجتمع في كل الجوانب ومنها قيادة المركبات، فالأب ينبغي أن يكون قدوة لأبنائه بالتزام قواعد وأنظمة المرور أثناء قيادته فيغرس في نفوسهم هذا الالتزام، ويجعل من ركوبهم معه درسا تطبيقيا لآداب الطريق، ويضرب لنا الله في كتابه المثل لعظة والد لولده بلقمان وابنه الذي جاء بموعظة شاملة لحقوق الخالق والخلق، فجاء في وصية لقمان لابنه قوله: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)، فأمره بأن يكون مقتصدا في مشيه لا متجاوزا وأن لا يكون مختالاً مرحا، وهذا يدخل في حقوق الخلق، وفي عصرنا ينطبق هذا على قيادة المركبات فينبغي للمربين أن يأخذوا بهذه العظة في تربيتهم لأبنائهم.

كما أن هناك دورا يخص مؤسسات المجتمع الوثيقة الصلة بأفراده كالمساجد والمدارس والجامعات والأندية الرياضية والثقافية وكل من كان له دور توعي أن يكون هناك توعية شاملة أخلاقية وعلمية توظف الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لإيصالها لأكبر فئة من المجتمع، وأن يكون هناك تصحيح لفكر الشباب في ممارستهم للقيادة وتبين لهم المخاطر المترتبة على الرعونة فيها من خلال المحاضرات من المختصين وزيارة المصابين من الحوادث، كما أن الجهات المسؤولة عن الطرق والمرور ينبغي أن تتعاون مع هذه المؤسسات في استحداث عقوبات توعوية إلى جانب المخالفات والغرامات المالية كالمعمول به في بعض الدول كحضور ساعات توعوية في القيادة أو القيام بخدمات مجتمعية تخص مجال الطرق، والأخذ بالتدرج في العقاب بحسب الفعل المرتكب وتكراره كي لا يستسهل المخالف فعله، كما أن العمل بمبدأ الثواب مع العقاب له نتائج محمودة على صعيد المجتمع، فإن تكريم الملتزمين بأنظمة المرور المراعين لقواعده كتخفيض بعض الرسوم المقررة على المركبات أو الإعفاء منها أو بأي صورة متاحة، وإعلان ذلك ونشره في المجتمع يعطيهم الدافعية للاستمرار ويرغب الغير في سلوك مسلكهم بالالتزام.

وختاما إن أهم ما يجعل الإنسان ملتزما بالنظام في الطرق وفي غيرها وجود الرقيب من نفسه والمحاسبة الذاتية لها وخشية الله من عواقب أفعاله، فينبغي أن تتظافر الجهود لإيجاد هذا الإنسان في مجتمعنا فبه تكون الوقاية من الخطر وسد نتائجه الوخيمة.