الملف السياسي

تشجيع الباحثين وتوفير بيئة محفزة للابتكار والإبداع

16 أكتوبر 2017
16 أكتوبر 2017

الطيب الصادق -

لا يمكن أن نتخيل أن تتقدم دولة بدون اهتمامها بالبحث العلمي الذي يعتمد على الابتكار والإبداع والتكنولوجيا الحديثة ومستجدات المعرفة ولا سيما بما يسهم في تعزيز التقدم والتنمية في مختلف القطاعات

هذا ما أدركته الدول المتقدمة مبكرا وسارعت بتنفيذه مما جعلها في ازدهار وتقدم في جميع المجالات وتستطيع دائمًا مواكبة المستجدات المتلاحقة والتغلب على المشكلات التي تواجهها بطرق علمية وحديثة وهو ما يؤكد أن البحث العلمي يرتبط بالعديد من المجالات المختلفة وليس قطاعًا واحدًا، كما أن الدول المتقدمة لا تبخل بالإنفاق المرتفع على البحث العلمي للوصول إلي نتائج وحلول للعديد من الظواهر والمشكلات سواء السياسية أو الاقتصادية أو الصحية أو التعليمية أو التربوية أو غيرها؛ لأنه يفيد في فهم وتفسير تلك الظواهر الغامضة ويتنبأ بها للوصول في النهاية إلى قواعد وقوانين عامة يمكن تعميمها وتجارب يمكن تطبيقها.

لم يحظ البحث العلمي في الوطن العربي بدرجة الاهتمام نفسها التي تشهدها في الدول المتقدمة لكن أدركت الدول العربية أنها لن تتقدم بدون بحث علمي قادر على فهم مشاكلها وإيجاد حلول لها تتناسب مع طبيعتها ولذلك اتجهت العديد من حكومات الدول العربية ووضعت البحث العلمي ضمن اهتماماتها للحاق بركب التطورات والمتغيرات التي يشهدها العالم ومن هذه الدول سلطنة عمان التي أدركت الأهمية القصوى للبحث العلمي وانعكاساته الإيجابية على التنمية والتقدم في مختلف المجالات حيث سارعت السلطنة بإعداد استراتيجية وطنية تحدد مسارات البحث العلمي والتطوير ولم تبخل على المشاريع والمبادرات البحثية بالتمويل كما شملت هذه الاستراتيجية تعزيز دور القطاع الخاص -باعتباره شريكًا في التنمية- في مجال البحث العلمي سواء من خلال تأسيس الشركات أو تمويل الأبحاث العلمية أو وضع البرامج الاستراتيجية في التراث العماني والابتكار في المجال الرقمي واهتمت استراتيجية السلطنة أيضًا بإنشاء الحكومة الرقمية وفتح أواصر التعاون مع الدول الأخرى والمؤسسات العالمية في المشاريع العلمية واتخذت خطوات إيجابية حيث قامت بتأسيس مجلس البحث العلمي في عام 2005 ليكون منظومة إبداعية تستجيب للمتطلبات المحلية والتوجهات العالمية.

قطعت السلطنة شوطًا كبيرًا في زرع أركان ومحددات البحث العلمي خصوصا أنها قامت بتوفير البيئة والمناخ المناسب والمحفز لمجالات البحث العلمي كما أنها وضعت رؤية استراتيجية تهدف منها السلطة أن تكون محورًا إقليميًا للابتكار، وهو يمثل نقلةً علميةً كبيرةً ليس على السلطنة فقط بل على جميع دول المنطقة، وفي العديد من المجالات المختلفة وعلى رأسها الاقتصادية التي تساهم بشكل أساسي في زيادة معدلات النمو الاقتصادي في ظل تراجع الموارد والمدخلات المالية وهو لم يمثل عائقا أمام السلطنة في الاهتمام بالبحث العلمي وإلغاء ما يتم إنفاقه عليه في الموازنة وإن كان محدودًا.

كما أنها واجهت التحديات الكبيرة التي تعترض مسيرة الاهتمام بالبحث العلمي ومن هذه التحديات التراجع الاقتصادي الذي شهدته العديد من الدول النفطية -ومنها السلطنة- في الأعوام الأخيرة نتيجة لتراجع أسعار النفط وانكماش الاقتصاد العالمي الذي يؤثر بالسلب على توفير الأموال والتمويلات اللازمة لهذا القطاع، وغياب ثقافة البحث العلمي وتطبيقه فضلا عن ضعف دور القطاع الخاص وعدم مناسبته مع متطلبات النهوض بالبحث العلمي، ولم يستثمر بالشكل الكافي في نتائج البحوث العلمية ويعمل على انتشارها وتطبيقها، إضافة إلى الافتقار لسياسة تسويق الأبحاث العلمية بالشكل المطلوب وهو ما يؤدي إلى عدم تطبيقها وتنفيذها مع وجود فجوة بين الإطار النظري والواقع التطبيقي، حيـث ما يقدم من دراسات وأبحاث علمية لا يتناسب مع الاحتياجات والأولويات المجتمعية، ويواجه الباحثون تحديات عديدة منها عدم الاهتمام بهم بشكلٍ كافٍ وتسهيل مهمة عملهم وتفريغهم بشكل كامل للبحث العلمي مع غياب فريق العمل الواحد والمجموعات العلمية التي تعمل على التوصل للاكتشافات العلمية والبحثية كما في الدول المتقدمة وكلها تحديات يجب أن يتم وضعها في الاعتبار.

