1181019
1181019
المنوعات

شاعر حداثة «إنسان جاوة»

01 ديسمبر 2017
01 ديسمبر 2017

أحمد فرحات -

أكثر من مرّة زرته في مزرعته الصغيرة في جنوب جاكرتا عاصمة أندونيسيا، والتي حوّلها (أي المزرعة) إلى ملتقى لضيوفه الآتين من مختلف البلدان والقارّات. وكان يحرص على أن يكون ضيوفه غالباً من الشعراء والكتّاب والفنّانين، لا لشيء إلّا لأنّ هويّة الإبداع على تعدّديتها، والتي يمثّلها هؤلاء في نظره، تظلّ تحضّ بصدق على السموّ الرفيع للكائن البشريّ وتحقيق الأهداف الكفيلة بترجمة السلام والعدالة الحقّة على الأرض؛ فالسياسة بالنسبة إلى الشاعر والمسرحيّ الأندونيسيّ الكبير «ويليبروسدوس سليمان ريندرا»، مهما كانت عادلة وإيجابيّة، تظلّ متشكّكة بذاتها وعاجزة عن الثبات على مبادئها مع الزمن.

لأجل ذلك لا فائدة، في رأيه، من فكرة الصداقة ومعانيها ونتائجها وأهدافها إلّا مع الفئات والشرائح المُبدعة والمسؤولة في المجتمعات كافّة. معها، مثلاً، يسهل الحوار، وتُختصر المسافات المعرفيّة، ويسقط الاغتراب المسبّق العالِق في شبكيّة نفسه بين الشعوب، وتُنتج المواقف الإنسانية الفاعِلة والمُتفاعلة، ويتمّ التأثير الإيجابي على الجميع لأجل تعاون الجميع، وصولاً إلى مرحلة قد تتخفّف البشرية فيها من جرائمها المتمادية على كلّ صعيد.

مِن أين أنتَ؟ ومَن الذي أرشدكَ إليّ؟ وما خطب زيارتكَ لي؟.. وقبل أن أهمّ بالردّ عن أسئلته.. أردف الشاعر الأندونيسيّ «ويليبروسدوس» يقول: في كلّ الأحوال أنت مرحّب بك في هذا المكان، الذي هو فعلاً مكانك، ومكان كلّ شعراء هذا العالَم وأدبائه ومفكّريه، إن سمحت لهم ظروفهم، طبعاً، واستطاعوا الوصول إليه!.. ثمّ ترك لي مجال الكلام فخاطبته قائلاً: أنا من بلدٍ عربيّ صغير اسمه لبنان، ونصحني الشاعر الأندونيسيّ الصديق أبو بكر محمّد إكرامي بزيارتك، وهدفي من هذه الزيارة، أوّلاً التعرّف إلى شخصك وظاهرتك، وثانياً التمنّي عليك بالإسهام في الأنطولوجيا الشعريّة التي أعدّها شخصياً عن الشعر والشعراء في جنوب شرق آسيا والهند الصينية.

أنطولوجيا شعريّة تعدّها بنفسك؟ كيف يحصل هذا؟ وهل أنتَ واثق من نجاح عملك المعقّد هذا، والذي يتطلّب جهوداً جماعيّة بحالها لا جهود فرد واحد؟ علّق الشاعر الأندونيسيّ بدهشة على كلامي، ثمّ صمتَ الرجل برهة وقال مُتسائلاً: هل تقبلني صديقاً جدّياً لك، وتَعتبر هذا المزرعة المتواضعة هي مزرعتك؟ أجبته بخجل: يشرّفني ذلك كلّ التشريف، لقد غمرتني بتواضعك الجمّ هذا يا سيّد ريندرا، أنتَ الذي، وبإشارة منك فقط، تهزّ الفضاء الثقافيّ كلّه في بلدٍ يضمّ 240 مليون إنسان، هذا إذا لم أتكلّم عن باقي ملايين دول آسيوية بحالها وصلها ويصلها بقوّة، صوتُك الإبداعيّ المتعدّد الوجوه!

أبو التأصيل والحداثة في أندونيسيا

نعم، في المشهد الإبداعي والثقافي الأندونيسي العريض، يُعتبر «ويليبروسدوس سليمان ريندرا» رائداً مؤثّراً ومجدِّداً في مختلف المجالات الأدبية والفنّية التي يخوض فيها: شعراً، سرداً، نقداً وكتابةً مسرحيّة، وحتّى على مستوى مُمارَسة التمثيل والإخراج المسرحي. إنّه سيّد التجريب الواثق وأبو الحداثة والتحديث في أندونيسيا، المُنطلق دوماً من فهم الأصول والقواعد الكلاسيكيّة المعروفة في بلاده العريقة والضاربة جذوراً في التاريخ. ولا غروَ، فهو متحدّر من سلالات «إنسان جاوة» هذا المُنتصب منذ أكثر من مليونَي سنة على الأرض، والذي ترك بصماته وأحفوراته الفنّية شاهدة على صخور بلاده المُتناثرة جزراً يصل تعدادها إلى 17508 جزر مُبعثرة على جانبيّ خطّ الاستواء.

