الملف السياسي

الحفاظ على وحدة ليبيا .. مسؤولية وطنية أولا !!

25 ديسمبر 2017
25 ديسمبر 2017

د. عبد الحميد الموافي -

إن انتهاء مهلة العامين التي حددها اتفاق الصخيرات تشكل نقطة وظرفا ينبغي استغلاله من جانب السراج و حفتر لتحقيق صالح ليبيا الدولة والوطن، بالحفاظ على وحدتها الوطنية وتجنب إغراقها في حروب ومواجهات مسلحة.

إن ليبيا بمساحتها الشاسعة، وبإمكانياتها النفطية الكبيرة، بل الواعدة، وبمحدودية سكانها، نحو ستة ملايين شخص، وبموقعها الاستراتيجي على الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، الواقع في بطن أوروبا– وبمسافة تقل عن أربعمائة كيلومتر عن جزيرة صقلية وجنوب إيطاليا، والممتد إلى عمق القارة السمراء، وبصحراء مفتوحة، تشكل غطاء ومرتعا ومطمعا أيضا، لقوى عسكرية إقليمية ودولية، ولميليشيات عديدة، تتخفى في عمقها، بعيدا عن الأعين وكاميرات رصد الطائرات بدون طيار وغيرها، كانت باستمرار ذات أهمية للكثير من القوى والأطراف الإقليمية والدولية، منذ ما قبل حقبة رئيسها السابق العقيد معمر القذافي وخلال حكمه، وبعده أيضا. وليس مصادفة أن تكالبت عليه قوى دولية وإقليمية عديدة- بما فيها حلف الناتو- للإطاحة به وقتله، تخلصا منه، وطمعا في ثروات بلاده وموقعها الاستراتيجي المهم. وككل الحالات التي حدثت في منطقتنا العربية المنكوبة، لا يفكر أحد من هؤلاء في مصير الدولة والشعب الذي يتدخلون في شؤونه، ولا في مستقبل أبنائه، ومن ثم تركت ليبيا، وبشكل متعمد، منذ منتصف عام 2011، لتكون نهبا لكل أفاقي الصحراء وأمراء الحرب المتسربلين بالإسلام، والجماعات المرتبطة بأجهزة الأمن الغربية، أما النخبة السياسية الليبية وعناصرها النشطة والمؤثرة، فإنها لم تستطع، حتى الآن على الأقل، أن تجد لنفسها موضعا مؤثرا بقوة في تحديد ملامح حاضر ليبيا ومستقبلها، حيث توزعت عناصرها، واختلفت وتنازعت، وابتعد بعضها احتجاجا وقنوطا، لتجد ليبيا نفسها فريسة لجماعات إرهابية ولميليشيات تبحث فقط عن غنائم وتمويل، وتبيع سلاحها لمن يدفع، وهم كثر للأسف الشديد، وبعد هزيمة تنظيم داعش في سوريا والعراق، وانسحاب الآلاف من العناصر الإرهابية التابعة له، من سوريا والعراق، بحثا عن أرض جديدة، يخربونها، ازدادت أهمية ليبيا، استراتيجيا وسياسيا وتكتيكيا أيضا في هذه المرحلة، التي تفرض على تنظيم داعش، محاولة لم الشتات من عناصره الفارة، ومحاولة تجميعها مرة أخرى، وليس هناك أنسب من صحراء ليبيا الشاسعة للقيام بذلك، بعيدا عن الأعين وأجهزة الرصد المختلفة، بل والهرب عند الضرورة إلى حدود الدول الإفريقية المجاورة لليبيا، ولذا فإنه ليس مصادفة أن تكون ليبيا الآن بمثابة مركز التجميع لتلك العناصر الإرهابية بألوانها وأشكالها المتعددة، ويزيد ذلك بالضرورة من أهمية وخطورة ما يجري الآن على الساحة الليبية، أكثر بكثير من ذي قبل، لأن الإرهاب يدرك أن معركته الأخيرة ستكون على الأرجح في هذه الأراضي الليبية الشاسعة والمحدودة السكان والغنية بالموارد. ولذا فإنه ليس مصادفة أيضا أن تتم محاولات إغراق ليبيا بفيضان المهاجرين غير الشرعيين، من إفريقيا وكل دول المنطقة، وبينهم بالتأكيد آلاف الإرهابيين الباحثين عن مأوى، أو عن مهمة ودور، أو عن جماعة أو طرف يعملون لحسابه، وهم كثر للأسف الشديد.