ثمة متطلبات أمام السلطنة للنهوض بالبحث العلمي وليواكب التطورات التي شهدتها البلاد المتقدمة في العديد من المجالات وليعبر بشكل حقيقي وواقعي عن الاستراتيجية والرؤية التي تم وضعها من قبل للوصول إلى بحث علمي قادر على تحقيق التنمية والتقدم في جميع القطاعات، ولذلك يجب أولًا أن يتم الاستمرار ودعم الاستراتيجية الوطنية للبحث العلمي لأنها الركيزة الأساسية والمهمة للوصول إلى تنمية شاملة تعمل على أسس علمية تخدم الخطط المستقبلية ودعم كل المؤسسات للارتقاء بالخدمات التي تقدمها باستخدام الأساليب العلمية الحديثة وتشجيع الابتكار والإبداع، كما يجب العمل على تعزيز دور القطاع الخاص ومشاركته في دعم البحث العلمي خصوصًا مساهمته التمويلية في تطوير الأبحاث وانتشارها وتطبيقها على أرض الواقع لأنه هو الأجدر بأن يقوم بدور كبير في الاستثمار في هذا القطاع ورعاية العديد من المبحوثين واستقطابهم وتوفير كل متطلباتهم، مثلما تقوم الشركات الخاصة في معظم دول العالم المتقدم، كما يمكن أن تتم المشاركة بين القطاع الحكومي والخاص في عدد من المشاريع العلمية التي تحتاجها الدولة وتسهم في التطوير والتقدم وتنعكس بشكل سريع على المواطنين وتنهض به.

ولا يمكن إغفال تعزيز التعاون بين السلطنة والدول والمؤسسات الأخرى وخصوصا الدول المتقدمة لإيجاد حلولا للمعضلات العلمية أو العمل على مساندة المجهود العلمي وتمويله والاستفادة من التجارب العلمية في هذه الدول وكيفية تطبيقها على أرض الواقع وليتم انتقاء ما تحتاج إليه السلطنة والتركيز على مجالات بعينها يمكن النهوض بها ولا سيما الخاصة بأمن المياه والغذاء والطاقة وتكنولوجيا المستقبل وغيرها من المجالات التي تحتاج إليها السلطنة، كما يجب التعاون مع المؤسسات الدولية التي تعمل في البحث العلمي لتعود بالفائدة على المؤسسات العلمية العمانية والوصول إلى إنتاج اختراعات ومشروعات ذات مردود علمي وحقيقي يحقق قيمة مضافة للدولة، ويستفيد منها المجتمع بشكل كبير.

لذا يجب تحفيز الباحثين وتسهيل كافة الإجراءات التي يحتاجها البحث العلمي وإيجاد بيئة محفزة للابتكار والإبداع وزرع ثقافة العمل بروح فريق العمل الواحد وتوجيه الباحثين للاهتمام بقضايا المجتمع العماني في شتى مجالات الحياة، وبناء كوادر علمية وفكرية قادرة على استشراف المستقبل وأن يضع نصب عينيه أهدافًا محددةً لسرعة الوصول إلي نتائج مثمرة تعود بالفائدة على المواطن.

كما يجب الاهتمام بالنشء وتوفير حاضنة لصغار الباحثين لإخراج جيل جديد يعتمد في دراسته بشكل أساسي على البحث العلمي الذي يجب أن يكون أبرز متطلبات الدراسة في الكليات واستثمار الموارد البشرية ومساهمتها في النهوض والتقدم وعدم مقياس الاهتمام بالبحث العلمي بعدد مخرجات التعليم الغير مدربين بقدر ما هو تخريج طلاب مؤهلين علميا ولمواكبة التطورات العالمية المعاصرة والمستقبلية والعمل على تدريبهم.

وأخيرًا ضرورة مواصلة الدعم المالي والإنفاق على البحث العلمي واستقطاب مختلف الطاقات والكفاءات العلمية والفكرية لإنتاج الأفكار الإبداعية التي تنهض بالبحث العلمي؛ لأنه هو العمود الأساسي والركيزة التي يجب على السلطنة الاعتماد عليها لانعكاسه على جميع مناحي الحياة ومساهمته في تقدم ورقي المجتمع العماني ولذلك فإن البحث العلمي أصبح قاطرة التنمية في الدول المتقدمة، ويجب على السلطنة أن تعمل في هذا الإطار، لكي يؤدي الدور المنوط به في خدمة أهداف التنمية.