انطلاقاً من هذا كلّه، حصد ويحصد الشاعر والكاتِب المسرحي «ويليبروسدوس سليمان ريندرا» قرّاءً ومُتابعين ومُشاهدين لمسرحيّاته بالآلاف، بل بالملايين في أندونيسيا الحديثة، البلد الأكبر والأكثر تنوّعاً، إثنيّاً ولغويّاً ودينيّاً في جنوب شرق آسيا.. كيف لا وأندونيسيا تشكّل رابع دولة في العالَم، من حيث تعداد السكّان، وفيها 722 لغة و300 مجموعة عرقيّة، وعشرات الأديان والمُعتقدات، وإن كان المُعترف بها رسميّاً ستّة فقط هي: الإسلام (دين الأغلبية: 86 في المائة من السكّان)، البروتستنتية، الكاثوليكية، الهندوسية، البوذية والكونفوشيوسية، وربّما لأجل ذلك ترفع الدولة المركزيّة الأندونيسيّة منذ استقلالها في العام 1945 شعار «الوحدة في التنوّع».

يعتزّ شاعرنا بهذا التنوّع ويعتبره عنصرَ غنى يصبّ في مصلحة بلاده الثقافية والحضارية على الدوام، حتّى ولو كان عنصر استغلال وتوظيف شرّير، من طَرف المُستعمِرين الهولنديّين الذين استباحوا الأرخبيل الأندونيسي مدّة 3 قرون ونصف القرن، ثمّ تبعهم البريطانيون في المهمّة السلبية نفسها. لكنّ الأندونيسيّين لم يسكتوا على هذه الاستباحات التي لحقت بهم وبوطنهم، فقاوموا بشراسة دفاعاً عن بلادهم ووحدة شعبهم، وذهب منهم أكثر من خمسة ملايين شهيد على مرّ العقود والقرون الاستعمارية المذكورة، كما أفادنا بذلك الشاعر الصديق ريندرا.

ما معنى أن تكون من «الجاويّة»، الإتنية الأكبر والأكثر سطوة في أندونيسيا، وخصوصاً أنّ «إنسان جاوة»، يُنسب إليها أيضاً، وهو مع «إنسان بكين» يشكّلان «بدء البشرية المنظورة بذاتها ولذاتها على هذا الكوكب» بحسب الفرنسي بيار دي شاردان، وهو فيلسوف وكاهن يسوعي مختصّ بعِلم حفريّات ما قبل التاريخ وأحد المُسهمين باكتشاف «إنسان بكين».. سألته فأجاب:

يشرّفني أن أكون ابن هذه الأرض وأحد أفراد الشعب الأندونيسي العريق. إنّ محبّتي لأجدادي لا تضاهيها محبّة، ولكنّني في الوقت نفسه أنتمي إلى البشرية في كلّ مكان، وأكافح مع الذين يشبهونني، من أجل كوكب واحد يعيش عليه كلّ البشر آمنين مُعافين من أيّ أخطار أو كوارث تسبّبها - مع الأسف - قلّة قليلة تمسك بيدها كلّ ما من شأنه أن يتحكّم بالأغلبية. ثمّ إنّ حبّي لشعبي وتاريخه العريق، لا يعني عدم حبّي للشعوب الأخرى وشغفي بتاريخها، لكنّني وكشاعر أيضاً، وإن كان لديّ خصوصيّة معيّنة في التعامل مع الإنسان القديم في بلادي..«إنسان جاوة» كما اصطلح على تسميته، فأنا أيضاً.. وأيضاً استوحي منه عظمة تاريخ شعبي وتاريخ البشرية جمعاء:

«الزمن يتدفّأ في كهوف أجدادنا‏ ومعه يتدفّأ عمق الأشياء‏ التي ذهبت لتؤجِّج أوقيانوسات أخرى‏ مرئية وغير مرئية‏ نعم، لن أخرج عن مداركم يا أجدادي‏ الذي هو مدار الجميع على هذا الكوكب‏ أنتم الذين قدّمتم دروساً معجزة‏ دروساً موجبة لتواضع البقاء‏ ودروسكم هذه ما زالت تنتشل العالَم من كوارثه‏ حجر الكيمياء يقول لي ‏ ذرّة من الحقيقة محجوبة في كلّ مكان تقول لي ‏ إنّه حتّى هذه اللّحظة‏ حتّى هذه النبضة يا أجدادي‏ آثاركم تحكي‏ عظامكم تحكي‏ مآقيكم المجوّفة تحكي‏ تراب أرواحكم يحكي‏ ومعها تحكي بكامل فصاحتها‏ خطوطكم المرسومة على الكهوف الأزليّة‏ التي تُطيّف الأجواء كلّها بتطييفاتها».

