الملف السياسي

الاهتمام بالعنصر البشري عصب الاقتصاد العُماني

06 نوفمبر 2017
06 نوفمبر 2017

الطيب الصادق -

,, لا شك أن التنمية البشرية في السلطنة تعد توجها أصيلا حيث تبنت الحكومة مفهوما واسعا لتنمية الموارد البشرية الذي يعتبر الإنسان الهدف والغاية النهائية لعملية التنمية وليس وسيلة فقط لتحقيقها,,  وزاد هذا التوجه بعد إطلاق برنامج التعمين في عام 1988 والذي يهدف في الأساس استبدال القوى العاملة الأجنبية بالموظفين العُمانيين من خلال تشجيع المنشآت التي تتجاوب مع برنامج التعمين وفتح أبواب العمل أمام المواطنين ورفع مستوى تدريبهم وصقل خبراتهم ولذلك ظهرت نتائج هذا البرنامج تباعا في المهن والأعمال الحكومية وحتى مؤسسات القطاع الخاص التي التزمت بنسب التعمين التي حددتها الحكومة لها وكل هذا ساهم في الاستمرار قدما في الطريق الصحيح للتنمية الاقتصادية رغم التحديات غير المسبوقة التي شهدتها السلطنة وجميع دول العالم وخصوصا النفطية منها بعد تدني أسعار البترول.

وللموارد البشرية دور كبير في التنمية الاقتصادية إذ إنها الثروة الرئيسية للدول وبدونها لن يكون للعوامل الأخرى أي قيمة، فالموارد الطبيعية والمالية مثلا، رغم أهميها إلا أنهما يأتيان في مرتبة متأخرة مقارنة بالموارد البشرية. وبدون العنصر البشري لا يمكن أن توجد تنمية حقيقة في الأساس، ولذلك فالتنمية البشرية ضرورة قصوى وذات أهمية بالغة وأنها عصب الاقتصاد، وأنها العقل المفكر والمبدع الذي يبتكر ويستطيع إيجاد الحلول المختلفة مهما كانت الموارد المتاحة لديه، وهو العنصر الوحيد الذي يستطيع أن يزيد من الإنتاجية لأنه ثروة المجتمع الحقيقية ولذلك تضع الدول تنمية الموارد البشرية على رأس أولوياتها أثناء القيام بعمليات التخطيط لأنها تعرف جيدا أن التنمية البشرية هي التي تسرع عملية التنمية الشاملة في جميع المجالات ولا سيما الاقتصادية منها.

أدركت السلطنة الأهمية البالغة للتنمية البشرية وعملت على الاهتمام بها وكانت ضمن خطة التنمية الاقتصادية التي هدفت بالأساس إلى تنويع مصادر دخلها وتأكدت أنه لن يمكن تحقيق ذلك إلا بالاعتماد على تحسين وتأهيل مواردها البشرية خاصة بعد اعتمادها على توسيع القطاعات الاقتصادية من السياحة والصناعة والزراعة وصيد الأسماك وتقليل الاعتماد على النفط ليصل من 46% إلى 9% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2020 كما هو مأمول.

وهناك حقائق تاريخية لا يمكن إغفالها تجزم بأن الاهتمام بالعنصر البشري يستطيع أن يحقق الإنجازات، ولم يكن يتوقع أن تحدث نهضة للدول التي دمرتها الحروب العالمية وتعود بأسرع وقت إلى أفضل مما كانت عليه، بل تصبح من أكثر الدول تقدما في وقت قياسي، إلا بعد اهتمامها بالموارد البشرية والاعتماد عليها، لأنها أيقنت أن ذلك هو أساس التنمية. ولذلك وجهت كل إمكانياتها المتاحة سواء المالية أو غيرها نحو المواطن، وقدمت له كل الأدوات وصقلت له مواهبه للحصول في النهاية على النتائج والأهداف المرجوة والتي ساهمت في تحسين أوضاعه المعيشية، وزيادة معدلات التنمية في بلدانها.

ولم تكن السلطنة بعيدة عن اللحاق بهذه الدول من خلال الاهتمام بالتنمية البشرية والاستثمار في عقول أبنائها وتنميتهم بما يتناسب مع الإمكانيات والظروف المتاحة لديها، وبدأ الاهتمام بالمورد البشري العماني بالتعليم والصحة اللذين يعدان الركيزة الأساسية التي تعتمد عليها الدول في بناء ودعم القدرات الخاصة للأفراد وتقارير التنمية البشرية السنوية التي يصدرها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) يكشف عن سرعة ارتفاع معدل التنمية البشرية في السلطنة خلال العقود الأربعة الماضية وجاءت في مصاف الدول التي احتلت المراكز المتقدمة ذات التنمية المرتفعة حيث جاءت السلطنة في المركز السادس عربيا في مؤشر التنمية البشرية لعام 2016 والمركز الـ52 عالميا في المؤشر الذي ضم 188 دولة وصنفت ضمن فئة الدول ذات التنمية البشرية المرتفعة حيث ذكر التقرير أن مصدر هذا التقدم ليس إيرادات النفط والغاز كما قد يفترض، وإنما هو نتيجة للإنجازات الكبيرة التي حققتها السلطنة في الصحة والتعليم، أي في البعدين غير المرتبطين بالدخل من دليل التنمية البشرية وكذلك انتهاج سياسات وآليات عملية متكاملة لتنمية الموارد البشرية استطاعت من خلالها السلطنة أن تهيئ المجتمع العُماني لاستشراف آفاق المستقبل.

