أفكار وآراء

الطريق إلى نصرة القدس

26 يناير 2018
26 يناير 2018

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

كانت قضية العالم العربي المحورية وستظل طوال عقود هي فلسطين إلى أن تتحرر من ربقة الاستعمار، ولحين قيام دولة فلسطينية مستقلة مركزها وعاصمتها القدس الشرقية، ذاك الحلم الذي طال انتظاره طوال سنوات وأعوام وعقود وآن له أن يتحقق.

على أن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخير الذي أعلن فيه اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة لإسرائيل، قد جعل المجتمع الدولي، وكذلك الإسلامي ينتفضان، فترامب لم يكن له أن يفعل في ما لا يملكه، وما ترفضه القوانين الدولية التي لا تزال ترى في القدس أراضي محتلة.

انتفض المجتمع الدولي، حين رفعت مصر الطلب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وقد أعلنت أغلبية أعضاء المؤسسة الأممية أن قرار ترامب باطل، ولا شرعية أممية له، وهناك لم يعد يجدي الفيتو الدولي، ولا التهديدات الأمريكية بقطع المساعدات عن الدول التي ستصوت لصالح فلسطين.

في هذه الأثناء ما كان للأزهر الشريف أن يقف صامتاً ... لماذا؟

لأن القدس هي قضية دينية إيمانية في جوهرها وطابعها وهي مرتبطة أشد الارتباط بالمقدسات المسيحية والإسلامية على حد سواء، ومن هنا جاءت الدعوة إلى عقد مؤتمر دولي لنصرة القدس في القاهرة الأيام القليلة الماضية. عدة أسئلة جوهرية تواجه الناظر للمؤتمر وفي المقدمة منها هل من فائدة لمثل هذا العمل بعد مؤتمرات طوال عقدت وتناولت القضية طوال سبعة عقود خلت؟

الشاهد أن علامة الاستفهام المتقدمة تهمل أهمية عنصر التاريخ في مسارات الأحداث الدولية وجدليته المستمرة والمستقرة مع تطور شؤون البشر، فالتاريخ حي متحرك غير جامد، وعليه فإن أحداثه لا تتوقف عند منعطف ما، بل تتعدل وتتبدل موازينه، ومقادير القوة فيه.

ما نعنيه بهذا الكلام هو أن الارتكان المطلق على فكرة القوة العسكرية لدى إسرائيل، والتي تدعمها الولايات المتحدة الأمريكية بشكل كبير، هو رهان خاسر، ذلك أن أحداً لا يمكنه القطع بأوضاع القوة في العقود القادمة، ومن هنا فإن المستقبل يحتاج لصناعته من اليوم، وما مؤتمر الأزهر الأخير إلا صرخة في وجه النسيان أو في وجه القول بنهاية التاريخ إن جاز لنا أن نقتبس عنوان «فرنسيس فوكاياما» الأشهر.

في هذا السياق لفت فضيلة الدكتور الشيخ أحمد الطيب شيخ الأزهر الانتباه إلى تلك الإشكالية، وكيف أن الآخرين دربوا أنفسهم وأولادهم وعلموهم أن القدس يهودية طوال ألفي عام، ما جعل التضحية بالنفس والمال والولد بالنسبة إليهم أمر يسير ومحبب.

وربما ما لم يذكره الشيخ الطيب هو وحدة الهدف والرؤية والاستراتيجية عند يهود العالم طوال 2000 عام ذلك أنه بعد الشتات الذي حل بهم في حدود عام 70 ميلادية على يد الرومان، ثم هدم الهيكل، ظلوا في احتفالاتهم وأعيادهم لا سيما عيد الفصح يهنئون بعضهم البعض متمنين أن يكون العيد القادم والاحتفال به في القدس، ولم يتسرب اليأس إلى نفوسهم طوال ألفي عام، ولا دب الإحباط ولا عرف طريقه إلى عقولهم.

وفيما بعد وحين أعلنت إسرائيل دولة عام 1948، فقد كان التعبير الأشهر لأول رئيس وزراء لإسرائيل «دافيد بن جوريون»: «إنه لا فائدة لإسرائيل بدون القدس، ولا معنى للقدس بدون الهيكل»، واعتبرت هذه العبارة بمثابة الركيزة الرئيسية التي بنى عليها اليهود توجهاتهم، بمعنى أن الاستيلاء على القدس الشرقية ظل ظاهراً أمام أعينهم، وهو ما حدث عام 1967، والآن تدور الدوائر وتكثر الحكايا عن الهيكل، وعن شكله وبنائه، وكيف أنه لابد له أن يقام مكان المسجد الأقصى الحالي، وهي قضية شائكة تحتاج لحديث منفصل.

