أفكار وآراء

الحديث عن انتفاضة ثالثة ..هل يتحقق ؟!

31 ديسمبر 2017
31 ديسمبر 2017

ماجد كيالي/ كاتب فلسطيني -

بين هبّة وأخرى، مثل التي نشهدها في الأسابيع الأخيرة، كردة فعل على قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، والتي شهدنا مثلها، في يوليو الماضي، رداً على محاولة إسرائيل فرض إجراءات معينة في القدس ( وضع أجهزة تصوير وبوابات إلكترونية داخل السور)، والتي كنا تعودنا عليها في الأعوام الثلاثة الماضية، يستمرئ بعض قادة الفصائل الدعوة إلى انتفاضة ثالثة، أو «التهديد» بها، إلا أن هذه الانتفاضة لا تأتي، أو على الأقل قد لا تستجيب لرغباتهم.

ولما كان من البديهي أن هكذا دعوات تصل إلى أصحابها، أي إلى الجماهير المدعوّة، فإن عدم الاستجابة يصدر من أحد احتمالين، أو من كليهما، الأول، وهو أن الجماهير المعنيّة لا ترى أن الانتفاضة هي الشكل الأنسب في الظروف الحالية. والثاني، هو أن أصحاب هذه الدعوات لم يعد أحد يسمع لهم، أو لم يعد لديهم صدقية بين شعبهم. وطبعا فإن هذا وذاك يؤكدان أن أصحاب هذه الدعوات ليس فقط غير مدركين لتراجع مكانتهم، وتآكل دورهم في العمل الوطني، وإنما ربما غير مدركين، أيضاً، للمتغيرات والتحولات الحاصلة في ظروف الفلسطينيين، لاسيما لجهة التعقيدات التي خلقتها إسرائيل في الضفة الغربية.

في كل الأحوال فإنه لا يمكن البتّة تفسير هذا الأمر بتراجع الروح الوطنية عند الفلسطينيين، ذلك إن الهبّات الشعبية تؤكد استعداد الفلسطينيين للتضحية والصمود والمقاومة دوما، لكن وفقاً للإمكانيات الذاتية، ووفقاً لرؤيتهم للطريق الأجدى، الذي يمكن أن يستنزف إسرائيل بدلا من أن تستنزفهم هي، كما يحصل في المواجهات المسلحة، والذي يمكن أن يكشفها أمام العالم كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية، بدل أن يمكّنها من عرض الفلسطينيين كأنهم جيش يقف في مواجهة جيش آخر.

على ذلك ثمة عاملان يحددان، أو يفسران، عدم التحول إلى انتفاضة ثالثة، حتى الآن على الأقل، أولهما، أن الشرط الذاتي غير متوفر في هذه الظروف، بعد كل ما جرى، ذلك أن الشعب الفلسطيني كان زَجّ خلال الانتفاضة الثانية ( 2000ـ 2004 )، في ما عرف بـ »انتفاضة الأقصى «، بكل إمكانياته وطاقاته، سيما أن الحديث تعلق بمواجهات مسلحة، ما عرّض الفلسطينيين لاستنزاف كبير، في إمكانياتهم البشرية والمادية.

والمشكلة أن الحركتين القائدتين (فتح وحماس) لم تفعلا شيئا، آنذاك، في سبيل ترشيد استهلاك طاقة الشعب الفلسطيني، ولم تعملا على تنظيم كفاحه، في خضم تنافسهما على القيادة والسيطرة، وتركتا الأوضاع تخرج عن السيطرة، وتسير نحو الفوضى والفلتان. وبنتيجة كل ذلك فقد دفع الشعب الفلسطيني من دمه ومعاناته وتضحياته وعمره، الكثير، من دون أن يترجم ذلك إلى إنجازات سياسية ملموسة.

الأنكى من ذلك، أن وضع الفلسطينيين بعد الانتفاضة الثانية، مع كل التقدير للتضحيات والبطولات التي بذلت فيها، أضحى أسوأ بكثير مما كان قبلها. فالفلسطينيون، الذين كانوا قبل عام 2000 يتحركون حتى في مناطق 48 (أي داخل إسرائيل)، باتوا، بعد الانتفاضة الثانية، محصورين في معازل، في الضفة الغربية، وبات مليون ونصف مليون فلسطيني في قطاع غزة في سجن كبير، مع حصار مشدد منذ العام 2007. فوق ذلك فقد باتت الضفة الغربية مقطعة الأوصال، بالجدار الفاصل والحواجز العسكرية الإسرائيلية والنقاط الاستيطانية العشوائية، أي أن الفلسطينيين أضحوا غير قادرين، من الناحية الذاتية، على ولوج انتفاضة جديدة، بالطريقة المتعارف عليها، فثمة تعب واستنزاف كبيرين، وأيضا ثمة إحباط من الواقع السياسي المحيط بهم راهنا - حسبما يقول الكاتب .

