الملف السياسي

الشركات العمانية في مواجهة تحديات التنمية المستدامة

27 نوفمبر 2017
27 نوفمبر 2017

د. صلاح أبونار -

عامان فقط يفصلاننا عن نهاية الخطة التاسعة للتنمية. وبنهايتها تنتهي الحلقة التنموية الخامسة والأخيرة من « رؤية عمان 2020»، أي استراتيجية التنمية التي وجهت المسيرة العمانية علي مدى ربع قرن كامل، لكي تنطلق المرحلة الجديدة: « عمان 2040».

كيف يبدو لنا حصاد هذه المرحلة ؟ لا إجابة أفضل من شهادة المؤشرات الدولية المتفق عليها. تتسم هذه الشهادات بعدة سمات تجعلها مرشحة للثقة. فهي مقارنة مما يمكننا من تقييم الإنجازات العمانية عبر السياقين الدولي والعربي، وهي معتمدة من مؤسسات مرموقة وبالتالي موضع للثقة، وتتسم بالتركيب فتمنحنا عدة مقاييس فرعية تشكل نتيجة المقياس العام. ودوليا تحتل عمان في اكثرها مكانه فوق المتوسطة، ولكنها عربيا تحتل غالبا مكانه متقدمة.

وفقا لمؤشر سهولة ممارسة الأعمال الاقتصادية لعام2017 كان ترتيبها 66 عالميا من 190 دولة والرابعة عربيا. ووفقا لمؤشر التنمية الإنسانية 2015 كان ترتيبها 52 عالميا من 188 دولة والسادسة عربيا. ووفقا لمؤشر تنمية الحكومة الإلكترونية 2016 كان ترتيبها 66 عالميا من 193 دولة والسادسة عربيا. ووفقا لمؤشر الأداء اللوجستي العالمي 2016 كان ترتيبها 48 عالميا من160 دولة والرابعة عربيا.ووفقا لمؤشر تنافسية السفر والسياحة 2015 كان ترتيبها 65 عالميا من 141 دولة والسادسة عربيا، ووفقا لمؤشر التنافسية العالمية 2017 كان ترتيبها 66 عالميا من 188 دولة والسابعة عربيا، ووفقا لمؤشر جاهزية الشبكة الدولية 2016 كان ترتيبها 52 عالميا من 139 دولة والخامسة عربيا.ووفقا لمؤشر مدركات الفساد 2015 كان ترتيبها 64 عالميا من 174 دوله والسابعة عربيا.

وفي مؤشرات أخرى احتلت سلطنة عمان ترتيبا متقدما. وفقا لمؤشر الحرية الاقتصادية 2016 كان ترتيبها 59 عالميا من159 دولة والخامسة عربيا. ووفقا لمؤشر الأمن الغذائي 2016 كان ترتيبها 26 عالميا من 174 دولة والسابعة عربيا. ووفقا لمؤشر تمكين التجارة 2014 كان ترتيبها 31 عالميا و الثالثة عربيا. ووفقا لمؤشر راس المال الإنساني 2013 كان ترتيبها 25 عالميا والرابعة عربيا .

وفي البعض الثالث منها احتلت عُمان مكانة اقل من المتوسط . ففي عام 2016 كان ترتيبها في مؤشر الابتكار العالمي 73 من ضمن 128 دولة، لكنها كانت الثامنة عربيا.

وعندما نتجاوز الدلالة العامة للمؤشر، لكي نحلل عناصره التكوينية العديدة، سنصل الى صورة دقيقة وكليه للإنجاز العماني. أول مكونات هذه الصورة سنجدها في التطورات المادية، مثل تصاعد معدلات النمو وارتفاع نصيب الفرد من الناتج القومي، وتنامي التنوع الاقتصادي، وتراجع حصة النفط من إجمالي الناتج القومي، وتطور التحضر، واتساع البني الأساسية. وثانيها سنجدها في عملية التنمية الإنسانية، كمؤشرات لتنامي قدرات المواطن والإمكانيات المتاحة له، وكمؤسسات خالقة وحاضنه لهذا التنامي، في مجالات التعليم والصحة وحقوق المرأة. وثالثها التطورات الكيفية في مؤسسات الدولة المركزية وشبكة مؤسساتها الوسيطة والقاعدية، والذي يتجلي في: كفاءة الإدارة، ومؤسسيتها وتمايزها المتصاعد، وسيولتها الاتصالية، والتزامها بالمعايير الدولية، وغياب المحسوبية، ومرونة الاستجابة للمتغيرات الدولية.