ما يهمنا في الأمر هنا هو أن مؤتمر الأزهر كان صيحة تذكر الناس وترفع الالتباس، وقد أحسن القائمون على المؤتمر حين اختاروا محاور المؤتمر.. الوعي.. الهوية.. المسؤولية... ذلك أنه لا نهضة بدون وعي سياسي وثقافي، وتاريخي وديني، والهوية تصبغ على الوعي التوجه والحضور وتبلور روح الكيان، أما المسؤولية فتلقي بتبعاتها على الحاضر والمستقبل، مسؤولية تجاه القدس والمقدسيين ولو طال الزمان.

استحضرت الكلمات بعضا من أحداث التاريخ، وما عاشته بل وعانته مدينة السلام، المدينة المقدسة، فقد تم الاستيلاء عليها بالقوة طوال مائتي عام من قبل جماعات الفرنجة كما أسماهم العرب، أو الصليبيين بحسب المنطوق الغربي، ولم يكن لهم البقاء والدوام أكثر من ذلك وحدث استرجاع القدس السليب في لحظة تاريخية فاصلة.

من هنا بدا واضحاً أهمية التركيز على مشكلة القدس في كافة المراحل التعليمية في كل أرجاء الوطن العربي، بحيث يستنير طلابنا مسلمين ومسيحيين بمعلومات يستطيعون من حلالها كشف زيف الروايات الصهيونية وادعاءاتها في عدم أحقية المسلمين والمسيحيين في مدينة القدس، سيما وان الكتب في هذا الشأن كثيرة جداً، ولكنها لا تصل للقاعدة العريضة من الشعب القارئ.

يستلفت النظر في مؤتمر الأزهر الشريف أنه استطاع تقديم صورة إيمانية وإنسانية للعرب، فهو لم يقتصر على المسلمين من العالم العربي والإسلامي، بل شارك فيه المسيحيين العرب بحضور فاعل وقوى، ما يعني إرسال رسالة إلى الغرب بأن القدس تجمعنا ولا تفرقنا، الأمر الذي تبدى من خلال كلمات رؤساء الكنائس المسيحية الكبار مثل الكاردينال بشارة الراعي بطريرك الكنيسة المارونية، والبابا تواضروس الثاني بابا الأقباط في مصر، عطفاً على وجود ممثلين للمسيحية من غير العرب، مثل مسؤول مجلس الكنائس العالمي. وحضور هؤلاء في واقع الأمر له أهمية خاصة، ذلك لأنه من جهة يبين متانة النسيج الاجتماعي العربي ووحدة كلمته أمام ما يجري للقدس، تلك المدينة المقدسة الزاخرة بالتاريخ المسيحي وبحياة والمسيحيين الأوائل، ومن جهة ثانية أنه يبين كيف أن الروايات التي تروجها جماعات بعينها استطاعت ربما الوصول إلى عقل ترامب أو تزييف الحقائق ... ماذا عن هذا؟ بدون تطويل ممل أو اختصار مخل يمكننا الإشارة إلى الاتجاه الذي أذكته الصهيونية في جنبات الضمير العالمي، وروجت أنه تراث مسيحي، يتصل بفلسطين والقدس وأنه لابد من قيام دولة إسرائيل، ولابد من هدم الأقصى، وتالياً بناء الهيكل، كل ذلك بهدف تهيئة الأجواء لنهايات الأيام وعودة المسيح إلى الأرض وقيام ما يسمى بالملك الألفي. والشاهد هنا أن كافة أركان وجوانب تلك القصة هي زائفة شكلاً وموضوعاً وهو الأمر الذي تم الاتفاق عليه بين أصحاب الكنائس الكبرى حول العالم الكاثوليكية والأرثوذكسية بنوع خاص. ولعل ما يميز مؤتمر الأزهر الشريف لنصرة القدس، أنك كنت ترى بين جنباته جماعات يهودية معروفة باسم «ناطورى كارتا» أي «حراس المدينة» وهي حركة يهودية أرثوذكسية، ترفض الصهيونية السياسية بكل أشكالها وتعارض وجود دولة إسرائيل، وتعدادهم يقارب الخمسة آلاف نسمة موزعين بين القدس ولندن ونيويورك، وتنادي بنهاية سلمية للدولة الإسرائيلية، ورؤيتهم أن قيام دولة إسرائيل يعطل بالفعل مجيء المسيح المخلص بحسب التفكير اليهودي التقليدي.

