أفكار وآراء

درس من «تويتر»

15 نوفمبر 2017
15 نوفمبر 2017

مصباح قطب -

[email protected] -

الحياة مدرسة، هكذا يقولون. حياة الفرد والأسرة والمؤسسة أو الشركة تشهد كل يوم متغيرا جديدا ودرسا أو دروسا جديدة ، والشاطر هو من يتعلم ، فلا يعيد في غده ما كانت التجارب قد أنبأته في أمسه بأنه خطأ أو ناقص أو غير سليم أو ضار وهكذا ، وبما أننا نتحدث كثيرا الآن عن الفضاء الإلكتروني ، أو العالم الافتراضي، فهناك إذا ما يسمح لنا بالقول إن الحياة الافتراضية هي الأخرى مدرسة ! ، ولعل ما حدث أخيرا مع موقع التدوينات القصيرة تويتر يكون محل اهتمام من المعنيين بالاقتصاد والأعمال وبغيرهما لأهميته وما فيه من دروس ، فقد نشرت شركة تويتر بيانا مطولا منذ أيام تشرح فيه للمغردين ومتابعي الموقع خبرة عملية زيادة عدد الحروف المسموح بها في التدوينة الواحدة من 140 الى 280 حرفا .

كان ذاك مطلبا من كثيرين ، ولعل بعضنا عاش التجربة مرارا بنفسه ، حين كان يسعى الى توصيل فكرة فلا يسعه حيز المائة والأربعين حرفا مهما حاول تكثيف الفكرة، فيقول ساخطا وقتها : لم لا يزيدون عدد الحروف ؟ ويلجأ اضطرارا الى تجزئة الفكرة إلى اكثر من تغريدة . ومن الواضح ان صوت المطالبين بزيادة الحروف كان قويا ومؤثرا بحيث استمعت الشركة جيدا ودرست ثم قررت ، لكن المدهش أن النتائج كانت ملتبسة بل وانطوت بشكل ضمني على ما يشبه رفض الزيادة.

في البداية كان قد حدث نوع من التوسع في الحروف مع الذين كانوا قد اعتادوا الوقوف في تغريداتهم عند الحد الأقصى فقد استغل هؤلاء الفرصة ورفعوا عدد الحروف للاستفادة من الميزة الجديدة، لكن عدد الذين استخدموا 280 حرفا أو اقل قليلا سرعان ما تراجع بشكل واضح ، وبدا كأن الجمهور راجع نفسه وعاد تقريبا الى سيرته الأولى . فما هو الدرس المستفاد يا ترى ؟

من الأهمية بمكان ان نشير الى ظاهرة تشيع في الثقافة العربية وربما في ثقافات أخرى وهي ظاهرة استسهال المطالبات وقد أشرت في اكثر من مقال الى استسهال حل المشاكل عبر عمل تشريع جديد أو عمل وزارة أو هيئة جديدة استجابة لمطالب متعجلة. نفس الشيء في مشاكل تفصيلية ، وعلى سبيل المثال فقد وصلت الشكاوى من مؤسسات الضرائب في مصر الى حد أنها أصبحت مادة مقررة في كل اجتماع يشارك فيه رجال أعمال كبروا أم صغروا ومحاسبون وممولون مختلفون، وكانت الشكاوى تتكرر تقريبا بنفس اللغة ، مهما حدث من تغير في القوانين واللوائح والأداء ، وإزاء الانتقاد المتتالي الخاص ببطء الإجراءات وتعقيدات البيروقراطية وكثرة المنازعات بين الممول ومصلحة الضرائب سواء داخل المصلحة نفسها أو على ساحات القضاء بدراجاته المختلفة... إزاء ذلك كله ، تحمس نائب وزير المالية للسياسات الضريبية لإصدار قانون لإنهاء المنازعات الضريبية ، واكتملت رحلة القانون وظهر فعلا ، وكانت تلك المنازعات قد زادت في المحاكم القضائية وحدها عن 160 ألفا وتم تحديد أجل للقانون وهو مدة عام حتى لا يصبح هذا الإجراء الاستثنائي هو الأصل وكي لا يتكاسل الممولون عن سداد التزاماتهم تحت دعوى دعونا ننتظر ثم نلجأ في النهاية الى لجنة إنهاء المنازعات هذه .

يشار الى أن القانون ينص على قيام الممول الراغب في اللجوء الى اللجنة بتقديم طلب إلى المحكمة بوقف سير الدعوى بغية التصالح تحت مظلة قانون إنهاء المنازعات وإذا لم يعجبه قرار اللجنة من حقه معاودة الاستمرار في الدعوة القضائية ، أما إذا حاز القرار قبوله، فيتم إخطار المحكمة بشطب الدعوة لتصالح الطرفين.

