المنوعات

«دلفين مينوي» الوجه الإيراني لأليس في بلاد العجائب!

15 أكتوبر 2017
15 أكتوبر 2017

ليلى عبدالله -

« في أماكن معينة كنت أقول أنني إيرانية، وفي أماكن أخرى كنت أعلم أنه من الأذكى أن أقول إنني فرنسية ».

لم تكن المراسلة والصحفية الفرنسية من أصل إيراني «دلفين مينوي» تدرك أن رحلتها إلى بلدها إيران ستكلفها عشرة أعوام من عمرها (1997م – 2012م) توجتها بكتابة سيرتها الذاتية المعنونة بــ«أكتب لكم من طهران» الصادرة عن دار ممدوح عدوان 2017م ترجمة «ريتا باريش». ذهبت إلى وطنها بصفتها صحفية تنبش في بعض القضايا التي تتطارحها وسائل الإعلام الغربية، لكنها اصطدمت بهويتها كفارسية، كإنسانة نصفها الإيراني متروك كعلامة استفهام، كمجهول لا تعلم عنه سوى قشور، حتى لغة التواصل، أولى خطوات نحو الهوّية لم تكن تجيدها كما ينبغي . وفي حوار لها طرحت بعض غاياتها: «حمل سفري إلى إيران أهدافًا بارزة: أولا لأكشف الذات الإيرانية الكامنة فيّ والتي ورثتها عن أبي، وثانيًّا لأعود إلى جذوري الضاربة هناك وأتمكن من المصالحة، جزء مني أجهله وهو الذي ورثته عن أجدادي الإيرانيين، وثالثًا لأتمكّن من الكتابة الحقيقية عن إيران من قلب البلاد وأرسم صورة واقعية أقدمها للقراء الفرنسيين والغربيين الذين لا يرون في إيران سوى التعصب و الإرهاب وسوء معاملة المرأة والشادور والإسلام المتطرف..».

ربما يكمن الاختلاف ما بين السيرة الذاتية التي عرضتها الكاتبة «دلفين مينوي» وغيرها من الكاتبات الإيرانيات تحديدًا اللواتي عرضن أيضا تجاربهن المحفوفة بسير من حياتهن مرتبطة تاريخيًّا بسقوط الشاه وبداية انطلاق الثورة الإسلامية كــناهد رشلان، وآذر نفيسي وغيرهن، هؤلاء ولدن في إيران واخترن النفي إلى خارج بقاعها بعد أن أصبح العيش في أرض كطهران محفوفًا بالمخاطر، لكل من اتخذ التمرد والرغبة في الانعتاق من النظام الفاشي الإسلامي شعارًا له، بيد أن «دلفين مينوي» كانت على نقيضهن اختارت عن رغبة وقناعة البقاء في بلدها، و كان ديدنها استعادة الهوية التي كأنها أسقطت عنها عمدًا بعد أن غادر جدها الذي تخاطبه على طول الحكاية كرسائل تبعثها له، في تلك الرسائل فتحت ثقب قلبها وظلت تحفر في أعماقها طوال عشر سنوات في ظل نظام صار هاجسها ومرضها أيضا، الجد الذي هزمه قلبه في بلاد منفية كفرنسا بعيدًا عن الأرض التي قهرته في أواخر أيامه، وعلى الرغم من كل ذلك سكب حبّ هذه الأرض في قلب حفيدته التي ولدت في فرنسا، من أب إيراني غادر إيران منذ كان في الحادية عشرة من عمره وظل فيها وأم فرنسية، هويتان مزدوجتان قبعت في ظلهما «مينوي»، وكان جانبها الفرنسي كاشفًا تمامًا في سلوكها وفي تعاطيها مع العالم من حولها، غير أن هويتها الفارسية كانت مجهولة، لقد لعبت «دلفين مينوي» لعبة «أليس في بلاد العجائب» الفتاة التي في كل مرة كانت تسقط في الحفرة نفسها أو تشرع بابًا مفتاحه يضيع عنها، دون أن ينتابها الخوف من ذاك المجهول الذي اقتادتها روحها المغامِرة إليها، كانت توقن أن جدها سكب ثقل عشقه لبلده إيران في جوف قلبها، وكان عليها أن تمضي إلى هذا المجهول وأن تكون جزءًا منه، لقد فعلتها «مينوي» بشجاعة نادرة وبحذر أيضا. غير أنها كانت مغامرة محفوفة بالمخاطر، لقد منحت «دلفين مينوي» عشر سنوات من عمرها بطيب خاطر، وبرغبة كاملة بل كانت ستمنح الكثير، غير أن الشجرة الطيبة اقتلعت مرة أخرى من جذورها، وأجبرت على مغادرة طهران وحيدة تحت ضغط السلطات المستبدة، لكنها لم تعد إلى منفاها الباريسي الباذخ، بل اختارت وطنًا قريبًا من طهرانها التي تحب، استقرت في بيروت، المدينة رغم جراحات حربها الأهلية، ظلت تفتح ذراعيها لكل منفي، متنفّس المعطوبين من سجون أوطانهم، بيروت كانت بلدًا حراً، تضّج بالحياة، وميزتها في الخليط البشري وتعدّد الطوائف على الرغم من ذلك، ظلت «دلفين مينوي» عين قلبها على طهران.

