المنوعات

أوروبا المتعـَبة بفشـل النخـب «المُعـولَمـة»

08 أكتوبر 2017
08 أكتوبر 2017

حسن شامي -

حين كان الاتّحاد الأوروبيّ في العام 1963 لا يزال مشروعاً في أولى مراحل تنفيذه (بدأ مع «المجموعة الأوروبيّة للفحم والصلب» عام 1957)، توقّعت الرؤية المستقبليّة أنّه سيكون الإطار الذي تنتظم في داخله (بسلاسة وبمحفّزات دائمة على التطوّر) جميع دول القارّة، بما فيها تلك التي كانت تحت الحُكم الشيوعيّ، والتي توقّع لها أحد واضعي اللّبنة الأولى في بناء الاتّحاد الأوروبيّ روبير شومان أن تتحرَّر منه.

مرّ نصف قرن ونيّف، والمجموعة التي كانت تضمّ ستّ دول صارت كياناً عملاقاً، بسكّان يزيد عددهم على نصف المليار، وبموارد وإمكانات اقتصادية وعلمية كبيرة، وقدرات عسكرية وتشريعات موحّدة ولوائح صريحة تنظِّم العلاقات والنشاطات داخله، ومع الخارج. وما كان تجمّعاً في مسمّاه الفحم والصلب، صار عليه أن يثبت جدارة في عالَم التكنولوجيا والبيئة النظيفة، والأبحاث الرائدة.

كانت رؤية مُتفائلة، تبيَّن مع النجاحات التي تتالت على مدى سنوات أنّها واقعية، قبل أن يشهد الاتّحاد انتكاسات على صُعد مختلفة، تراجع معها الحضور الأوروبي عالميّاً، في وقت كانت مشكلات داخلية تعصف بدوله، بعضها كان له سبب مُشترَك كالأزمة المالية العالمية في 2007-2008، وبعضها يتعلّق بعدم الاتّساق بين دول الاتّحاد في السياسات المتَّبعة في إدارة الشأن العامّ، وفي السياسة الخارجية، كما برز خصوصاً في التعامل مع القرار الأمريكي في العراق وتطوّرات الأزمة السورية.

المشكلات المستجدّة، والطروحات المتضاربة، وتحدّيات أخرى طارئة، من الطبيعي أنّها تزيد في صعوبات تحقيق المرتجى، لكنّ الذي حصل أنّ الفشل هو السائد، وأنّ المواطن الأوروبيّ وَجَد نفسه مُهدَّداً بخسارة الكثير نتيجة هذا الفشل، فلم يعُد الفقراء يأملون بتحسّن ظروف معاشهم، ووجد العاملون بأجر أنفسهم تحت رحمة سياسات تضحّي بمتطلّبات الرعاية الاجتماعية بينما كبار السنّ يطالعهم شبح شيخوخة بائسة.

تجمّعت المشكلات الخاصّة بكلّ بلد أوروبي، لتلقي بثقلها على منظومة أوروبا الموحَّدة، فبدا وكأنّ الاتّحاد الأوروبي يواجه امتحان جدارة واستحقاق، شاءت التطوّرات أن تكون هذه السنة موعده: بريطانيا العظمى اختارت الانفصال بعد التصويت على «البريكست»... قدرة الاتّحاد المالية على مُعالجة أزمات أعضائه تنزف من الخاصرة اليونانية. الإرهاب الذي كان خطراً مرتقباً من خارج الحدود، بات مُقيماً في الداخل، حيث الذين ينفّذون الأعمال الإرهابية مواطنون بالولادة والتعليم لا تربطهم بأصول آبائهم غير صلة الاسم والدّين. بل إنّ الداخل نفسه صار يصدِّر الإرهابّين للقتال مع داعش والنصرة وسواهما. فرنسا وهولندا تخشيان نجاح اليمين المتطرّف في كلّ منهما، بعد التصاعد المتتالي في شعبيّته، مستفيداً من تراكم فشل القوى السياسية الأخرى في مواجَهة المشكلات المتداخلة. الإيديولوجيا تتقدّم على البراجماتية، أوروبا السياسة الراهنة مندفعة نحو اليسار الراديكالي في الجنوب، ومنجرفة مع تيّار الشعبوية في الشمال والشرق. ووسط ذلك كلّه جاء تدفّق اللّاجئين برّاً وبحراً ليكشف عدم جهوزيّة لوجستية وسياسية على التعامل الناجع مع الأمور الطارئة.

لكنّ أسباب الفشل مصدرها الأوّل قصور السياسة في أوروبا عن المُواجَهة، سواء كسياسة مُشترَكة من ضمن الاتّحاد أم في كلّ دولة على حدة. ثمّة انشقاق يتوسّع بين أنصار مجتمع العَولَمة وأولئك الذين يرفضون هذه الظاهرة. فمفاعيل الأزمة المالية العالمية ما زالت تجرّ ذيولها، ولا تزال الاقتصادات الأوروبية تُكابد مشقّة استعادة الانتعاش المفقود والنموّ المطلوب، ومُحارَبة البطالة.

