المنوعات

تحولات الإنسان في رواية «شحاذو المعجزات»!

28 أكتوبر 2017
28 أكتوبر 2017

ليلى عبدالله -

« هم لا يؤمنون بالمعجزات لأنهم سذج أو أغبياء، بل لأنهم يائسون ولا رجاء لهم في غيرها ».

كل من يقرأ رواية «شحاذو المعجزات» للروائي «قسطنطين جورجيو» ترجمة «وحيدة بن حمادو، ميسكلياني 2017م. سيدرك من عنوانها أن لفظة «المعجزة» في الرواية لها دلالاتها المغايرة عن التي اعتاد المرء توقعها عبر تاريخ كان قد حفل ببعض المعجزات. المعجزات التي تتعلق بالطابع الكوني، فمعجزات الله، دلالاته في العالم ومهما غدت هيئته في ثقافات الأديان الأخرى هو وحده صانع المعجزات، التي قدمها لمخلوقه الإنسان في طابع ديني، وقصص القرآن حفلت بذكر بعضها، وكذلك الكتب السماوية الأخرى. المعجزات نفسها جاءت مبشرة بطابع طبي أيضا حين بدأت بوادر التطور في الاكتشافات الطبية، أما دلالة المعجزة في الرواية، فجاءت مشحونة بدلات عاطفية، مشحونة بطاقات هائلة لفعل أي شيء في سبيل وقوع هذه المعجزة، المعجزة التي تنقذهم من شرور العالم، و تحصنهم من إحساس العدم « عندما ننتظر معجزة ما، نصبح محصنين ضد الألم».

في هذه الرواية صانع المعجزة هو « ماكس أومبيلينت « الرجل الأمريكي الأسود، الوسيم، و الثري، الذي يملك كل المؤهلات ليكون مواطنًا صالحًا، شريفًا، لكن عوضًا عن ذلك، صار رجلاً متعتعًا بالسكر، ومحرضًا على القتل. لقد استحال ماكس من رجل طيب إلى كائن شيطاني بالمعنى البشع للكلمة، وهناك أسباب عديدة خلقت هذه الهيئة الوحشية، أولها و أهمها لأنه خلق أسود، لأنه كذلك كان عليه أن يدفع كما دفعت قبيلته منذ مئات السنين، يدفع ضريبة جلده الأسود في وطن عنصري، يكفر بالاختلاف ويسعى إلى تحطيم كل من يخالف هيئتها!

لأنه أسود تخونه حبيبته البيضاء، يتعرض لخديعة شديدة الوطأة على نفسيته كرجل ليس لأن حبيبته تنكر صلتها به بل لأن عضوه الذكوري وئد على يد شقيقيها الأبيضين. وبعد عرض القضية على المحكمة يخسر ماكس أمام خصومه و يتعرض لظلم شديد، فالسلطة القضائية اصطفت مع بني جلدتها.

يتعاظم شعور الظلم مع شعور الخطر في نفوس عائلة ماكس و كل السود الذين يقطنون في أمريكا التي تسعى بكل جبروت لسياسة تفريق العنصرية، لاسيما و أن أحداث الرواية تدور في العام 1957م أي بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث العنصرية على أشدّها، الزمن نفسه يستدعي أصواتًا تمردت وواجهت بجسارة هذا التفريق العنصري كــ«مارتن لوثر كنج» و «روزا باركس» غير أن البطل «ماكس أومبيلنت» لم يحمل في قلبه روح التمرد و مقاومة الظلم بالسلام كما فعل هؤلاء الرموز، بل إنه اختار طريق التشفي و الانتقام لا من كان سببًا في عاهته وليس في وطنه بل في إفريقيا، حيث جاء أجداده، اختار أن يكون أداة تحريضية لقتل أربعة مبشرين بيض في منطقة إفريقية يؤمها آكلو لحوم البشر كما أشيع عنهم، وكان مخطط هذه الجريمة هو رجل أبيض من روسيا، الرجل نفسه الذي ناصره من إذاعة وأدان محاكمته الهزلية وتعرضه للظلم على يد رجال بيض في وطنه أمريكا، هو نفسه الذي اتخذ منه طُعْمًا لتنفيذ خطته ولتحقيق مآربه السياسية وأطماعه الاقتصادية؛ لذا أرسل في طلب ماكس وعرض عليه مخططه. ماكس البائس، السكير، كان يغويه بلغة التشفي ممن أخصوه، يغويه كي يناصر بني جلدته، هنا يرى القارئ كيف يمكن للظلم الواقع أن يحول طبيعة الكائن البشري، كيف تستحيل الروح الطيبة إلى روح لا يسكنها سوى شيطان!

