أفكار وآراء

الطريق إلى التفوق .. ودور مهم للقطاع الخاص

29 أكتوبر 2017
29 أكتوبر 2017

محمد حسن داود -

,, كان اهتمامي منصبا دائما على الموضوعات التحليلية،مع الرغبة في السؤال:لماذا؟وكيف؟ كنت شغوفا ومهتما بالماهية التي تعمل بها الأشياء.. ولكم ساءلت نفسي: كيف تعمل الأشياء؟ ولماذا تتحول بعض المواد الصلبة كالخشب إلى غاز عند احتراقها؟ فتحول المواد من صورة لأخرى كان يثير فضولي بدرجة كبيرة ,,

الكلمات السابقة هي جزء مما رصده الدكتور أحمد زويل، العالم العربي الوحيد الفائز بجائزة نوبل في فرع من فروعها العلمية، في كتابه الشهير »عصر العلم» والذي يتحدث فيه عن رحلته مع البحث العلمي والتفوق والوصول إلى القمة، ويحدد فيه أيضا وصفته المتكاملة لبناء الأوطان بالعلم والتعليم الحديث، وحقيقة الأمر أننا لو تأملنا كلماته البسيطة السابقة لوجدنا فيها الأساس العملي لبناء أي عالم أو باحث متميز، ويتمثل هذا الأساس في كلمة واحدة هي «التمرد»، ليست مبالغة، فالعلماء والعباقرة هم في الأساس مشروع «تمرد»على أوضاع قائمة وصولا إلى مراحل أخرى من التطور والتقدم في مختلف المجالات، وهو ما لا يمكن تحقيقه إلا بالبحث العلمي المتواصل والجاد،ثم فهذه الحالة هي من حالات «التمرد» المشروع والمحمود، بل والمرغوب أيضا، كونها ستصل بالإنسان والمجتمعات إلى أوضاع افضل بكثير مما هي عليه، والتمرد عملية عقلية خالصة تبدأ في الغالب - وعلى حد قول الدكتور زويل - بكلمة واحدة هي «لماذا» أو «كيف»، في محاولة لتفسير ظاهرة ما، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه فيما بعد لنظريات علمية متكاملة تقود إلى اختراعات ومنجزات علمية تساهم بشكل مباشر في التنمية الاقتصادية والمجتمعية والبشرية.

ولأهمية الكتاب والكاتب في إظهار ضرورة البحث العلمي ودوره في تحديث المجتمعات، فقد يكون من المهم التذكير ببعض المنعطفات المهمة التي رصدها صاحب التجربة ومن بينها على سبيل المثال لا الحصر قوله: « لم أشغل فكري وبالي بالثروة والمال أو اقتناء سيارة فاخرة أو ما إلى ذلك من متع الحياة المعهودة، ولكن الذي شغل فكري واستولى على خيالي هو أن أحصل على العلم وأن أتبوأ مركزا في دنياه، والمرء حيث يضع نفسه، ولا يوجد سبب للافتراض بأن العرب قد فقدوا قدرتهم على الإيمان أو الإبداع والخيال فهم كانوا في حقبة من الزمن منهل الخميرة الثقافية والعلم للغرب، ومن الأمور التي أدركتها وأكبرتها في النظام الأمريكي لشغل الوظائف في الجامعات والمعاهد العلمية هي احترامهم وتقديرهم للعلماء، ومن ناحيتي فقد عوملت كشخص ذي شأن في العلم، في الوقت الذي لم أكن فيه كذلك، فكثير من الاكتشافات العلمية الكبرى قوبلت في بادئ الأمر بشيء من الصد أو عدم القبول..وبعد فترة يتفهمها العلماء وتعم أخبارها الدنيا وهكذا شكلت ملاحظاتنا الجديدة، والتي لم يسبقنا إليها أحد ولم تكن متوقعة أيضا، نقلة جديدة غيرت مسار هذا العلم في اتجاه آخر».

