الملف السياسي

الطاقة الخضراء :الإمكانيات والدوافع والتحديات

22 يناير 2018
22 يناير 2018

د. صلاح أبونار -

تندرج الاستراتيجية العمانية للانتقال الى الطاقة المتجددة، في إطار مسعى عام عالمي لترجيح كفتها على مصادر الطاقة التقليدية، حظي بالتزام عالمي مقنن مع توقيع اتفاقية باريس للمناخ 2015.

غير أن المسعى العماني يمتلك وجهه الوطني الخاص والأعمق، الذي تمتد جذوره الى البدايات الأولى لمسيرة النهضة العمانية الحديثة ، في قلب مفهوم التنمية العامة المتوازنة والمخططة. ففي توقيت مبكر جدا من انطلاقة مسيرة النهضة المباركة ، عرفت عمان أربع هيئات مركزية للتنمية، تعاقبت سريعا في خضم المحاولة للبحث عن أفضل صيغ الإدارة المخططة للتنمية. إدارة التخطيط والتنمية في عام النهضة الأول، تلاها المجلس الأعلى للتخطيط والتنمية الاقتصادية 1972، الذي أعقبته الهيئة العامة للتنمية في أبريل 1973 ، وفي العام التالي 1974 تأسس مجلس التنمية . وفي عام 1976 أطلقت عمان أولى خططها الخمسية 1976-1980، التي توالت بانتظام حتى أصبحنا على مشارف نهاية الخطة الخمسية التاسعة.

خلف هذا الوعي المبكر بالدور المركزي للتنمية المخططة ، سنجد قناعة بكون النفط هبة استثنائية من الطبيعة . وبطبيعتها تلك يتسم مداها الزمني بالطابع المؤقت، ويتسم عائدها الاقتصادي بعدم قابليته للخضوع الكامل للإرادة الوطنية، لكونه سلعة قابله للتأثر العميق بقوى السوق العالمي ومصالح واستراتيجيات القوى الدولية. وبالتالي يتعين الاستفادة منها بأقصى حكمة ممكنة، عبر تخطيط مستقبلي يسعى لتعظيم الاستفادة من الريع النفطي، بينما يسعى في نفس الوقت، للدفع به بعيدا عن مركز المجالين الاقتصادي والاجتماعي، عبر جملة من السياسات المترابطة. سياسات التنمية الإنسانية في الصحة والتعليم والثقافة والمرافق العامة، وسياسات التنويع الاقتصادي وفي إطارها سياسات دعم نمو القطاع الخاص الصناعي ، وبالتحديد المشاريع الصغيرة والمتوسطة منه، وسياسات تقليص دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، وسياسات المشاركة بين القطاعين العام والخاص.

ومن السهل عندما نحلل السياقات التنموية السابقة، أن نرصد داخلها ليس فقط مقدمات سياسة الطاقة المتجددة، بل أيضا مستهدفاتها الاقتصادية والاجتماعية الأوسع نطاقا من الطاقة ذاتها.

قادت سياسات التنمية الى تصاعد مطرد، في الطلب العماني العام على الطاقة خاصة الكهربائية. وفقا للبيانات الرسمية ارتفع الطلب على الطاقة الكهربائية من 2643 ميجاوات ساعة عام 2005 الى 4717 عام 2013 بمعدل 9.45% سنويا. وفي المقابل كان العرض يتطور بمعدل أعلى من معدل الطلب، فبعد ان كان2771 ميجاوات ساعة في عام 2005، وصل الى 5006 في عام 2013.

يواجه هذا الطلب اكثر من مشكلة. فهو آخذ في الارتفاع بمعدلات عالية، فيقدر انه على مدى سته أعوام فقط 2005 -2011، ارتفع بنسبه 65%. وحتى الآن هناك فارق لصالح العرض، ارتفع من137 ميجاوات ساعة عام 2005، الى 289 ميجا وات عام 2011 . إلا أنه فارق معرض للتآكل بل للانقلاب ، لأنه الطلب في عام 2010 مثلا تخطي العرض، بمقدار198 ميجاوات ساعة. والمشكلة الثانية أن حوالي 99% من تلك الطاقة الكهربائية تولدها محطات تدار بالغاز. والمعادل الكمي لهذه النسبة آخذ في التصاعد، ففي عام 2010 مثلا استهلكت محطات الكهرباء 6.3 بليون متر مكعب من الغاز، وهي كمية أكبر من المستهلك عام 2005 بنسبة91%. ومع الاستمرار الحتمي في ارتفاع الطلب، ستتراجع القدرة على تصدير الغاز، وهي ظاهرة عرفتها مصر و الكويت ومن بعدهما السعودية. وهذا من شأنه تقليص مستوى عائد الغاز الذي وصل في موازنة 2018 الى 1.91 مليار ريال.

