أعمدة

نوافـذ: في المجلس العام

10 أكتوبر 2017
10 أكتوبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

تشكل أحاديث المجالس ـ كما أرى - ترياقا لذيذا لمسافات الزمن الفاصلة بين فترات إقامتك في هذا المجلس أو ذاك، وتؤصل في تلك اللحظات، ولو كانت قصيرة؛ بحسابات الزمن؛ حبالا ممتدة من الود، والمعرفة، تساءلت مرة: هل تتناسل الأحاديث في المجالس أكثر من أي مكان آخر، هل تولد القصص في المجالس، هل تنطلق الأفكار من عقالها في المجالس، ما سر المجالس الذي توهبه لجالسيها، لماذا المجلس بالذات هو الذي ينفض عنك غبار خبائك المنزوية؟.

كثيرة هي القصص التي تتناثر من أفواه أصحابها في لحظة التجلي هذه أو تلك اللحظة، البرهة، سمها ما شئت من الزمن، حيث تتحرر الأنفس من متعلقاتها قليلا لتجد من يصغي، من يستمع، من يرشد، من يعلق، من يستطرد، ففي المجلس يستطرد الآخر حديثه، معللا، مسببا - مبديا أسبابا - مدافعا، مستسلما، متفهما، حاول وأنت في زحمة هذا الانفعال الذي تتلقى دفعاته المتتالية، أن تستجمع كل قواك الذهنية، أن تكون حاضرا، أن تكون مصغيا، أن تكون واعيا، فقد يصدمك بسؤال: عن رأيك، عن وجهة نظرك، عن تعليلك، عن رؤيتك، فإذا لم تكن على التفاعل الذي يتوقعه منك محدثك، فقد تحدث ربكة، وردة فعل منه غير واعية، ففي هذه اللحظات، وغالبا ما تكون قصيرة، يمكنك ان تُكون قراءة عامة لواقع مجتمع، لحالات أفراده، لسكون هذا المجتمع وصخبه، للداخل إليه والخارج منه، للمتنصل من عقاله، للآوي إليه طواعية .

عندما ترخي فيه السمع أكثر، لن تستطيع تمييز الأصوات، هناك دفق غير عادي من أنسجة هذه الأصوات المتداخلة، ربما تميز فرقعة صوتية (ضحكة) هنا أو هناك، ربما تخرج نبرة صوت حادة، لم يرد لها صاحبها أن تتعدى محدودية المكان الذي يجلس فيه، وحدها الأصوات تسافر هنا وهناك، تحلق مجنحة -كطيور النورس- في فضاءات المجلس ولذلك تتصادم وتتداخل، فلا تستمع إلا موجاتها القصيرة ربما، فتختلط عليك المعاني، فلا تستطيع ان

تخرج بخلاصة مفيدة، إلا عندما يقترب منك محدثك حيث تكون القربى هي الحاضنة، وحيث تكون القربى هي الصاغية، وحيث تكون القربى هي المفعمة بصدق التعاطي.

هذه الصفوف المتراصة، المتزاحمة من البشر، المتقاطعة بالأفكار، المتضادة بالوجاهات، المعانقة بالمصالح، المتوادة بالقربى، المتفاعلة بالحدث، كل فرد فيها يحمل قصة، يختزن رؤية، يفتعل موقف، آلاف القصص تحملها رؤوس أصحابها، يحملونها لتكون عناوين عريضة لأحاديث كثيرة؛ لاستهلاك الزمن ربما، لتصدر المجلس ربما؛ لاحتكار المعرفة ربما؛ ينثرونها بين زوايا المجلس الأربع مع قريب، مع صديق، مع من فرق الزمن بينهما، حيث يجتمعون في المجلس.

وهذه الأيادي التي تتهادى السلام، توهب المودة، تجلي بصفائها القلوب، تسأل عن الحال والأحوال، لها ألف محطة على امتداد مساحة القلب النابض بالود، أتصور ان في تلك اللحظات تتوارى الألوان وتوشحات الثياب، وأطوال الأجساد وضخامتها، وما يظهر أكثر تلك الإشراقات التي تنبلج من بين الشاه معلنة عن تسيد محبة ومعزة وتقدير، فأي فضاء إنساني توجده هذه المجالس في لحظاتها التي، يقينا، لا تقدر بثمن، مع بساطتها في أغلب الأحيان.

جل من يأتون إلى المجالس؛ تكون جباههم معفرة بتراب الأرق من أثر المسافات التي قطعوها من لحظة انطلاقاتهم البعيدة إلى لحظة وصولهم القريبة، حيث الاجتماع في المجلس المهيب مكانة ومعنى وحضورا فهذا الكم الشري المتواجد بين أجنحته الأربعة له ثقله وأثره ومعناه، ومسماه.

في المجلس تتهادى الذكريات، منذ أن كنا صغارا وحتى اليوم لا زلنا نوثق الكثير منها، ولذلك هي حاضرة بقوة المكانة والأهمية، والخوف أن ينسل كل ذلك من ذاكرة جيل اليوم الذي – في أغلبه – لا يقيم وزنا له.