في ظلّ هكذا قصور عن مواجَهة المشكلات الملموسة، انفسح المجال لبروز طروحات اليمين الشعبوي، وعاد التهويل بمخاطر تتهدّد «الهويّة الأوروبيّة»، وترسّخت مشكلة الاندماج في التعامل مع المواطنين من أصول أفريقية وآسيوية، وبات يُنظر إلى أماكن سكنهم التي يجمعها تقارب العادات والتقاليد، على أنّها غيتوات داخل المدن.

وُضعت على الرفّ ثقافة التنوّع والقبول به. صارت «الإسلاموفوبيا» بنداً ثابتاً في الحملات الانتخابية، لا فرق بين مَن هُم أصحاب هذه الحملة أو تلك. فاليمين المتطرّف يرفع لواء محاربتها وطرد المهاجرين شعاراً مُشهراً في العلن، والمعسكر المناوئ يتقدّم ببرامج تُقارِب المسألة من منظور آخر، لكنّه في الغالب يرضخ للطرح الذي يعتبر ذلك هو الخطر الداهم الأوّل، وهو ما تكشَّف مع تحذير أطلقه قبل سنة رئيس الاستخبارات الداخلية الفرنسية باتريك كالفار من «أنّنا على شفا حرب أهلية»، وأنّ كلّ الأسباب الموجِبة لخطر هذه «الحرب» موجودة، ليس في فرنسا وحدها بل في دول أوروبية أخرى كألمانيا والسويد. وعزفت على هذا الوتر صحف عدّة، طالَبَ كتّابها بـ«الصراحة» في تسمية الخطر الإرهابي بـ«الإسلامي».

اعتُمدت «الإسلاموفوبيا» ومُحارَبة الهجرة سلاحاً في يد اليمين المتطرّف، ما أكسب الانتخابات الأخيرة حساسيّة مختلفة، بحيث وَجدت القوى والأحزاب المهدَّدة مواقعها بصعود اليمين المتطرّف أنّه بات عليها أن تقدِّم نفسها حريصة على الهويّة الوطنية لبلدها، في الوقت الذي تجهد للمضيّ بمتطلّبات الحفاظ على الوحدة الأوروبية، بكلّ موجبات الحفاظ على هذه الوحدة، وفقاً لدستور الاتّحاد وقوانينه الناظمة.

في هذا الخضمّ، ظهر الاتّحاد ككيان أشبه بجسد غلب عليه الترهّل فأعياه عن حمل الأعباء الملقاة على عاتقه بكفاءة واقتدار، مع أنّ هذا الجسد يتمتّع في بنيانه بما يلزم من مقوّمات، وضعتها معاهدة ماستريخت قبل خمسة وعشرين عاماً.

بدت أوروبا الموحَّدة كياناً غير قادر على السير قدماً بالثقة اللّازمة، كحال الذي تُفاجئه عوارض الشيخوخة المبكرة، وهو الذي بالكاد ينهي السنة الخامسة والعشرين على تبلور صيغته المكتملة، سياسياً واقتصادياً وأمنياً ومواطنةً، في معاهدة ماستريخت 1992.

الانتخابات التي كانت مناسبة للتجديد، تحوّلت في السنوات الأخيرة إلى ساحة صراع في عدد من الدول الأوروبية، تخوضه النُّخب السياسية منقسمةً على حالها، في مواجَهة خطر الشعبوية بأحزابها الداعية إلى القوقعة. وحتّى حين تنتهي الانتخابات بعدم انتصار اليمين المتطرّف، كما حصل في فرنسا وهولندا، فإنّ الواقع يبقى أنّ هذا اليمين يحظى بأصوات ملايين كثيرة من الأوروبيّين، وأنّه هو قوة الاعتراض الوازِنة، وأنّه لم يفقد زخم اندفاعته بعد، وهو لا يزال تيّاراً ناهضاً يقنع فئات من الشعب، من خلال مخاطبة عواطفه، والعزف على وتر مخاوفه.

يتغذّى اليمين المتطرّف من فشل السياسة التي اتّبعتها النُّخب الحاكمة، ومن ابتعاد هذه النُّخب عن هموم شعوبها أوّلاً، كما عن قيَم الديمقراطية بمعناها الواسع. العجز هذا جعل خطاب الشعبوية يعلو ومنطقها يستقطب أعداء النّخب «المُعولَمة» التي هي في السلطة حاليّاً، سواء في اليمين أم اليسار. واللّافت كدليل على الفقر السياسي لدى كثير من هذه النّخب أنّها لا تجد أحيانا ما تداري به فشل سياساتها غير التقليل من أهليّة الناخب وسوء خياره!

