أعمدة

نوافـذ: المسافات.. ألف قصة وحكاية

21 نوفمبر 2017
21 نوفمبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

ليس هناك منا من لم يقطع مسافات معينة في اليوم الواحد، أقلها المسافة الفاصلة بين بيته ومكتبه، بين بيته والسوق، بين بيته وبيت أحد أصدقائه، بين بيته والمسجد الذي يصلي فيه، بين بيته وشاطئ البحر الذي يمارس بجانبه رياضاته اليومية، بين بيته ومزرعته للذين عندهم مزارع، مشاوير كثيرة نقوم بها في اليوم الواحد، حتى لا تكاد تغرب شمس اليوم؛ إلا ونحن نقع في المسافة الفاصلة بين بيوتنا وهذه الأماكن كلها، نمارس هذه؛ سمها العادة، سمها الضرورة، سمها الحاجة، سمها الروتين، سمها ما شئت، لكنها تبقى صورة تفاعلية بينك وبين نفسك، وبينك وبين الآخرين من حولك، في هذه المسافات كلها تجد ما يلفت نظرك، ويأخذ بتفكيرك، وقد يرفع ضغطك، أو مستوى السكر عندك، وقد تضطر إلى التوقف جانبا فتقحم نفسك في شجار لا تود أن تكون أحد أطرافه، وتلوم نفسك بعد أن تهدأ العواطف والمشاعر وينزل مستوى الضغط والسكر، وقد رأيت شخصيا أناسا ينزلون من سياراتهم ويتعاركون على جانب الطريق، فحمدت الله انني لم أقع بعد في مثل هذا المأزق الذي ينزل بالبعض من مرتبة العقلاء إلى ما دون ذلك.

هذه المسافات قد تجر عليك وبالا، كما هي الصورة أعلاه، وقد ترفعك منزلة الكرماء بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، فوقوفك لإنسان تقطعت به السبل، يعد كرما، وانعطافك لإزالة حيوان نافق تدهسه السيارات ذهابا وإيابا قمة لإنسانية مفتقدة، وتحملك لإزالة أذى، كيفما تكون حالته؛ صدقة، كما هو نص الحديث، ومساعدتك لرجل مسن، أو طفل لا يستطيع أن يقطع جانبي الطريق تمثل نموذجا لأنفس تهرول؛ ولا تدري معنى للاستقرار.

في هذه المسافات كلها أو جلها يكون لديك المتسع لأن تفكر، وتنفذ، أن تستدعي ذاكرتك المثخنة بالأحمال، وتتنازع مع ذاتك المتعبة بالأوزار، أو أن تعزف نغما شجيا يعيد إليك شيئا مما افتقدته في السنوات العجاف، وما أكثرها في حياتنا، أن تتجاذب أطراف الحديث مع من يكون بجانبك في تلك اللحظات، فاجتماعيتنا مفقودة إلى حد بعيد؛ إلا في مثل هذه المسافات النادرة التي نقطعها برفقة صديق، أو قريب، أو من سمحت له بمرافقتك من الذين تقطعت به سبل الوصول إلى وجهة ما، في لحظة ما.

في هذه المسافات كلها يمكنك أن تولد أفكارا، وأن تنشئ مشروعا، وأن تعيد ترتيب حسابات كثيرة، لم يسعفك الوقت لأن تقوم بها في أوقاتك الأخرى، فلحظات الانعتاق التي نتمناها؛ يتحقق أغلبها في هذه المسافات؛ حيث تكون في حل من التزامات مادية كثيرة، حيث تكون الحالة (أنت وأنت فقط) وإذا أضفت ثالثا فذلك أفضل، لأنك يقينا سوف تكسب معرفة ربما لن تتحقق في غياب هذا الثالث الذي يسعفك القدر بمرافقته، فلدى هذا الآخر مائة قصة وموقف وحكاية؛ يود أن يبوح بها، وقد يطلعك على أسرار لم تحلم لأن تعرفها عن أشياء كثيرة، وقد قيل أن الاثنين أفضل من الواحد، والثلاثة افضل من الاثنين، هذا في السفر أكثر.

في هذه المسافات؛ يمكن أيضا أن ترتكب حماقات، وتؤذي آخرين، وتخالف أنظمة وقوانين، وقد يخالجك شعور بأن هذا الطريق ملكك أنت فقط، وأنك الوحيد الذي يسير عليه، وأنك الوحيد الذي يجب أن يفسح له الطريق، وأنك الوحيد الذي يقود طابورا من المركبات، لأنك بكل بساطة تمارس أنانيتك التي لم تتح لك فرصة ممارستها في أوقات أخرى، أو أماكن أخرى.

في هذه المسافات عليك أن تكون الخصم والحكم، حتى تصل ولو إلى قدر من المسؤولية، وقدر من المثالية، وقدر من احترام الذات، وقدر من احترام الآخر، فالآخر نفسه؛ هو أيضا يقاسمك نفس الشعور، فإن أسأت؛ سوف يسيء إليك، وإن أحسنت سوف يحسن إليك. أكرمكم الله بسلامة المسافات.