أفكار وآراء

البنية التحتية والبنية الفوقية

10 يناير 2018
10 يناير 2018

مصباح قطب -

[email protected] -

تثير مشاريع البنية التحتية الضخمة الكثير من السجالات، وتحرك جدلا داخل المجتمعات وخارجها، ليس فقط لضخامة الإنفاق عليها، ووجوب التأكد من ملاءمة العائد للمنفق، ولكن أيضا لأسباب تتعلق بالأوليات وطرق التمويل ودور كل من الحكومة والقطاع الخاص فيها وأيضا - وهذا جديد - بسبب التنافس العالمي حول الإبهار التصميمي فيها حيث اصبح هناك من يهتم عالميا بعمل مؤشرات أو تصنيفات لأهم المشاريع في العالم في النطاق الواحد (بنايات سياحية- إنفاق- طرق معلقة- معابر) وأيها أكثر إبهارا، وأكاد أذهب إلى أن بعض المشاريع سيصبح فيما هو مقبل ضمن جولات الزيارات السياحية والأجندات السياحية التي تروجها الشركات أو تروج بها الدولة لنفسها. لقد عشنا فترات نحرص على زيارة هذا القصر ذي الحدائق أو ذاك في انجلترا أو فرنسا أو أسبانيا أو النمسا الخ، أو نزور ذلك الجسر القديم في مصر أو باريس أو نيويورك بحثا عن القيم الجمالية والمعمارية في أي منها وكذا تقديرا لمن أقاموها في ظروف صعبة حيث لم تكن التكنولوجيا بالتقدم الذي هي عليه الآن. وقد جاءت اللحظة لم تمد هذا الخط على استقامته وقد رأينا بالفعل علامات على ذلك فبرجى “بتروناس” في ماليزيا وبرج خليفة في دبي هي دلائل على مدى إقبال السياح وموطني البلد على زيادة المبنى بذاته قبل اي تسوق أو طلبا لخدمات أخرى يتم تقديمه فيهم، وربما أيضا كوبري استانلي - الذي اقيم طبقا لطراز يتوافق مع مباني قصر المتنزه الأشهر بالاسكندرية/‏‏‏مصر.

خلاصة القول إن المشاريع الضخمة عموما محل رصد واسع من المجتمع نفسه أو دول الجوار - بالذات التي تتنافس في إقامة الأعلى والأكبر والأطول وهكذا - بل وفي أرجاء الدنيا ناهيك طبعا عن دوائر المال والتمويل والاستشارات والهندسة المعنية.

قد لا أكون من المفتونين بكتاب مذكرات قرصان اقتصادي والذي تحدث فيه -كما نعلم- عن أن الاستخبارات الاقتصادية في الدول الكبرى عملت وتعمل على توريط الدول في الديون عبر دفعها إلى إقامة مشاريع بنية تحتية كبيرة والتوسع في تمويلها بالدين بحيث إذا جاء وقت السداد تعثرت -لأن تلك المشاريع لا تدر عوائد بذاتها غالبا-، ومن هنا تدخل الدولة أو الدول المقرضة لفرض شروطها السياسية وغير السياسية على البلد المدين، غير أن فكرته وطبقا لمنطق اقتصادي بحت وغير تآمري تنطوي على جانب صحيح .. فأخطر ما يمكن لبلد أن يفعله هو إقامة بنية تحتية فخمة لكن غير مرتبطة بإصلاح هيكلي واسع للقطاعات الحقيقية في الاقتصاد، اي قطاعات إنتاج السلع والخدمات وقطاع الزراعة. ولذلك فان هذا البعد يجب أن يكون أمام ناظر صانع السياسات دائما، وعليه ان يتأكد ان نمو الإنتاج والإنتاجية يسيران جنبا إلى جنب مع نمو البنية التحتية وتطورها او يسيران متقاربين إلى أن يلتحما بعد فترة زمنية من تأسيس البنية التحتية المواتية، والا لما وجد البلد عوائد يسدد منها ما عليه، كما أن الإنفاق على البنية التحتية يولد فرص عمل غير دائمة، فإذا جاء وقت إتمامها دون أن يكون الاقتصاد قد تطور وأدى إلى توفير فرص عمل كثيرة، فستحدث بطالة واسعة ما يؤدي إلى موجات غضب واحتجاجات اجتماعية.

ثمة منهجان في التعامل مع البنية التحتية الأول هو المذهب الكينزي -نسبة الى لورد كينز- وهو الذي يذهب إلى أن التوسع في إقامة مشاريع البنية التحتية والإنشاء والصيانة وقت الركود عامل مهم في تهيئة الأوضاع للخروج من الركود وإيجاد فرص عمل وبالتالي توليد دخول تسمح للأيدي العاملة بدخول سوق الطلب على السلع والخدمات وبالتبعية تعود الدورة الإنتاجية إلى طبيعتها. بمعنى اخر - وعكس المنطق الظاهرى - انه كلما تأزم الاوضاع الاقتصادي كلما كان على الخزانة العامة أن تنفق أكثر (رغم أن مواردها أصبحت أقل)، لتحريك الدولاب الاقتصادي ولو بالتمويل بالعجز؛ لأنه سيأتي وقت تزيد عوائد الخزانة جراء انتعاش الاقتصاد، ومن ثم تستطيع أن تطفئ الديون التي اقترضتها.