كان الجدّ هو حافزها لكشف اللثام عن هويتها الفارسية، حتى أتخمت بتجارب واقعية لا غنى عن نقلها في سيرتها التي ظلت متوارية في جزء من قلبها المضطرب، فبعد مغادرة طهران منصاعة لما أملاه عليها نظام استبدادي غايته قمع كل متمرد، وقطع رأس كل من يحاول الجهر بالحقيقة، وجدت مينوي في تلك الأعوام عاجزة عن نقل تجربتها كتابيًّا، لقد تشربت هويتها الفارسية، كان في جعبتها حكايات تستحق أن تروى غير أن مانعًا ما كان يحول عن جهرها لهذه الحقائق، لعله الخوف من محاسب بلد تعشقه حتى العظم، غير أن القناعات كلها سقطت حين انجبت ابنتها «سامراء» حينها وجدت أن على عاتقها أن تضع أمامها ما يقودها إلى بلدها كإيرانية الأم والأب، لقد نفخت الطفلة فيها قوة الحكاية، لتقتلعها من جوفها رويدًا رويدًا، كوثيقة لا في وجه التاريخ فحسب بل كتجربة متكاملة لابنتها التي تصبح فخورة بهويتها كفتاة إيرانية تحلم ببلد حرّ، بلد يفيض بالصدق ومعايشة الحياة بلا خوف وبلا أقنعة.

في هذه السيرة الدافئة، الكاشفة عن وجوه حقيقة المجتمع الإيراني المتناقض، أسهبت في الحديث عن الجيل الذي ساند الثورة الإسلامية لإسقاط الشاه، الجيل نفسه دفع الثمن باهظًا على ذلك، هذا الجيل من الشباب تعرض لخديعة قاتلة، وجسدت بقوة في شخصية «نيلوفر» التي كانت تلقب بـــ»عرابة» الشبيبة، كان لها أسلوبها في الحياة، ساخرة دومًا، وكانت ترى في تمردها وخروجها عن نمط العادات الإيرانية «شكلا من أشكال التكفير عن الذنب، فقد كانت معارضة سابقة للشاه، تنتمي إلى جيل علق آمالاً كبيرة على شخص الخميني، ليحمل بعدها وزر ثورة فاشلة، ولهذا فقد انبرت لمهمة مساعدة الشباب ومشاركتهم هروبهم الليلي كنوع من التعويض عن الأخطاء التي ارتكبها أبناء جيلها بحق الإيرانيين».

تريد «دلفين مينوي» أن تؤكد على الرغم من كل الخراب، والسوداوية السياسية، والفساد، والسلطة المستبدة، فهناك شعب يحب الحياة بكل وجوهها الصاخبة «هناك شعب إيراني حقيقي يحلم بالتطور والحداثة والانفتاح»، هذه السيرة تخبرنا كم أن إيران محظوظة بأبنائها الشباب، الموهوبين في كل شيء، ويجيدون رغم القمع تلقي الحياة التي يطمحون لها بل يعيشونها دون أي شعور بالخوف ويحتالون على هذا الخوف بأساليب غاية في الطرافة والسخرية.

كما جاء على لسان «نيلوفر» إحدى شخصيات السيرة الذاتية وصديقة مينوي: «هل تعرفين النكتة الإيرانية الشهيرة؟» قالت لي نيلوفر باستهجان «في عهد الشاه كنا نشرب علنًا ونصلي سرًّا، أما اليوم في ظل الجهورية الإسلامية، فأصبحنا نشرب سرًا و نصلي علنًا».