هذه القصيدة المكثّفة والرائعة بمداليلها دفعتني لأسأل صديقي الشاعر الأندونيسي عن مفهومه للشعر والشعرية فأجاب: بشكل عامّ، لا أعرف كيف سأشرح لك مفهومي للشعر، ربّما كان الشعر هو التدفّق الفوري لضوضاء حساسيّة الداخل، وهي تأتي على شكل مواقعات لفظيّة متوالية، متلبّسة بدَورها شكل شبكيّة صورة كبرى تندّ عنها سيولٌ من صُور الفطرة والمُبادهات البشرية الأولى. أقول ذلك، لأنّ الشعر عندي لا يتناول الأفكار والإدراكات الذهنية، وإنّما هو يظلّ يقع في الصورة الحسيّة واللّمحة الخاطفة الدالّة كما أكثر من مجلّدات كلام بحالها.

ثمّة ربط «وهميّ» عندي «وثيق» جدّاً، بين فلسفة التاريخ والأنتروبولوجيا من جهة.. والشعر من جهة أخرى، وهو ربط يشكِّل مَحلّاً مُستداماً للاستيهام الرمزي الشعري، الذي يشتقّ بدَوره عن فتنة خاصّة للروح وجراحاتها. والشعر، وإن كان هو ابن الواقع المادّي في الكثير من منطلقاته إلّا أنّ مهمّته كذلك التحرّر، حتّى من مباذل الواقع وصغائره.

هل يتثقّف الإنسان بالشعر؟ سألتُ صديقي الشاعر ديندرا.. فقال:

بالتأكيد يشكّل الشعر وسيلة تثقّف عالية للإنسان، وخصوصاً ذاك الذي بإرادته يريد لإنسانيّته أن تسمو، بوصفها الخلاصة الأرقى لتطوّر العقلانيّة فيه.

وهل يمنحك الشعر قوّة ما؟

نعم، يمنحني الشعر قوّة.. وقوّة لا حدود لها، عمادها حال التآلف بين النفس وذاتها وبينها وبين العالَم. كما تمنحني قوّة الشعر أيضاً امتلاك ذاك الوعي الكَوني المنشود، والذي أستطيع من خلاله تحدّي العدم والموت والأقدار على أنواعها:

« لا ينبغي أن أخشاه‏ ذاك الآتي من وراء نفسه‏ ومن وراء أنفسنا فيه‏ ينبغي ألّا أخشاه هذا الموت‏ لأنّه قديم وعاداته قديمة‏ يطعنني ببياضه‏ كما أطعنه أنا ببياضي الأكثر توهّجاً‏ مَن قال إنّ الموت لا يخاف بياضي؟‏ مَن قال إنّني لا أستطيع معادلته‏ وأستوي فيه مثلما يستوي فيّ؟‏ نعم، عندما يأتي الموت‏ بالتأكيد هو الذي يخشاني‏ ولستُ أنا من سيخشاه‏ لأنّني الأقدر على المغامرة فيه‏ فهو لديه أسلوب واحد‏ وأنا لديَ كلّ الأساليب».

كان صديقي الشاعر الأندونيسي «ويليبروردوس سليمان ديندرا» يهوى التجوال في العالَم، ويعتبر السفر بحدّ ذاته عَملاً شعريّاً كبيراً، ينبغي استثماره وتفكيك هالته الإيحائية التي «لا تحتاج إلى كثير تأمّل لنفهم ترجمتها سراعاً أمامنا أو من حوالينا، فأنتَ تقرأ كلّ جديد بعين إيحائية جديدة». وشاءت المصادفات أن ألتقيه يوماً بمعيّة الروائي الألماني الكبير غونتر غراس (نوبل للآداب 1999) في برلين، فأقبل عليّ مرحّباً كلّ الترحيب، وقدّمني لصديقه الروائي الألماني بكامل الاحترام والتألّق الرفيع، وشدّد عليّ أن أزوره ثانية في مزرعته الصغيرة في جنوب جاكرتا، التي كنتُ وما زلت أعتبرها هي بيت بيوت الشعر في العالَم أجمع.

رحبّتُ بدعوة صديقي الشاعر الأندونيسي طبعاً، قائلاً له: يُشرّفني تلبية دعوتك الكريمة أيّها المُبدع الكبير وأتمنّى أن تكون مناسبة التلبية هنا مناسبة مضاعفة، يجسّدها ذاك الاحتفال المزمع حدوثه حول نَيلك جائزة نوبل، أنتَ الذي تُشرِّف هذه الجائزة وليست هي التي تُشرِّفك.

أطرق صديقي على الفور وهو يقول بتواضع: لا يهمّ .. لا يهمّ.

*بالتزامن مع مؤسّسة الفكر العربيّ