وفي ضوء ما سبق تبقى متلازمة التقدم والتطوير والحداثة وتبني البحث العلمي كأسلوب حياة وخيار استراتيجي حقيقة واقعة على أرضية الميدان، وليس أدل على ذلك من أن الدول الكبرى والمهيمنة على مقدرات العالم كأمريكا والصين واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبية هي التي وظفت البحث العلمي لخدمة المجتمع في كافة المجالات والقطاعات وصولا إلى ما يمكن تسميته «الحياة الذكية» التي تتبنى الوسائل التكنولوجية في مختلف الأعمال لجعل حياة الناس يسيرة وممتعة بأقل مجهود ممكن، وفي هذا السياق ولدت فكرة «المدن الذكية» التي أصبحت قرينة أساسية عند التمدد العمراني وبناء المدن الجديدة والمساكن والطرق الحديثة, وهذا التطور «الحياة الذكية» هو في حد ذاته ترجمة عملية ومباشرة لتراكم ضخم من البحث العلمي المتواصل على مدى سنوات طويلة.

وليس خافيا أن الدول التي نجحت في تطبيق هذه المتلازمة وما ارتبط بها من إنجازات علمية هي ذاتها الدول التي خصصت مبالغ مالية ضخمة من ميزانياتها ودخلها الإجمالي لإصلاح التعليم وتطويره أولا، ولصالح البحث العلمي بالتأكيد، لصلته الوثيقة بالعملية التعليمية، هذه المبالغ وصلت إلى نسبة تقترب أو حتى تتجاوز 4% من الناتج القومي الإجمالي لدى بعض الدول، وعند ترجمتها إلى أرقام مالية فأنها ستصيبنا بالذهول بكل تأكيد، وعلى سبيل المثال، في الوقت الراهن يقترب هذا الرقم من نصف تريليون دولار سنويا في الولايات المتحدة وحدها، وقد تصيبنا الصدمة أيضا إذا ما علمنا أن ما تخصصه شركة كبرى على الصعيد العالمي من أموال للبحث العلمي وحده داخل منشآتها العلمية لتطوير إنتاجها ورفع مستوى أعمالها يتجاوز الميزانية السنوية الشاملة لدول كبرى في منطقتنا.

وتقودنا هذه الحقيقة إلى مسألة أخرى مهمة تتمثل في حتمية وجود دور حيوي وأساسي للقطاع الخاص في تبني وتطوير البحث العلمي في منشآتهم وكياناتهم الإنتاجية بما يعود بالنفع على عملية التنمية الجارية في الدولة وتحقيق الصالح العام لجموع المواطنين، ولا تناشد هذه الدعوى قطاعا إنتاجيا بعينه دون غيره من القطاعات الأخرى، وإنما هي عملية تتسم بالشمول والاستمرارية كذلك في كل المجالات، ومن المهم أن تتحول تلك الحقيقة إلى عقيدة راسخة لدى رجال الأعمال وأصحاب المشروعات الخاصة بحيث يدركون أن لتطوير وحدات البحث العلمي داخل منشآتهم الإنتاجية - أيا كان نوعها أو تخصصها - دورا كبيرا في تعظيم مدخولاتهم وتوسيع حجم أعمالهم ورفع مستوى وجودة إنتاجهم حاضرا ومستقبلا.

ومن الواضح أن سلطنة عمان تتبنى بالفعل ومنذ سنوات ليست قليلة هذه العقيدة المقرونة بإرادة سياسية حقيقية في جعل البحث العلمي جزءا لا يتجزأ من العملية التعليمية في إطار منظومة متكاملة لتحقيق التنمية الشاملة في مختلف القطاعات، وقد تبدت هذه القناعة في العديد من المؤسسات والهيئات والمنشآت التي أخذت على عاتقها رسم السياسات العليا للبحث العلمي في البلاد وإطلاق مبادراته المتعددة للنهوض بالعنصر البشري والكوادر المتخصصة في هذا المجال وتحمل على عاتقها مسئوليات التطوير والتحديث والابتكار،علاوة على إنشاء العديد من الأكاديميات والمعاهد العلمية المتخصصة التي تجعل من البحث العلمي نبراسا لها.