في المقابل هناك نهج آخر حيث البنية التحتية القوية والعصرية هي مطلب مهم جدا للتحديث الاقتصادي ولإطلاق طاقات اقتصاد لا يعمل بكامل طاقته أو إطلاق نهضة اقتصادية كبيرة يتحقق فيها مستوى مرتفع من النمو والتشغيل والتصدير. ويمكن اعتبار تجربة الصين نموذجية في هذا المجال وقد اذهلني كما اذهل غيري حجم ونوع طرق  “الهاي واي” التي كانوا يقيمونها مبكرًا قبل أن تظهر علامات النهضة الاقتصادية وكيف أن ذلك أصبح نقطة ارتكاز قوية لتقدم مستمر في الاقتصاد والحياة الاجتماعية معا، وظني أن ما يجري أو جرى في دول مثل ماليزيا وتركيا وسنغافورة ومصر حاليًا وغيرهم هو أيضا مما يمكن أن ينتمي إلى المنهج الثاني.

وبطبيعة الحال تختلف طريقة كل دولة في التخطيط للبنية التحتية اللازمة وسبل تمويلها وتشغيلها وصيانتها، كما تختلف التجارب فيما يتعلق بمدى إشراك القطاع الخاص في تلك المشاريع. والبادي للعيان أن أهم ما يمكن أن يدخل فيه القطاع الخاص شريكا هو بعض الطرق الطويلة الحيوية أو التي يمكن أن تكون بديلا حيويا، وأيضا بعض الموانئ، وكذلك وبشكل أوسع محطات الكهرباء والغاز والطاقة، وبدرجة اقل محطات المياه والصرف الصحي. والملاحظ ان دور الدولة في الغرب أو الشرق يظل قويا جدا في هذا المجال ملكية وتمويلا وبل وإدارة أيضا، والسبب هو أن الكثير من مشاريع البنية التحتية لا يمكن أن تكون اقتصادية أو جاذبة للاستثمار الخاص، فالجسور والإنفاق الصغيرة أو المتوسطة والطرق الفرعية والمعابر وأماكن التخزين وخطوط الأنابيب إلى المواقع البعيدة غير كثيفة السكان، كل ذلك لا يغرى أحدا بالاستثمار فيه، لكنه ضروري للغاية لمجموعات من السكان والأنشطة.

لكن تبقى هناك شروط مرجعية للتعامل مع البنية التحتية ألخصها في النهاية في وجوب ضمان كفاءة إدارة تلك المشاريع وإنشاء هيئات تنظيمية ورقابية للإشراف عليها ورقابتها فنيا، على غرار مرفق تنظيم الكهرباء أو الاتصالات وكل ما يمكن منها أن يخضع لنظام كهذا، ويتعين أيضا عدم التساهل مع جماليات التصميمات تحت أي ظرف وأهمية اللمسات المعمارية بأفق عالمي أو وطني كلاسيكي أو حديث، وإشراك المجتمع المدني في القرارات الخاصة بالأوليات والأماكن التي تقام فيها المشاريع وتقدير مدى الإضرار والمنافع التي تنجم عنها ومراجعة الدراسات الخاصة بها اكثر من مرة وعلى اكثر من مستوى، وابتكار أدوات تمويلية جديدة (مثل سندات الإيراد) لتمويل بعض تلك المشاريع، ووجود متابعة حكومية واعية للمشاريع الممولة من الحكومة لضمان تناسق المشاريع وتكاملها، والاستماع المستمر إلى المستخدمين أو مستهكلي الخدمات الخاصة بالبنية التحتية والتحسب للمستقبل... فمن المؤسف انه يحدث كثيرا نتيجة ضيق الأفق أن يكتشف البعض انه نسي هذا الأمر أو ذاك خلال عمل شارع أو معبر أو كوبري أو رصيف أو دوران أو نفق مما ينجم عنه مشاكل ربما تكون قدر ما عالجه المشروع نفسه . وأخيرا، وكما قلت فان البنية التحتية لا يجب أن تقام بحال تحت ضغط جماعات سياسية معينة تبحث عن أصوات ناخبين، ويجب أن تحكمها دراسات موضوعية تجعلها بالفعل قرينة للبنية الفوقية أي الإنتاجية، لتحقيق أعلى مردود اقتصادي واجتماعي، وعمل افضل تشبيك ممكن بين المواقع الجغرافية المتخلفة داخل البلد أو بين البلد وبين محيطه أوعالمه.