ومن الملامح الزاهية للمؤتمر الحضور السياسي العربي والآسيوي وبعض الأجنبي وفي المقدمة منه حاضرة الفاتيكان التي وثقت علاقاتها بشكل كبير في السنوات القليلة الماضية مع الأزهر الشريف، وقد بعث البابا فرنسيس بكلمة إلى الحاضرين، أكد فيها من جديد على مواقف الفاتيكان الواضحة والتي لا تقبل اللبس، حيث الحرص على قيام دولة فلسطينية مستقلة وعلى ألا يستأثر بالسيادة أو الهيمنة على القدس، وأن يفتح الباب واسعاً للحوار من حولها، وأن تظل أبوابها مفتوحة من أجل أن يمارس كل أتباع الأديان الإبراهيمية شعائرهم الإيمانية على أراضيها، وفى كنائسها ومساجدها، ودون أن يعني ذلك إهمال معابدها.

وحين اعتلى الرئيس محمود عباس منصة المؤتمر، كانت فلسطين تطل من بين مآقي عينيه، ولعل أفضل ما جاد به في القاهرة الأيام الماضية تأكيده على أن النضال من أجل فلسطين والقدس في القلب منها سوف يمضى قدماً، وفي كل الاتجاهات، وبكل الوسائل والآليات، لكن دون أن يعني ذلك أن خيار العنف مطروح.

هذا الحديث الذي تكلم به أبو مازن في واقع الحال يلفت أنظار العالم من حولنا إلى رفض العرب والمسلمين للعنف أو الإرهاب كطريق يمضى إلى الأمام، بل يعمق الكراهيات وأن الهدف من هذا النضال ليس إذلال أو كسر الشعب الإسرائيلي ولكن إيقاظه من غفلته التي طالت، وتنبيهه إلى الظلم الذي وقع على أصحاب الأرض الحقيقيين، دون تسليم العقول والأذهان لروايات تاريخية لا فائدة من ورائها سوى زرع الطرق بالأشواك والدروب بالكراهية.

الذين استمعوا إلى الدكتور أحمد الطيب في بيانه النهائي يحق لهم الإشارة والإشادة بعدة نقاط رئيسية من بينها دق أجراس الخطر للإدارة الأمريكية الحالية تجاه القرار الخاطئ الأخير، وأنه ما لم يتم التراجع عنه، فإنه يفتح الباب واسعاً أمام زيادة حركات التطرف والأصولية حول العالم.

والشاهد أيضاً أن هذه جزئية فاعلة وخطيرة في ذات الوقت، فكافة جماعات الإسلام السياسي بداية اتخذت من قضية فلسطين تكئة لتكوين جماعات عنف مسلح، حدث ذلك في بدايات حرب 1948، عندما استغلت جماعة الإخوان المسلمين الحرب في فلسطين لبناء أجنحتها العسكرية، وليس سراً القول إن كافة الجماعات الإرهابية التي نراها اليوم كالقاعدة وداعش سارت على نفس الدرب، ومعنى بقاء القضية الفلسطينية دون حل عادل، ومعنى العسف غير الإنساني ولا الإيماني بمكانة القدس ومركزيتها في العقلية العربية والإسلامية، هو أن تلك الجماعات ستجد وقوداً في الحال والاستقبال من أجل استمرار العنف وشيوع وذيوع الإرهاب حول العالم. ومن أفضل ما طرحه البيان الختامي حث عقلاء اليهود أنفسهم للاعتبار بالتاريخ، الذي شهد على اضطهادهم في كل مكان حلوا به إلا في ظل حضارة المسلمين، وأن يعملوا على فضح الممارسات الصهيونية المخالفة لتعاليم موسى عليه السلام التي لم تدع أبداً إلى القتل أو تهجير أصحاب الأرض أو اغتصاب حقوق الغير وانتهاك حرماته وسلب أرضه ونهب مقدساته.

إن مؤتمر الأزهر لنهضة القدس، خطوة إنسانية إيمانية تذكر العالم بعدالة القضية، وبأهمية الوعي من أجلها، حيث إن نتائجها كفيلة بتغيير أجواء العالم إلى صيف أو شتاء.