وتؤكد الشواهد أن الموارد البشرية الوطنية تلعب دورا بارزا في التنمية الاقتصادية، وتؤثر تأثيرا مباشرا في معدل الناتج القومي الإجمالي الذي يعتمد على قيمة السلع والخدمات التي تم إنتاجها داخل حدود الدولة، ولذلك تعمل السلطنة على استغلال الموارد الطبيعية والإمكانيات المادية -التي حباها الله لها- في رفع كفاءة الموارد البشرية الوطنية والتركيز على تدريبها وتأهيلها ورفع كفاءتها لضمان استمرارية وزيادة جودة الإنتاجية التي تعبر عن وجود الإدارة ذات الكفاءة العالية لتحقيق معدلات نمو اقتصادية مرتفعة تعمل علي زيادة رفاهية المجتمع العُماني مما يتطلب ضرورة الاستعداد لمواجهة أي تحديات أو متغيرات قد تطرأ سواء كانت هذه التحديات داخلية أو خارجية مما يحتم عليها تدريب العنصر البشري الوطني لمواجهة الأزمات التي تحدث بين الحين والآخر وجعله مؤهلا لاتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب مما يساهم في استمرارية التنمية الاقتصادية وكذلك ضرورة العمل على إعداد الكوادر البشرية لاستشراف المستقبل الاقتصادي من خلال وضع السيناريوهات لمواجهة التحديات المحتملة والأزمات لتقليل صدمة التأثيرات السلبية المتوقعة ولذلك تعتبر العديد من الدول أن الاستثمار في التنمية البشرية خيارا استراتيجيا مهما.

كما أن هناك العديد من التحديات التي تواجه التنمية البشرية حاليا لكن أبرزها التحديات المستقبلية والتحديث المستمر والتطور السريع في استخدام التكنولوجيا الحديثة والإنسان الآلي في التصنيع وزيادة الإنتاجية وهو اتجاه لجأت إلى تطبيقه العديد من الدول في أنشطتها الصناعية التي تولد لديها مستوى تصنيع أفضل ونتج عنه مستوى بطالة أقل وزاد من دقة التصنيع واتساق الإنتاج الصناعي وتقليص الحوادث والحد من الإصابات المتعلقة بالعمل والتخفيض من تكاليف الأيدي العاملة حتى أن بعض الدول بدأت في إنشاء وزارة خاصة للذكاء الاصطناعي واستخدام الطباعة ثلاثية الأبعاد في العديد من المجالات وكل هذا لن يعمل على الإطلاق - كما يتخيل البعض - من تقليل الاعتماد على المورد البشري بقدر ما يعمل بجانب العنصر البشري الذي يعد أساس التنمية في زيادة الإنتاجية والتصنيع وهو ما تم التأكيد عليه في مناقشات العديد من الخبراء خلال مشاركتي في فاعليات المنتدي الاستراتيجي العربي الذي عقد بدبي الشهر الماضي حول استشراف المستقبل الجيوسياسي والاقتصادي، وهنا يجب أن يتم الإدراك بضرورة إعادة تأهيل الأفراد ومواكبتهم للتطورات المتلاحقة حتى لا يتخلفوا عن الركب والاتجاه العالمي لأن الهدف الرئيسي الذي تسعى إليه الدول هو الإنتاجية والتنافسية ولا يمكن تحقيقهما بدون موارد بشرية مؤهلة لذلك واعتبار الأدوات والوسائل الإنتاجية الجديدة مكملة وهو ما يتطلب ضرورة الانتباه إلى هذا التحدي الأبرز الذي بدأ يواجه الجميع وعملت بعض الدول على التعاطي معه من خلال تدريب كوادرها وإيجاد مخرجات تعليم يحتاجهم سوق العمل الفعلي بعد أن أصبحت الدول المتقدمة توظف التكنولوجيا الحديثة لزيادة إنتاجيتها مع وجود موارد بشرية تستطيع مواكبة هذه التطورات.

أعتقد من وجهة نظري أن السلطنة قادرة على زيادة نموها الاقتصادي وتحقيق الرفاهية لمواطنيها من خلال توظيف كل مواردها الطبيعية والمادية لخدمة تنمية الموارد البشرية والعمل على إزالة كافة العراقيل التي تقف أمام تأهيل الأفراد، وتزويدهم بالوسائل التعليمية التي تواكب العصر الحديث، والعمل على التركيز على البرامج التدريبية التي تلبي حاجات سوق العمل، والاستفادة من تجارب الدول المتقدمة، وتأهيل الشباب العماني ليلعب دورا مهما في التنمية الاقتصادية وتحفيزه على إقامة المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تساهم في دفع معدلات النمو الاقتصادي للأمام بشكل أسرع مع امتصاص نسب كبيرة من معدل الباحثين عن عمل وفي الوقت نفسه سيزيد من خبرات الأيدي العاملة الوطنية التي تصب في النهاية إلى رفع مستوى معيشة ورفاهية المجتمع.