طرحت خيارات مختلفة لمواجهة تلك المشكلة، ولكن خيار الطاقة المتجددة أخذ في احتلال موقع الخيار الاستراتيجي . وجاء هذا التقدم تحت تأثير ثلاثة عوامل . أولها: الرغبة في تجنب الحلول الاقتصادية التقشفية والانكماشية، المؤثرة على رفاهية المواطن ومعدلات النمو الاقتصادي.

وثانيها : التأثير الحتمي لقوة الدفع العالمي صوب الطاقة الخضراء، الناتج عن: أزمات البيئة المحتدمة في دول الشمال، وتفاعلية الأزمات البيئية على امتداد العالم، والوعي الكوني بوحدة المصير البشري في مواجهة أزمة البيئة.

وثالثها: الوعي العماني الذي تبلور على مدى زمني ممتد، وعبر سلسلة من الدراسات الواسعة والمنهجية ، بالإمكانيات العمانية العالية في مجال الطاقة البديلة، وبالأخص الشمسية.

إلا أن ذلك لم يكن كافيا في حد ذاته للدفع صوب تبني استراتيجيات الطاقة البديلة. فعلى مدى عقود ظلت تكلفة الطاقة القابلة للتجدد، على درجة من الارتفاع تخرجها من نطاق المنافسة الاقتصادية مع الطاقة الأحفورية. ولكن خلال العقد الأخير أخذت الصورة في التغير بشكل درامي . وفقا لتقييم بيت الخبرة «لازارد» الاستشاري العالمي، اتبع منهج التكلفة متعددة المستويات ويرجع الى أواخر 2014، كان الميجا وات ساعة المتولد من طاقة الرياح، يكلف 135 دولارا عام 2009 انخفضت الى 59 عام 2014 ، بنسبه 56% خلال خمس سنوات. وكان الميجاوات المتولد من الطاقة الشمسية، يكلف 359 دولارا عام 2009 انخفضت الى 79 دولارا عام 2014، بنسبة 78% خلال نفس الفترة. والأمر المؤكد أن الصورة اعقد من ذلك، ولكن علينا أن نلاحظ أن تلك الأرقام ترجع الى ثلاث سنوات مضت ، و أنها احتسبت وفقا لمتوسطات أسعار النفط العالية لعام 2014 ، وان الانخفاض المؤكد حدث خلال خمس سنوات فقط ، وأن هناك إجماعا علميا على أن تراجع التكلفة السريع هذا سيحافظ على وتيرته العالية.

وفي سياق هذا التراجع الحاد في التكلفة، شرعت المؤسسات العمانية في عملية رصد ، منهجية وشاملة ، للإمكانيات العمانية للطاقة المتجددة. انطلقت من أوائل العقد الماضي ، وكان لهيئة تنظيم الكهرباء ومجلس البحث العلمي الدور الرئيسي فيها. وكان أهم خطواتها دراسة :« مصادر الطاقة المتجددة في عمان» 2008، ودراسة جاهزية عمان للطاقة المتجددة 2014، ودراسه أطلس الرياح 2015، والبرنامج البحثي للطاقة المتجددة بمحاوره الأربعة . وفي سياق هذا الجهد أطلقت «الاستراتيجية الوطنية للطاقة» 2015.

ووفقا للحصيلة العلمية لتلك الدراسات تمثل الطاقة الشمسية المصدر الأهم . تمتلك عمان معدل إشعاع يصنف ضمن افضل المعدلات العالمية، وبكثافة قادرة وفقا لدراسة 2008 على تزويد البلاد بكل حاجتها من الطاقة الكهربائية ، ومعها فائض للتصدير . يليها طاقة الرياح ولكن في مواقع جبلية وساحلية معينة. ووفقا لنفس الدراسة فإنه في إمكان موقعين من مواقع الدراسة الخمسة، انتهى التحليل لصلاحيتهما للإنتاج الاقتصادي، اذ انهما ينتجان ما يوازي 20% من طاقة عمان المولدة عام 2005. أما أمواج شواطئ عمان البحرية، فهي مثل أمواج شاطئ العرب كله، لا تمتلك الخصائص الطبيعية اللازمة لإنتاج الكهرباء.