العامل الثاني، إن مشكلة الفلسطينيين، إزاء أي انتفاضة جديدة، أن وضعهم ليس سيئا في مواجهة إسرائيل فحسب، وإنما هو أسوأ، ربما بصورة اكبر، بما يتعلق بأوضاعهم وأوضاع حركتهم الوطنية، أيضا. هكذا، فخلال المرحلة الماضية تراجع وزن الفصائل في المجتمع الفلسطيني، وبات الفلسطينيون في شبه غربة عن القوى المهيمنة، التي تعمل بوسائل تحقق مصالحها الضيقة، أكثر مما تعمل بوسائل الإقناع والنموذج والصدقية الأخلاقية والنضالية. أيضا، فإن الفلسطينيين يدركون بأن الممارسات السلطوية للقوى المهيمنة، وتخلّف إدارتها، إن في مجال إدارة كفاحها ضد إسرائيل، أو في مجال إدارتها للوضع الفلسطيني، سواء في الضفة أو غزة، بات وبالًا عليهم وعلى حركتهم الوطنية، وعلى نظامهم السياسي، سيما مع انقسام الكيان الفلسطيني، بين سلطتين ومرجعيتين وقيادتين (فتح في الضفة وحماس في غزة).

ولاشك أن هذه الأوضاع بدورها أسهمت في إشاعة مشاعر الإحباط عند الفلسطينيين، بخاصة وهم يشهدون كيف تراجعت صدقية قضيتهم، في المجالين العربي والدولي، بعد أن تحولت حركتهم الوطنية، من حركة تحرر وطني، إلى مجرد سلطة تتصارع فيما بينها، بدل مصارعة المحتل الإسرائيلي، وتلهث وراء المساعدات والمنح الخارجية، محولة القضية الوطنية إلى مجرد قضية مساعدات ورفع حصار من وجهة نظر البعض على الأقل. لكن، وبغض النظر عن موقف الجماهير المدعوة، ثمة أسئلة تطرح نفسها على الجهات الداعية، ومثلاً: هل بات النضال الشعبي ضد الاحتلال بحاجة إلى كبسة زر، أو إلى إذن، أو إلى بيانات أوأمرية ؟ ثم ماذا أعدت الجهات الداعية من أجل الانتفاضة، وما هو برنامجها، وما غايتها ؟ وأخيراً، ماهي الدروس التي استنبطتها تلك القيادات من تجربتي الانتفاضتين الأولى والثانية؟ القصد أن الجماهير المطالبة بالانتفاض، وتقديم مزيد من التضحيات، تستحق نوعا من كشف الحساب، عما فعلته أو لم تفعله، الفصائل الفلسطينية المهيمنة، للنهوض بأوضاعها، ونفض التكلس عن بنيانها، وتقديم مصلحة الوطن على مصلحتها الفصائلية، وتعزيز ارتباطها بمعاناة الناس، وفهم ظروفهم وإدراك مصالحهم. أما القيادات التي لا تلقَ بالا لمعاناة الناس، وظروفهم الحياتية، ومجرد فقط إنها تطالبهم بالانتفاضة والمقاومة وبذل المزيد من المعاناة والتضحيات، كنوع من مزايدات، أو لإثبات مكانتها السلطوية، بغض النظر عن الجدوى السياسية لذلك، فهي لا تستحق من الجماهير إلا اللامبالاة، وهذا ما تفعله تلك الجماهير عمليا، عن قصد أو من دونه، على ما يبدو.

وبديهي فإن هذه الجماهير تواصل نضالها ضد الاحتلال، بوسائلها الخاصة، وبالإمكانيات المتاحة لها، ووفق الهباّت الشعبية، وهي التي كانت ابتدعت نموذج الانتفاضة الشعبية (أو انتفاضة الحجارة 1987ـ1993) والتي كانت أكثر الأشكال الكفاحية مقاربة لظروف الشعب الفلسطيني وإمكانياته.