المهم أن من تقدم للجنة بعد عام كان بلغ 4000 ممول فقط . هذا مثل يوضح أهمية التحليل الجيد والمعمق للمطالبات التي تأتي من الجمهور الذي يتلقى أو يقدم خدمة أو سلعة وقد صوبت وزارة المالية ذاتها التوجه وزادت جرعة الترويج له ليكون فعالا بحق .

مثل آخر وبشكل سريع ظل عدد من خبراء أسواق المال المنفتحين على التجارب الدولية يطالبون منذ سنوات بعمل تعديل تشريعي يسمح بإصدار ما يسمى بسندات الإيراد وهي السندات التي يتم سداد اصل السند وعوائده معها من عوائد المشروع نفسه ، فإذا كان طريق مثلا فإن الرسوم التي تفرض على المرور هي التي تمول عائد سندات تمويل إقامة الطريق وتمول كذلك رد اصل قيمة السند في نهاية الأجل ، وبعد تحمس رئيس هيئة الرقابة المالية للمشروع ، وتم بالفعل عمل هذا التعديل ، لم يقم أي طرف عام أو خاص باستخدام هذه الآلية بل والطريف ان المطالبين بها صمتوا تماما . مرة أخرى يبين أن من الحنكة التعامل بتأن وتدقيق مع المطالبات التي تأتي من مجتمع الأعمال أو الخبراء أو من الجمهور العام أو حتى وهذا أمر مستجد ومهم تلك التي تأتي عبر موجات إلحاح من رواد شبكات التواصل الاجتماعي ، والحاذق هناك من يتفاعل بطريقة صحيحة مع المطالب ويتحاور حولها لأطول اجل ممكن حتى يتيقن عدد أو أغلبية من المعنيين أن ما سيتم الشروع في عمله سواء كان إنشاء لكيان جديد أو قانون جديد أو تغيير لائحة أو منظومة أو تعديل هيكل ما ، سيكون مفيدا في الحدود التي تم دراستها ، وفي حالات استمرار قدر من عدم اليقين فإن افضل الحلول هو عمل بايلوت أو تجربة في موقع محدد يتم فيه اختبار الفكرة قبل التوسع فيها ، وقد انتهجت مصر ذاتها هذا النهج اكثر من مرة واختارت في بعض الأمور ذات الطابع القومي البدء بمناطق أو محافظات يسهل التطبيق فيها نسبيا ويمكن قياس أثره ودراسة نقاط القوة والضعف بحيث يتم تفادي ذلك عند تعميم التجربة .

أعود إلى تويتر فقد اصبح سخط البعض عليه بعد زيادة عدد الحروف عاتيا، و الحق يقتضي أيضا ألا يتم الاندفاع وراء رأي الساخطين بسرعة ، فإذا كنا نقول انه يجب التعامل بتأن وحذر مع الراضين ، فمن باب أولى ألا تخدعنا صرخات الغاضبين، فقد يكون هناك جمهور كبير فعلا يجد نفسه مرتاحا الى فتح عدد الحروف الى ما هو اكثر من 140 حرفا حتى لو لم يستخدم هذه الميزة كثيرا ، ويبقى ان أحد أهم نقاط القوة في رفض الرافضين هو أن قفص  الـ 140 حرفا كان يجبر الأفراد على التكثيف والتركيز على أبعد حد بما يسمح بالشعور بالزهو عند إنهاء المهمة أي نقل فكرة جيدة في اقل عدد من الحروف بل واحيانا ابتكار أمور وكلمات من اجل توصيل الفكرة دون تجاوز سقف الحروف المسموح به ، ويعتقد هؤلاء أن زيادة عدد الحروف قد فككت هذه الحالة وأضاعت مناخ الهمم المشحوذة ، وعلى أي حال فإن من غرائب الأمور أن تويتر كان قد اخبرنا في بيانه المطول انه لم يزد عدد الحروف للمغردين باليابانية أو الصينية أو الكورية ، لان هؤلاء لم يطلبوا الزيادة فضلا عن أن التكثيف هو سمة أساسية في بنية اللغة والحروف عند هؤلاء القوم . بيد أن ذلك والقول لي أي “الكاتب“ أمر يثير الإعجاب من زاوية جديدة بأصحاب اللغات الشرقية هؤلاء ، بينما الشائع عن الشرق بصفة عامة انه يميل الى الإطناب والبلاغة. نكرر أخيرا المثل الشائع عن ان الإمام محمد عبده كان قد كتب رسالة مطولة الى صديق له وأنهاها بقوله : “اعذرني على الإطالة فلم يكن لدي وقت للتركيز”  أي أن الكتابة الطويلة تأخذ وقتا اقل من الكتابة القصيرة المركزة المشحونة والدالة .

يا أهل الاقتصاد الكرام :- “خير الكلام ما قل ودل“ .