الأوروبيّون الذين يصوّتون اليوم لليمين المتطرّف، والبريطانيّون الذي اختاروا «البريكست»، إنّما يمارسون فعل اعتراض صريح على النّخب الحاكِمة، يعبّرون عن خيبة أملهم والقلق، يحتجّون على النخبة «المُعولَمة» التي بدأت بتحويلٍ جذريّ للمجتمع من دون أخذ رأيهم في هذا التحوّل، بل، وهنا لبّ المسألة، لم يصوّتوا انسجاماً مع شعارات اليمين المتطرّف الذي يقول ما فحواه: «اقتلوا المسلمين الذين يريدون تحويل بلدي، وسرقة فرص عملي، والاستفادة من أموال الضرائب التي أدفعها».

هل يعني هذا كلّه أنّ أوروبا تعاني أزمة مصيريّة؟

أغلب الظنّ أنّ الجواب «لا»، وأنّ السؤال سيبقى مطروحاً بأشكالٍ مختلفة. فقبل خمس سنوات صدرت مجلّة «لو فيجارو ماجازين» عشيّة الجولة الثانية الحاسمة من الانتخابات الرئاسية، وقد عنونت غلافها بعبارة «أيّ فرنسا نريد؟». بدا السؤال كأنّه يطرح مسألة مصير فرنسا في المستقبل. أمّا متابعة الأمور في دول أخرى فأظهرت أنّ مثل هذا السؤال ليس شأناً فرنسيّاً حصراً، وأنّ الأجوبة المتسرّعة سلاحٌ ذو حدَّين، كما الحال مع الخروج البريطاني من الاتّحاد الأوروبي، الذي تبدو «محاسنه» مشكوكاً فيها، بينما «مساوئه» واضحة صريحة.

نافذة المستقبل مفتوحة على التفاؤل أكثر منه على غير ذلك. لكنّ هذا منوط بالسياسة، أو بمعنى أصحّ باستعادة السياسة الأوروبية لجوهرها، الذي في غيابه جرى إفلاس الدولة من مضمونها، فساد الخطاب الشعبوي، وهو لا يملك مشروعاً متكاملاً، بقدر ما يتحرّك في إطارٍ اعتراضيّ، لا يمكنه أن يجيب عن معظم الأسئلة المطروحة بشأن المُعالَجة المتكاملة للمشكلات التي وجدت أوروبا نفسها تواجهها بعجز ومن دون حلول ناجعة.

لعلّه من المفارَقة أن تغرق أوروبا في ما يُشبه العجز عن اعتماد سياسة موحّدة في التعاطي بمسألة اللّاجئين السوريّين إليها، بينما بلدان صغيران هما لبنان والأردن يستقبل كلٌّ منهما لوحده عدداً مضاعفاً لعدد اللّاجئين إلى أوروبا.

اليوم لم يسقط مشروع اليمين المتطرّف بالكامل، لكنّ نجاحه في المستقبل ليس قدراً، أو مرجّحاً ما دامت الشعبويّة سلاحه الأقوى. المشروع الأوروبي يبقى حاجة لدول القارّة وللعالَم. وهو لا يزال يملك فرصة النهوض والتطوّر. أعداؤه في الخارج يكادون ينحصرون بعد أن برزت ملامح تحوّل في سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في اتّجاهٍ لا يلتقي مع سياسة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كما كان يبدو سابقاً.

لا يُمكن التعميم في توصيف الهويّة، لتشمل جميع الذين يعيشون في حيّز جغرافي بعينه، سواء كبر أو صغر. ذلك أنّ تمايز الهويّات هو في صلب التمايز بين أمّة وأخرى، حين تشكّل كيانها كأمّة ودولة وطنية. أمّا ما بات هاجساً يلهج به اليمين المتطرّف، عن خطر تزايد أعداد المُهاجرين، قبل أن تبرز مشكلة اللّجوء (السوري خصوصاً) في السنوات الثلاث الأخيرة، فإنّه يبقى من لزوم التحريض السياسي في الخطاب الشعبوي لهذا اليمين، في وقت يفترض أن أوروبا تمتلك تراثاً من ثقافة التنوّع والوعي الجمعي، يُمكِّنها من استيعاب المتغيّرات المستجدّة، وتوظيفها في تحصين الهويّة الوطنية.

الشعبوية لم تبلغ منتهاها بعد، وهي ستبقى تحدّياً قائماً في المستقبل. هذا صحيح، لكنّ مشروعها لا يملك منطقاً متجانساً مع حقائق العصر، وبالتالي فإنّ أفقه يكاد يكون مسدوداً.... التحدّي الأكبر هو السياسة التي ستتّبعها نخب أوروبا المُستهدفة أوّلاً بهذه الشعبويّة.

■ بالتعاون مع مؤسّسة الفكر العربي