لم تحصر تلك الدراسات اهتمامها في نطاق استكشاف الإمكانيات الطبيعية، وبناء قاعدة البيانات وتأسيس القدرات والشبكات العلمية الداعمة فقط . فلقد اتسع نطاقها الى سياسات ونماذج التطبيق العملي، ولهذا كان من الطبيعي ان تنطلق مسيرة التطبيق العملي بالتوازي معها. يجري حاليا تنفيذ مشروعين أساسيين. مشروع مرآة في حقل أمل التابع لشركة نفط عمان، والذي يستخدم الطاقة الشمسية بديلا عن الغاز، في تقنية الاستخلاص المعزز للنفط الحراري. هذا المشروع سيوفر 5.6 بليون وحدة حرارية من الغاز، يمكن استخدامها في توليد كهرباء منازل اكثر من309000 عماني، ويوفر انبعاثات كربون توازي انبعاثات 63000 سيارة. ومشروع محطة رياح ظفار، الذي سيوفر50 ميجاوات ، وسيحد من الانبعاث الكربوني بمقدار 110000 طن سنويا. وعلاوة على ذلك هناك مجموعة أخرى من المشروعات في طور التخطيط. منها محطة رياح مصيرة، ومحطة رياح ثمريت، ومحطة المزيونة الشمسية، ومحطة ثمريت الشمسية، ومحطة هيماء الشمسية.

لا تنحصر المزايا الاقتصادية للطاقة المتجددة، في قدرتها على تأمين تصاعد عرض الطاقة في مواجهة التصاعد السريع للطلب، ولا في قدرتها في المستقبلية المؤكدة على تخفيض الإنفاق العام على الطاقة، ولا في حماية صادرات الطاقة من التراجع وبالتالي موارد الموازنة. فهناك مزايا أخرى تؤكد عليها الدراسات المقارنة . منها ان الطاقة المتجددة بالمقارنة بالتقليدية، أكثر قدرة علي خلق الوظائف، و نقل التكنولوجيا، وتوليد المشاريع المتوسطة والصغيرة. وهي المزايا المرتبطة بالاختلاف بين المجالين، من حيث حجم استثمارات راس المال، ودرجة الاحتكار في شركات المنبع، ومستوى الحماية المفروض على عمليات نقل التكنولوجيا.

ولكن إذا كانت الطاقة المتجددة قادرة على منح العديد من المزايا، ستواجه أيضا تحديات عديدة بالأخص في مراحلها الأولى . في القطاع غير الرسمي منها، سوف تحتاج إلى نوع من الدعم الاقتصادي عبر أشكال عدة. منها الدعم المباشر، والإعفاء الضريبي على الواردات، والإعفاء على المشاريع الاستثمارية. هذا النوع من الدعم مؤقت، ويسير وفقا لبرامح زمنية محددة قابلة للمراجعة، ونجد نماذج له في معظم الدول الصناعية المتقدمة. ومنها الدعم عبر القروض المميزة، سواء للصناعات المنتجة للطاقة البديلة، أو للصناعات المعتمدة عليها، أو للمجمعات السكنية المستخدمة لها.

غير أن التحديات لا تقتصر على المجال الاقتصادي، فالتحديات التقنية لا تقل أهمية. منها الوعي بأهمية توافر قاعدة مساندة واقتصادية للصيانة والإحلال، في نطاق استخدام المجمعات السكنية الكثيفة للطاقة الشمسية. ومنها البناء المتكامل لقاعدة البيانات، بما يتيح القدرة على اتخاذ انجح القرارات في اختيار المواقع. فبدون هذه القاعدة مثلا، يمكن أن نختار مناطق إطلاق للطاقة الشمسية كثيفة الإشعاع على مدار العام، ولكن مستوى ترسب الغبار فيها شديد الارتفاع بدرجه تخرجها من نطاق الصلاحية الفنية والاقتصادية للاستخدام.