والحاصل ان سلطنة عمان بفضل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظة الله ورعاه - تمتلك قاعدة قوية تؤهلها للانطلاق في مرحلتها التنموية الجديدة : عمان 2040. وسوف تنزع تلك المرحلة صوب تعميق وتوسيع بعض مسارات «رؤية عمان 2020»، وبالتحديد: تقليص دور الدولة كمشغل عام، وتخفيض مساهمة النفط في الناتج المحلي، والتنويع الاقتصادي عبر تنمية الصناعة والسياحة والزراعة والصيد، وتعمين القوي العاملة، وتوسيع قاعدة المشاريع المتوسطة والصغيرة.

وكل ما سبق يعني ان القطاع الخاص وفي القلب منه الشركات الكبيرة، يتقدم تدريجيا نحو مواقع القوة المحركة الأولى في المجال الاقتصادي. غير أن هذا لا يعني تخلي الدولة عن دورها التنموي والاجتماعي، بل تغيير نمط هذا الدور. وهنا سيظهر سؤال منطقي: ماهي أبعاد دور تلك الشركات في عملية التنمية عبر توجهاتها الجديدة؟

نتصور وجود ثلاثة مسارات متقاطعة تنتظم حركة هذا الدور. يتصل الأول باستراتيجية التنمية، ويمكننا أن نميز داخله ثلاثة مستويات.

يتعلق المستوى الأول بسياسات التعمين: انطلقت سياسات التعمين رسميا عام 1987، وعلى امتداد ثلاثة عقود استطاعت تحقيق نسب التعمين المقررة داخل مؤسسات الدولة، و بعض شركات القطاع العام مثل شركة تنمية نفط عمان، إلا أنها ظلت دون النسب المقررة بمراحل في غالبية القطاع الخاص، رغم الحوافز والخطوات الداعمة التي قدمتها الدولة. والآن أضحى من الضروري الشروع في انطلاقه جديدة، قادرة على تلبية معايير التعمين ونسبه المتفق عليها. ومثل هذه الانطلاقة لكي تتحقق ليست فقط في حاجة لاستعداد حقيقي للتضحية بجزء من الأرباح، يذهب لبرامج التدريب وتحسين شروط العمل بما يجعلها قادره على جذب العناصر العمانية. بل أيضا بناء تصورات مبدعة لبرامج التدريب والإحلال من جهه، ونسج علاقات منظمة ومدروسة مع مؤسسات التعليم الجامعي من جهه أخرى.

ويتعلق المستوى الثاني بانتهاج توجهات تنموية قادرة على التوطن الداخلي.ماذا يعني ذلك؟ يعني اختيار نوعية من المنتجات والشراكات الخارجية، تتيح توجيه اكبر نسبه من العائد الى داخل البلاد. والحرص على جعل اكبر مساحة ممكنة من مدخلاتها المادية والصناعية الوسيطة، تنبع من البلاد ذاتها من خلال المساهمة في خلق ودعم الصناعات الصغيرة والمتوسطة المغذية لمنتجاتها.ومثل هذه التوجهات ليست فقط في حاجة الى حس وطني عميق، بل أيضا في حاجة الى حس اقتصادي استراتيجي، يعي جيدا معنى مفردات ومفاهيم: الزمن والتراكم والمصلحة الآنية والمصلحة البعيدة والعام والخاص. باختصار: حس اقتصادي يعلو فوق مستوي حسابات الربح والخسارة السوقية المباشرة.

ويتعلق المستوى الثالث بسياسات البحث والتطوير.مع الوزن المتصاعد للمحتوى المعرفي في الإنتاج،اصبح البحث والتطوير القوة المحركة الأساسية في التقدم العلمي والتكنولوجي.والآن تقاس قوة اقتصاد ما بنسبه المنفق علي البحث والتطوير، من إجمالي الناتج المحلي او نفقات كبرى الشركات. وتعاني الشركات العمانية من مشكله في هذا الصدد. اذ تتفق اغلب التقارير التي تعرضت للموضوع مثل تقرير الاونكتاد، على انخفاض مخصصات البحث والتطوير عامة، ان لم يكن انعدامها لدى قطاع من هذه الشركات. وهكذا يصبح من الضروري ان تتخذ الشركات موقفا اكثر إيحابية من سياسات البحث والتطوير.