وخلال الأيام الأخيرة، عادت الأوضاع في ليبيا إلى الواجهة مرة أخرى، خاصة بعد انتهاء الفترة الانتقالية التي حددها اتفاق الصخيرات، الموقع في مدينة الصخيرات المغربية في 17 ديسمبر عام 2015، بمدة عام، قابل للتجديد مرة واحدة، ومن ثم انتهت الفترة الانتقالية، نظريا على الأقل يوم 17 ديسمبر الجاري، وبدأت مختلف الأطراف الليبية، والإقليمية والدولية في التحرك لمواجهة الاحتمالات المختلفة المرتبطة بذلك، وهو ما عبر عنه أكثر من طرف ليبي وإقليمي ودولي، خلال الأيام الأخيرة. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

*أولا: إن اتفاق الصخيرات، وبالرغم من أنه لم يتسع ليشمل كل الأطراف الليبية المعنية، وبالرغم أيضا من أنه كان يحتاج إلى تعديل، وهو ما التقت عليه الأطراف الليبية والإقليمية والدولية، من حيث المبدأ، وعقدت من أجله اجتماعات في غدامس وغيرها، وان كان لم يتم التوافق على جوانب وصيغ التعديل الخاصة به، إلا انه ظل الاتفاق الذي استطاع ان يشكل نقله على الصعيد الليبي، تنهي حالة الفوضى المفتوحة قبله، وتنشئ المجلس الرئاسي الليبي بقيادة «فائز السراج»، وتضع حدا للفترة الانتقالية، وهي عامين على الأكثر، انتهت قبل أيام، ويفسح الطريق أمام الإعداد لانتخابات رئاسية وبرلمانية في ليبيا، من المنتظر إجراؤها العام القادم 2018، ويوفر كذلك اعترافا دوليا بحكومة السراج في طرابلس من ناحية، وبالمجلس النيابي المنتخب في طبرق من ناحية ثانية.

ومع الوضع في الاعتبار أن هناك حكومة أخرى في طرابلس، ومجلس نيابي يتمسك بالبقاء في طرابلس أيضا، إلا أن الجميع كان ينظر إلى اتفاق الصخيرات على أنه السبيل الممكن السير فيه لإتمام إخراج ليبيا من حالة الفوضى الضاربة فيها، خاصة أنه تم تعيين الدكتور غسان سلامة ممثلا للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا، وهو يعمل جاهدا من أجل تحقيق درجة من التوافق الليبي تسمح بالسير نحو تنظيم الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الليبية العام القادم، باعتبارها الأداة التي يمكن الاستناد إليها لتحديد خيارات الشعب الليبي، عبر اختياراته هو- أي الشعب الليبي- دون استبعاد أي من قواه السياسية، وهو أمر استقبله الجميع بترحاب وأمل. غير أن السياسي والأكاديمي اللبناني غسان سلامة، سرعان ما اكتشف حجم التداخل والتعقيدات العديدة للأوضاع في الساحة الليبية وحولها، ولكنه لا يزال يسعى لمواصلة خطوات، ساهم في وضعها من سبقوه إلى موقعه، أو على الأقل الاستفادة مما واجههم من مشكلات عرقلت خطوات سيرهم. ولعل النقطة الحيوية التي تحسب للمبعوث الأممي الدكتور غسان سلامة، برغم المدة القصيرة له في موقعه، هي أنه استطاع إعادة مبدأ الحفاظ على وحدة ليبيا أرضا وشعبا إلى السطح مرة أخرى، وجعلها هدفا ينبغي العمل من أجل تحقيقه، وهو الأمر الذي كان قد بهت وتراجع في سلم الأولويات، على الأقل لدى بعض الأطراف الليبية والدولية في الفترة الماضية، خدمة لمصالح خاصة، وعلى حساب وحدة ليبيا الوطنية للأسف الشديد. ولعله من الأمانة والموضوعية القول إن إعادة بناء القوات المسلحة الليبية بقيادة الفريق خليفة حفتر، ونجاحها في إعادة السيطرة على بنغازي وعدد من المدن شرق ليبيا، وهزيمة المجموعات الإرهابية فيها، والسيطرة على الهلال النفطي، وتأييد القبائل الليبية في جنوب ليبيا لها بوجه عام، كان عاملا مهما في إعادة مبدأ الحفاظ على الوحدة الوطنية الليبية إلى السطح مرة أخرى، باعتبار الدور الذي يمكن للقوات المسلحة الليبية القيام به، سواء من خلال قدرتها على هزيمة الجماعات الإرهابية، خاصة إذا توفرت لها الأسلحة التي تحتاجها، أو من خلال قدرتها على استعادة الأمن والعودة إلى الحياة الطبيعية وحماية المواطنين الليبيين في مناطق تواجدها، وهو ما تحقق بشكل واضح حيث تتواجد القوات التابعة لها .

