أفكار وآراء

الحياد والتحكيم

10 يناير 2018
10 يناير 2018

د. عبد القادر ورسمه غالب -

Email:[email protected] -

إن الرغبة في اللجوء للتحكيم لحسم المنازعات التجارية تعود في أصلها لأطراف النزاع، خاصة وأن التحكيم “إرادة الأطراف” الطوعية حيث يقومون باختيار اللجوء للتحكيم دون غيره من البدائل الأخرى لتسوية النزاع بما في ذلك المحاكم القضائية. وهذه الرغبة يحميها النظام والقوانين التي تمنح التحكيم كل القوة الضرورية واللازمة لنفاذ وتنفيذ قرار التحكيم النهائي. ولكن، هناك شروط أساسية يجب أن تتوفر حتى يصبح التحكيم نافذا بقوة القانون ويتم تنفيذه وفق المتطلبات السارية.

إن هيئة التحكيم، أو المحكم الفرد، وأعمالها الإجرائية ومدة عملها وكيفية القيام باختيارها وكيفية عزلها ومستحقاتها... كل هذه النقاط تحددها الأنظمة والقوانين في أحكام إلزامية واضحة. وعلى الهيئة، أو المحكم الفرد، الالتزام بهذه الأحكام طيلة فترة عملها حتى صدور القرار النهائي وتسليمه للتنفيذ. وبالطبع، فان كل هذه الأحكام يجب مراعاتها، حتى يتمكن “التحكيم” من القيام بدوره المنشود في تحقيق العدالة الناجزة التي يتطلع لها أطراف النزاع ويعيشها ويستفيد منها كل المجتمع.

ومن أهم الأحكام الإلزامية الخاصة بالتحكيم، ضرورة توفر الحياد “نيوترلاتي” التام من المحكم الفرد أو أعضاء هيئة التحكيم وعدم وجود أي علاقة أو رابط أو تواصل بين المحكم أو أعضاء هيئة التحكيم من جهة وأطراف النزاع أو موضوع النزاع أو غير ذلك من الجهة الأخرى. ووفق هذه القاعدة الأصولية الجوهرية فان “الحياد” أي حياد المحكم أو أعضاء هيئة التحكيم أمر الزامي يجب الحرص على توفره التام وبصورة مطلقة ونهائية وكاملة وفوق كل الشبهات.

إن توفر “حياد” المحكم الفرد أو أعضاء هيئة التحكيم وعدم وجود أي علاقة مع أطراف وموضوع النزاع أو بأية علاقة أخرى، أمر هام جدا لأنه يضمن عدم تأثر المحكم أو أعضاء هيئة التحكيم بهذه “العلاقة” أو “الرابطة” التي قد تؤثر أو تلقي بظلالها على أو في قرارات أو القرار النهائي “أورد” للمحكم أو لهيئة التحكيم خاصة المنهي للخصومة. والبشر يتأثرون، سلبا أو إيجابا، بهذه العلاقات مهما كانت درجتها. ولذا يجب ألا تكون موجودة البتة وبأي صفة كانت، حتى يتوفر “الحياد” المطلق الذي تنص عليه الأنظمة والقوانين وكل قواعد العدالة الطبيعية.

من هذا الواقع والقانون، فان عدم توفر “حياد” المحكم الفرد أو أعضاء هيئة التحكيم أو أحدهم يؤدي إلى “نسف” كل ما قامت به المحكم أو هيئة التحكيم من أعمال لأن عدم توفر “الحياد” المطلق التام، ولأي درجة، يقود الطرف المتضرر للتقدم بالطعن لنقض حكم التحكيم. وإذا ثبت عدم توفر حياد المحكم الفرد أو أي عضو من هيئة التحكيم، فان المحكمة المختصة ستقضي ببطلان حكم التحكيم. وفي هذا “نسف” للتحكيم الذي تم، وفي هذا أيضا إهدار للوقت والمال وعدم احترام العدالة بل إعاقتها وامتهانها. وعلي الجميع أن يدرك منذ البداية، أن الطرف المتضرر سيبحث عن كل “قشة” لقصم ظهر البعير، أي التحكيم في هذه الحالة، وهذا أمر طبيعي وإجراء تلقائي قد يتم ويجب توقعه في كل الأوقات والأوضاع. ولتبرؤ العدالة من كل هذا، يجب توفر الحياد، بل والعمل علي توفره بالتمام والكمال..

كمبدأ عام، فان الإعلان عن “الحياد” يعتبر من المسؤوليات المباشرة والشخصية لكل محكم فرد أو عضو من أعضاء هيئة التحكيم. وهذا الإعلان يتم في أول مرحلة اختيار المحكم أو أعضاء هيئة التحكيم، حيث يطلب ممن يتم اختياره ليصبح محكما أو عضوا في هيئة التحكيم وعند إفادته بالاختيار للتحكيم، الإعلان عن عدم وجود أي علاقة ما مع أطراف النزاع أو القضية موضوع النزاع أمام التحكيم أو غير هذا من الأمور ذات العلاقة. وفي هذه المرحلة الأولية، يجب علي هذا العضو تأكيد عدم وجود أي علاقة مهما كانت مما يؤكد حياده التام. وأيضا في نفس الوقت، على المحكم أو عضو الهيئة الإفصاح إذا كانت هناك أي علاقة مباشرة أو غير مباشرة بأطراف النزاع أو القضية ومهما كانت درجتها، وهنا، علي أطراف النزاع تقرير السماح له بالمشاركة في التحكيم أو العكس بعدم السماح له وذلك وفق ما يرونه لتحقيق مصالحهم وتحقيق العدالة. والأمر هنا يعود لكل حالة علي حدة، وعلى حسب الظروف المعلن عنها وحسب ظروف الأطراف والقضية.

هنا، وفي هذه اللحظات، يجب على المحكم المختار أو عضو الهيئة أن يكون أمينا مع نفسه ومع الآخرين. وهذه الأمانة تتطلب منه الإفصاح التام وعدم التستر أو الخداع أو التمويه، بل يجب عليه توضيح أي نوع من العلاقة ومهما كانت، وإلا سقطت عنه صفة “الحياد” وعليه تحمل النتائج المترتبة على هذا التصرف غير السليم والبعيد عن المصداقية المهنية والشخصية. ولا بد من التوضيح، أن المحكم أو عضو الهيئة ربما يتبين له عدم توفر الحياد لأي سبب أو مستجدات وذلك في أي لحظة في أثناء سير التحكيم، وفي مثل هذه الحالات عليه الإفصاح الفوري عن هذا الوضع لهيئة التحكيم وأطراف النزاع وللدرجة التي تمكنهم من اتخاذ القرار المناسب بخصوص استمراره من عدمه. والأمر يعود لهم وحدهم، وعلى هذا المحكم أو عضو الهيئة الانصياع لقرارهم في حينه.

إن اللجوء للتحكيم، كبديل لتسوية المنازعات، يتطلب قمة النزاهة وكامل الأمانة من الجميع وعلي رأسهم المحكم الفرد أو هيئة التحكيم لأنهم مربط الفرس. وإذا تأثر هذا المربط سينتهي التحكيم وينقطع من أصله ويصبح عديم الفائدة وكأن لم يكن. وعلي المحكم الفرد أو أعضاء هيئة التحكيم تحمل المسؤولية التامة ونكران الذات خاصة في ما يتعلق بالحياد. ومن الناحية القانونية، فان الطرف الذي تسبب في إعاقة التحكيم وتقديم معلومات مضللة أو غير صحيحة عليه تحمل النتائج القانونية والمهنية والمجتمعية... الخ. ولا عذر لمن أنذر.