أفكار وآراء

روسيا ودورها في الشرق الأوسط !!

15 نوفمبر 2017
15 نوفمبر 2017

إميل أمين - كاتب مصري -

[email protected] -

يمكن القطع بأن روسيا في زمن فلاديمير بوتين قد عرفت تمام المعرفة كيف تستغل الأخطاء التاريخية الاستراتيجية التي وقعت فيها الولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق درجة عالية من ملء الفراغات التي خلفتها الأخطاء الأمريكية ، ولهذا ارتفعت صور بوتين كثيرا في الميادين العربية التي عرفت ثورات شعبية، وان أثبتت الأيام أنها ثورات هدامة من النوع الذي يجلب الخراب والدمار لا الذي يرسي ديمقراطيات أو يقود إلى انتصارات للأمم في طريق رفع شأن وكرامة الإنسان .

ما الذي ميز روسيا مؤخرا وحدا بوكالة «بلومبيرج» الأمريكية الشهيرة لان تطلق عليها لقب سيدة الشرق الأوسط الجديدة ؟

عبر صحيفة «إيزفيستيا» الروسية يتحدث المحلل السياسي «الكسندر فيدروسوف» موصفا واقع حال روسيا في الشرق الأوسط بانها تعلمت الحفاظ على موقف الحياد، وبناء علاقات براجماتية لا تعتمد على أسس ايديولوجية، وذلك بعد ملئها بالتدريج الفراغ، الذي نشا بسبب الأخطاء العديدة، التي ارتكبتها الولايات المتحدة وأخذها دورها كلاعب عالمي كما كان الاتحاد السوفيتي سابقا»

على أن الحديث السابق يحتاج الى نقاش سيما وان هناك فارقا كبيرا بين الاتحاد السوفيتي بصورته القديمة وروسيا بشكلها الحديث، فبداية يمكن القول إن زمن التناحر الأيديولوجي قد انتهى بين الغرب والشرق، وان عاد بأشكال أخرى، كما أن موسكو التي كانت تبشر بنسق شيوعي تعدلت أحوالها وتبدلت أوضاعها، وباتت حامية لحمى الأرثوذكسية المسيحية ما يعني أن هناك أبعادا جديدة لم تكن في الحسبان من قبل، وغير خاف على احد أن الجماهير العربية والمسلمة كانت تنظر الى الشيوعية نظرة ازدراء لأنها لا تتساوق مع مقدراتها الإيمانية، فيما المشهد الآن مختلف طولا وعرضا، شكلا وموضوعا، ومساحة إجمالية .

لم تعد روسيا بوتين اليوم هي الاتحاد السوفيتي الداعي الى الإيمان بالنظرية الشيوعية أو الساعية الى بسط النفوذ على دول العالم لتدور في فلكها، بل باتت موسكو محط الأنظار إذ تؤسس فيها الآن رؤية مركزية لعالم جديد يسعى لتعاون خلاق مع بقية قارات ودول العالم دون استعلاء او إقصاء، فروسيا اليوم تطرح موقفها في صراحة ووضوح وتطلب دراسته للتوصل الى نتائج مثمرة للطرفين من دون إنذارات ولي اذرع وهذا الموقف يحفز على الاحترام وهو بدا يؤتي أكله .

أظهرت روسيا ذكاءات شديدة جدا في الفترة الماضية استدعت أن تمتدحها الوكالة الأمريكية الشهيرة « بلومبيرج » ومرد ذلك أنها وضعت نصب أعينها طريق يمثل البراجماتية المستنيرة ان جاز التعبير، بمعنى ان تسعى لمصالحها دون أن تكون متقاطعة سلبيا مع مصالح الغير واهتماماته وحياة شعوبه وأمن وأمان دوله .

كاتب مقال بلومبيرج بين لنا أن قوة روسيا الحديثة في الشرق الأوسط قد بلورها بوتين في أنها لا تلعب على الساحة العالمية على حساب الآخرين، فنهجها بسيط للغاية، ومفاده ..«هذه هي مصالحنا ودعونا ننظر كيف يمكننا ان نربطها بمصالحكم عبر بناء التعاون المتبادل، دون اي تهديدات وإنذارات»، وهذا المنهج يثير الاحترام ويعود بالفائدة على كافة الأطراف .