*ثانيا : أن جانبا غير قليل من الأزمة التي تعيشها ليبيا الشقيقة يتمثل في تعدد وتنوع التدخلات الإقليمية والدولية في الأوضاع الليبية، ومحاولة كل طرف ممارسة أقصى تأثير ممكن لخدمة أهدافه، والاعتماد في ذلك أيضا على عناصر، أو أطراف، أو مجموعات ليبية داخلية بشكل ما، في محاولة إضفاء قدر من الشرعية لها بحكم انتمائها الوطني، بغض النظر عن مواقفها أو توجهاتها لخدمة طرف، أو أطراف محددة تقوم بتمويلها.

وإذا كان اختلاف مصالح الأطراف المعنية تلك، وهى كثيرة، قد ساهم في إيجاد واتساع نطاق الفوضى في الأراضي الليبية خلال الفترة الأخيرة، فإن تقارب القوة النسبية للكثير من تلك الأطراف، وعدم وجود قوة دولية أو إقليمية يمكنها القيام بالدور الأكبر أو الحاسم في ليبيا، ساعد بدوره في استمرار حالة السيولة الراهنة.

فأمريكا لا تريد التورط في ليبيا بشكل كبير، وتترك الأمر للقوى الأوروبية، خاصة فرنسا وإيطاليا اللتان تختلفان حول المصالح وحول الخطوات التي ينبغي اتباعها لحل الأزمة، ودول جوار ليبيا العربية والإفريقية، وبرغم الكثير من البيانات، إلا أن بعضها يضع العصي في دواليب الأخرى، من قبيل التنافس والرغبة في إثبات الوجود والقدرة على التأثير، حتى ولو من خلال دعم جماعات إرهابية، أو محسوبة على تلك الجماعات الإرهابية بشكل أو بآخر، بل إن بعضها يسهل تهريب الأسلحة إلى تلك الجماعات، والتي يقوم بعضها بتهريبها بدوره إلى دول أخرى مجاورة لليبيا أيضا في سلسلة باتت معروفة للكثيرين.