ولمواكبة العالم المتقدم في هذا المضمار يبدو أنه من الضروري ألا تقل نسبة المخصصات المالية للبحث العلمي سنويا عن النسبة العالمية وهي 3% تقريبا من الناتج المحلي الإجمالي بحيث ينفق الجانب الأعظم منها على البنى التحتية الحقيقية للبحث العلمي وكوادره المتخصصة بحيث تؤتي ثمارها الحقيقية, بدلا من ضياعها في دهاليز البيروقراطية حين تبدد نسبة تتجاوز 80% من المخصصات المالية في الرواتب والمكافآت ومصاريف اللجان والأعمال الإدارية..... إلخ، بينما تخصص نسبة هزيلة لبرامج البحث العلمي الحقيقية على غرار ما يحدث في بعض الدول. ومن الضروري كذلك «حوكمة»مناهج البحث العلمي بحيث تدار بأسلوب رشيد وممنهج بعيدا عن العشوائية.

وفي هذا السياق يحدد كبار الباحثين والعلماء أربعة مجالات أساسية للبحث العلمي باعتبارها مفاتيح المستقبل ويفضل الإنفاق عليها بسخاء لمردودها القوي على الإنسان والمجتمع؛ هذه المجالات الأربعة هي تكنولوجيا الخلايا الجذعية و«الجينوم»، ومن شأنها أن تجعل جسم الإنسان كالكتاب المفتوح يسهل قراءته بالكامل ثم تشخيص دقيق للأمراض وأسبابها وتحديد وسائل حديثة لعلاجها أو منعها من الأساس، وثانيها التكنولوجيا الرقمية باعتبارها لغة المستقبل التي ستتحكم في إدارة الشؤون الحياتية في كل المجالات،وهي لغة « الحياة الذكية» مثلما سبقت الإشارة، وثالثها تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ( الإنفو- تك ) التي نسفت المسافات بين البشر نسفا وأصبح الاستثمار في أبحاثها العلمية أمرا لا مناص منه لتحقيق تقدم حقيقي . أما المجال الرابع فيتمثل في تكنولوجيا الطاقة على مختلف أشكالها وفي المقدمة منها الطاقة النظيفة والخلايا الضوئية.

ربما كانت المجالات السابقة أهم التخصصات المطروحة على قوائم البحث العلمي،ولكنها ليست جامعة مانعة، فليس هناك ما يحول دون شمول البحث العلمي لكل مناحي الحياة وتطويرها بالشكل الذي يخدم عمليات التنمية في تطوير الزراعة مثلا واستنباط سلالات جديدة، وتطوير الري لتعظيم الاستفادة بالمياه واستخداماتها، ورفع كفاءة المدن والطرق الذكية وكافة الخدمات المجتمعية, فالبحث العلمي لا تحده حدود أو قيود، وربما من المناسب أن تكون الخاتمة - على غرار المقدمة - بكلمات من كتاب «عصر العلم» للعالم العربي أحمد زويل، وفيها يقول:

«إن ما يجرى يتطلب منا وقفة تاريخية، كيف وصلنا إلى هذه الدرجة من التطور؟ وما هي طريقة الوصول إليها؟ وما الذي يحمله المستقبل من جديد..للناجحين والخاملين؟ إنني واحد ممن ينشغلون كثيرا بهذه التساؤلات وبالبحث في طرق الإجابة عليها، وحين حصلت على جائزة نوبل في عام 1999.. والتي جاءت في عام له دلالته الرمزية، حيث يختتم القرن العشرون فتوحاته العلمية، ليستكمل «عصر العلم» فتوحاته في قرن جديد، منذ ذلك الحين وأنا ألتقى بكثير من الزعماء والقادة السياسيين، وبالعديد من الفلاسفة والمفكرين ورجال الاقتصاد والإدارة، فضلا عن الاحتكاك الدائم مع أعظم علماء العصر, يضاف إلى ذلك زياراتي أو مشاركاتي في تجارب البناء والنمو في بلدان عديدة..بعضها لدول تحاول الوصول إلى بوابة العصر ولم تصل، وأخرى لدول وصلت ومضت.. مثل الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة وماليزيا والهند..وأيرلندا، هنا جاءت فكرة هذا الكتاب..كمحاولة لفهم طبيعة هذا العصر».