ماهي السياسات المتصورة؟ رفع الميزانيات المخصصة للبحث العلمي الى النسب العالمية، وتكثيف الروابط مع المؤسسات الجامعية والبحثية، والمساهمة في تمويل قنوات الوصول إلى الموارد البحثية الحديثة وإتاحتها مجانا أمام الطلاب والباحثين، تأسيس وتمويل صندوق أهلي عام للبحث العلمي له شخصيه اعتبارية مستقلة، وتأسيس مراكز علمية متخصصة وعامة.

يتصل المسار الثاني، من المسارات الثلاثة المنظمة لدور الشركات في عملية التنمية، بمسؤولياتها أو واجباتها بالمعنى الاجتماعي المباشر للعبارة. ويشير هذا المسار الى أعمال حيوية مثل الإنفاق الطوعي للشركات في مجالات: العمل الإنساني الخيري، لكن الأهم : مؤسسات الخدمات الاجتماعية في الصحة والتعليم والثقافة والمرافق الأساسية. والواقع ان ضرورة هذا الدور الاجتماعي لا تنبع فقط من التزام الشركات الاجتماعي تجاه وطنها ، بل أيضا من ضخامة المسؤولية التي تتحملها الدولة للوفاء بأعباء المؤسسات الخدمية العامة. ولا تظهر ضخامة هذا العبء اذا اكتفينا بالنظر إليه في حد ذاته، بل أيضا عبر ربطه بأمرين. تراجع العائد النفطي ومعه إمكانيات الدولة لتمويل الخدمات العامة. وتصاعد تكلفة الخدمات تبعا للنمو السكاني، والتقدم في شروط الحياة بما ينتج عنه من اتساع الشرائح الشابة والكهلة غير المنتجة. ونتصور وجود شرطين أساسيين اذا اردنا لهذا المسار الثاني إنجازا فعالا : الأول ثقافي والثاني تنظيمي. يشير الشرط الثقافي الى ضرورة وعي رجال الأعمال لتلك الواجبات، عبر منظور اعم و أعمق من منظور العمل الإنساني الخيري، سندعوه مؤقتا بالمنظور التاريخي التنموي. يعاني المنظور الخيري من مشكلة النظر الى الواجبات، أساسا كالتزام إنساني تجاه خير الآخرين. ولا يهمل المنظور التنموي هذا الجانب، لكنه يزيحه عن موقع البؤرة، ليضع فيها اعتبار تلك الواجبات استثمارا علي المدى الزمني الطويل. استثمار في تنمية الموارد الإنسانية، لن تصب عوائده على المدى الزمني القصير والمتوسط في الشركات ذاتها، لكنها ستجني حتما ثمارها الخصبة على المدى الزمني الطويل.

ماهو المقصود بالشرط التنظيمي؟ ضرورة إنجاز تلك الواجبات عبر مؤسسات دائمة ومقننة، وليس عبر القرارات والمبادرات الفردية الخيرة. المؤسسات بمعنى الصناديق العامة، وبمعنى الوقف الاجتماعي الحديث. هيئات ذات تمويل خاص سخي، ودائم وقابل للتجدد عبر استثمار مصادره الأولية الموقوفة عليه، وذات شخصية اعتبارية مستقلة.ومثال ذلك مؤسسات كبار رجال الأعمال الأمريكيين، مثل مؤسسة كارنيجي التي أسسها اندرو كارنيجي 1911، وروكفللر التي أسسها جون روكفللر 1913، وفورد التي أسسها هنري فورد 1936. وكلها مؤسسات ذات نشاط واسع وقوي ومنتظم، منذ تاريخ تأسيسها بفضل مؤسستيها الإدارية والتمويلية.

يتصل المسار الثالث والأخير، من المسارات المنظمة لدور الشركات في عملية التنمية، بالالتزام بأداء مسؤولياتها القانونية. ويعني ببساطة الالتزام بما يفرضه الإلزام القانوني المقنن عليها، مثل الالتزامات الضريبية، وقواعد حماية البيئة، وقوانين المحميات الطبيعية، والقواعد المنظمة لعمل العمالة الوافدة، وسياسات التعمين، ونظم التصدير والاستيراد. هذا الالتزام هو نفسه القاعدة الصلبة، الخالقة لمؤسسية أي نظام اقتصادي، وبالتالي قدرته على العمل الفعال المنتظم.