وأمام هذا الموقف تحاول الأطراف الإقليمية، ومنها مصر العمل على حماية أمنها الوطني ضد التهديدات المتزايدة القادمة من ليبيا، بأشكال مختلفة، وتسعى إلى العمل قدر الإمكان عبر صيغة دول جوار ليبيا من ناحية وعبر التنسيق مع الدول الأوروبية - خاصة فرنسا وإيطاليا- من ناحية أخرى، وقد دخلت روسيا على الخط، بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة، وفي وسط هذه الغابة من الخلافات والتشعبات، فإن نقطة الإجماع العامة، والوحيدة تقريبا تجسدت في إجماع كل الأطراف تقريبا على التمسك باتفاق الصخيرات، وعدم التوقف أمام تاريخ انتهاء الفترة الانتقالية، المحدد في 17 ديسمبر الجاري. والمؤكد أن هذا الالتقاء أو الإجماع العام تقريبا حول اتفاق الصخيرات، لا يأتي بسبب نجاح أو نجاعة اتفاق الصخيرات وقدرته على الحل، ولكنه يأتي خوفا من الفراغ الذي سيترتب على انتهاء اتفاق الصخيرات، وهو فراغ لا ترحب أية دولة أو طرف إقليمي أو دولي بحدوثه. ولذا فإن تأييد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لاتفاق الصخيرات، والذي جاء في رسالة تهنئة للسراج هذا الأسبوع بمناسبة ذكرى استقلال ليبيا، يعتبر أمرا مهما، لأنه يدعم استمرار الاتفاق «كإطار وحيد» قابل للتطبيق لإيجاد حل سياسي طيلة الفترة الانتقالية، وهو ما يعني تأييد واشنطن لحكومة السراج من ناحية ولاتفاق الصخيرات من ناحية ثانية، والأهم من ذلك أن ترامب أكد تأييد بلاده لوحدة ليبيا، وهو أمر مهم في هذه الظروف. وعلى أية حال فإن الحل في ليبيا سيتوقف بدرجة كبيرة على مدى قدرة الأطراف الإقليمية والدولية على الالتقاء والتوصل إلى توافق يدفع نحو الحل السلمي في ليبيا ويحافظ على وحدتها. ومن شأن انتهاء الفترة الانتقالية أن يدفع نحو تنشيط البحث عن توافق إقليمي وطولي ضروري، حتى لا تذهب الأوضاع في ليبيا في اتجاه المجهول.

*ثالثا: انه بالرغم من أهمية وتأثير العوامل الإقليمية والدولية، المؤثرة على الأوضاع في ليبيا، خاصة منذ عام 2011 وبعد اغتيال القذافي، إلا أنه من المؤكد أن الحل في ليبيا، ونجاحه واستمراره يظل مسألة داخلية ليبية بدرجة كبيرة، وتظل مسؤولية الأطراف الليبية، سواء السياسيين والعسكريين، أو النخبة والقوى القبلية المؤثرة، فهؤلاء هم من يستطيعون الدفع بشكل فعال نحو بناء التوافق الليبي وتحقيق المصالحة بين الأطراف الليبية، وهي أمر لا غنى عنه، لصالح ليبيا كدولة وكوطن، وكحاضر ومستقبل، ولصالح كل شعبها بمكوناته الاجتماعية المختلفة والمتنوعة. ومع الوضع في الاعتبار أن خلافات المصالح تلعب دورها بين الفرقاء الليبيين، إلا انه بات من الضروري العمل على إنقاذ حاضر ومستقبل ليبيا من الخطر الذي يتعرض له بشكل حقيقي، من خلال دفعها إلى مستنقع الفوضى وسيادة سلاح الميليشيات والجماعات الإرهابية. وإذا كانت جهود الجمع بين فائز السراج وخليفة حفتر قد تعثرت خلال الفترة الماضية، لحسابات هذا الطرف أو ذاك، أو لتدخلات متعارضة إقليمية ودولية، فإن انتهاء مهلة العامين التي حددها اتفاق الصخيرات تشكل نقطة وظرفا ينبغي استغلاله من جانب السراج وحفتر لتحقيق صالح ليبيا الدولة والوطن، بالحفاظ على وحدتها الوطنية وتجنب إغراقها في حروب ومواجهات مسلحة، سوى التخلص من الجماعات الإرهابية فيها. ولذا فإنه بالرغم من أن حفتر أعلن أن 17 ديسمبر هو نهاية للكيانات السياسية التي أنشئت بواسطة اتفاق الصخيرات، وهو ما رفضه السراج بالطبع، فإن قبول كل منهما بالانتخابات البرلمانية والرئاسية، بإشراف دولي، يشكل نقطة التقاء يمكن الانطلاق منها للإعداد لهذه الانتخابات بالشكل الصحيح والقادر على إخراج ليبيا من ورطتها الحالية، أما غير ذلك فإنه سيكرس الفوضى ويحول ليبيا إلى مصدر خطر وتهديد، كما هي مطمع لمختلف الأطراف وهو ما لا يخدم أحدا.