وماكس بدوره يخترع طريقته لدفع آكلي لحوم البشر لقتل المبشرين البيض وذلك بواسطة «المعجزة»، فيوهمهم بقدرته على تغيير لون جلودهم، وتحويلهم إلى بيض و بذلك يتخلصون من العبودية الواقعة عليهم كما وقعت على أجدادهم طوال تلك القرون، ويخضع هؤلاء السود للرجل العملاق الذي يعدهم بكشط جلودهم السوداء إن خضعوا بدورهم لأوامره!

« ماكس أومبيلنت» هو نموذج صارخ لتحول الكائن البشري، ولعل أبرز الروايات العالمية التي تناولت المسألة نفسها رواية «فرانكشتاين» لـــ» ماري شيلي»، و رواية «دكتور جيكل ومستر هايد»، و «رواية الفيسكونت المشطور» للروائي إيتالو كالفينو. يكاد بطل الروائي « قسطنطين جيورجيو «يماثل مسخ فرانكشتاين ولكن الفارق أن بطل فرانكشتاين خلق قبيحًا، ووحيدًا، وغير مكتمل، بينما بطل جيورجيو هو إنسان وسيم وثري ومثقف ويعيش مع أسرته أي أنه كائن مكتمل عدا جلده الأسود يعكر عليه حياته، يتعرض للتشوه بسبب لونه هذا، يسعى من خلال التشويه الذي نكل به إلى تدمير كل شيء حوله، نسخة أفريقية، مشحونة بكم هائل بالكراهية، وعلى تناقض حاد أيضا مع شخصية بطل الروائي الإنجليزي «روبرت لويس ستيفنسون» فبطله رجل أبيض، لا يعاني من العنصرية، بل يحيا برفاهية، غير أنه من خلال تجاربه يصنع مشروبًا سحريًّا يحوله إلى كائن شرير. ولعل شخصية بطل إيتالو كالفينو يماثل في كينونته المتغيرة أومبيلنت. الكائن نفسه يتخبط في تناقضات هائلة ما بين الخير و الشر، يتصارعان في كيانه لكن جرعة الشرّ في روح ماكس تكتسح آدميته كليًّا. ربما لأن تحول بطل «شحاذو المعجزات» هو صنيعة مجتمع غير عادل، مجتمع عنصري. هذا التحول حطم فيه كل قيم النبل و الخير ليحل محلها الشرّ، الشرّ المحض ولا شيء آخر!

المعجزة لهؤلاء هو التخلص من الظلم و العبودية و التفريق العنصري. المعجزة هي باب عريض نحو الحرية والفردانية والاستقلالية، إنهم يشحذون هذه القيم التي ولدت بولادة الإنسان في رحم أمه ولكن وئدت منهم على أيدي الجشعين، الرأسماليين، الأسياد «دخل السود إلى أقبية المجتمع والتاريخ، إنهم ما يزالون إلى اليوم منعزلين وضحايا للفصل العنصري، إنهم يشحذون المعجزات أي يتسولون المساواة والاستقلال..».

فكم من إنسان مهدد لخطر التحول عن قيمه ونبله، عن آدميته، عن شحذ أبسط حقوقه في هذا القرن؟! هذا السؤال الذي ظل طوال الرواية يثقب قلبي!