ما الذي حدث وجعل موسكو مؤخرا قبلة لكثير من زعماء وقادة الشرق الأوسط؟

الشاهد أننا رأينا في الأعوام الثلاثة الأخيرة انصرافا شرق أوسطيا شمل العرب والاسرائيليين كذلك عن الأمريكيين وبخاصة في نهاية فترة الرئيس باراك أوباما بعد أن اكتشف الجميع أن الرجل بارع جدا في الحديث والتنظير فقط، دون القدرة الحقيقية على الفعل، وقد وصفه كيسنجر بانه منظر بلاغي ماهر لكنه دون المستوى عندما يتعلق الأمر بالتنفيذ على الأرض .

تسبب باراك اوباما في كوارث للشرق أوسطيين عبر تحالفاته مع تيارات الإسلام السياسي، ودفاعه المستميت عنهم الى ان رحل عن البيت الأبيض، وفي الوقت عينه كانت موسكو وفية جدا لتحالفاتها الشرق أوسطية ولهذا رفضت ان تسقط سوريا في ايدي الإرهابيين من أمثال داعش والقاعدة وغيرهما .

يمكن القطع ان مقاربة جوهرية قد اعتملت في عقول العرب الشرق أوسطيين بين موقف روسيا التي رفضت سقوط الأسد وأرسلت لتدافع عنه وبين مواقف أمريكا من حسني مبارك الصديق الذي قدم لها خدمات جوهرية طوال 3 عقود، وعند الملمات صاح المتحدث باسم البيت الأبيض انه عليه ان يغادر الآن اي الآن، ويومها تساءل الجميع اي تحالفات يمكن ان تقوم مع مثل هذه دولة ومثل ذلك رئيس ؟

على ان هناك ايضا أمر آخر يتصل بالدور الروسي في الشرق الأوسط وهو الضريبة التي كان ولابد لواشنطن ان تدفعها بعد فشل ثورات ما اطلق عليه الربيع العربي، فقد انصرفت عواصم كثيرة وكبيرة في المنطقة عن سوق السلاح الأمريكي، وبدأت في التفكير العقلاني والعملياتي الذي يستوجب تنويع مصادر الأسلحة وهنا كانت روسيا في المقدمة، ووجدت أنها يمكن أن تحقق مصالح مزدوجة مالية واقتصادية، عطفا على عودتها من جديد إلى الشارع العربي وفي ذلك كانت واشنطن تخسر كل مربع تملاه روسيا، الأمر الذي حذر منه كيسنجر باراك أوباما قبل نهاية ولايته بعامين، لكن الرجل الذي تجرا على الأمل وكان أمله خداع لم يصخ السمع لثعلب السياسة الأمريكية، وظل على عهده يؤمن بالقيادة من خلف الكواليس دون مقدرة حقيقية أو رغبة وإرادة قوية لجهة التدخل وإعادة ضبط الأمور من منظور واقعي لا خيالي .

والثابت أن أمريكا قد ساعدت بقصد او بغير قصد على ان تصعد موسكو في الشرق الأوسط، وفي هذا يقول « فيودور لوكيانوف » من مجلس السياسة الخارجية والدفاعية في موسكو أن :«الولايات المتحدة أصبحت اقل اهتماما بالشرق الأوسط وروسيا تستفيد من ذلك «.... ما مدى صحة هذا الحديث ؟

في مايو من العام 2008 نشرت مجلة الفورين بوليسي الأمريكية ذائعة الصيت مقالا لريتشارد هاس رئيس مجلس العلاقات الخارجية الأمريكي في نيويورك، الأهم والأقدم بين المعاهد الخاصة في أمريكا التي تمد صانع القرار في واشنطن بالمعلومات اللازمة لفهم ابعاد المشهد الأممي، وقد جاء في المقال أن اهتمام واشنطن بالمنطقة الشرق أوسطية قد ضعف عما كان عليه قبل عدة عقود وتحديدا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .

في هذا السياق يمكن القطع بان هاس كان محقا فقد رتب الأمريكيون أوراقهم على نحو مغاير بمعنى انهم قدروا أن الثورات ذات الملمح الإسلامي سوف تسيطر على مقدرات الأمور في الشرق الأوسط وانه لا مانع من عودة الوصايات القديمة التي كانت حاضرة في الشرق الأوسط قبل خمسينات القرن الماضي لتلعب دورا جديدا في العصر الحاضر . لكن السؤال الذي لم يلتفت إليه الكثيرون ماذا كان هدف الأمريكيين الحقيقي من صرف النظر عن الشرق الأوسط كمنطقة نفوذ استراتيجي تاريخي ؟

باختصار كان الهدف الرئيس للأمريكيين هو روسيا والصين، أي قطع الطريق على روسيا الدب الذي صحا من رقاد طويل، والصين التنين القادم بقوة الى آفاق القطبية العالمية .. لكن كيف ؟

الجواب المعروف هو عبر استخدام الأصوليات والراديكاليات كمخلب قط وتصعيدها الى الشمال لتفكيك الدولتين الكبريين من الداخل، ومن ثم تفتيتهما، لتتحقق رؤية المحافظين الجدد التي وضعت أساساتها نهاية تسعينات القرن الماضي، تحت عنوان «القرن الأمريكي».

غير أن فهم الروس العلني وتفاهماتهم الخفية مع الصينيين دفعت الآسيويين عامة الى تفضيل خيار الحضور الروسي في الشرق الأوسط لملاقاة الدواعش ومن لف لهم قبل ان تتمكن واشنطن من تحقيق خططها التي لا تزال تمضي حول العالم بمسحة سلطوية وامبريالية .

لكن شيئا ما تغير في المشهد، شيئ يتعلق بالرئيس الأمريكي الجديد، فقد استطاع دونالد ترامب رجل العقارات القادم من خارج المؤسسة السياسية الأمريكية «الاستبلشمنت»، استطاع ان ينتزع تلك الرئاسة انتزاعا من فم الأسد المتمثل في هيلاري كلينتون وكيل الجانب الاستعماري الأمريكي .

جاء ترامب الى الحكم حاملا دعوات للتصالح مع روسيا تحديا ومناديا بعلاقات جيدة معهم وإنهاء الخلافات، غير ان هذا كله تحطم على صخرة الجدل حول تدخل روسيا في انتخابات الرئاسة الأمريكية الأخيرة .

يتساءل الكاتب الأمريكي «بول كريج روبيرتس» من صاحب فكرة روسيا جيت ؟

ويجيب أنشئت الفكرة من قبل مدير وكالة المخابرات المركزية جون برينان، فقد بدأت الوكالة بهذه الفكرة من اجل منع ترامب من تطبيع العلاقات مع روسيا، اذ تحتاج الوكالة والمجمع الأمني العسكري الى عدو لتبرير ميزانيتها الضخمة وقوتها غير الخاضعة للمساءلة، لذلك فقد كلفت روسيا بهذا الدور .

باختصار أرادت المجموعة الحاكمة في أمريكا لا سيما من جماعة المحافظين الجدد والتقليديين تقييد يدي بوتين عن التوسع أدبيا وماديا، عسكريا وسياسيا حول العالم، لكن من الواضح ان النتيجة جاءت مخالفة من جديد لكل التوقعات السابقة، فها هي الولايات المتحدة تغرق في تفصيلات وإشكاليات المنطقة، ومن جهة ثانية نراها تدخل في صراعات مع دول في شرق آسيا مثل كوريا الشمالية، وتزداد مجابهتها لإيران حول برنامجها النووي .

في هذه الأثناء يرحب بفلاديمير بوتين زائرا في الشرق الأوسط، ويزداد الإقبال على سوق السلاح الروسي سيما بعد ان أظهرت الحرب في سوريا وجود اجيال من السلاح الروسي تفوق نظيرتها الأمريكية، ويتحرك وزير دفاعها ووزير خارجيتها كيفما شاءا، عطفا على النظر الى روسيا كطرف فاعل في النزاع الفلسطيني الإسرائيلي .

الخلاصة ربما تكون روسيا بالفعل سيدة الشرق الأوسط الجديدة وهو وضع بالطبع لن ترتضيه واشنطن لذا فان الحديث عن حروب قادمة في المنطقة قد تكون المقصود بها روسيا وأبعادها من جديد عن منطقة كانت نفوذا أمريكيا بامتياز وتسعى لان تظل كذلك حتى القرن الثاني والعشرين على الأقل .