أفكار وآراء

الاستفادة من تجربة الادخار بسنغافورة

07 أكتوبر 2017
07 أكتوبر 2017

حيدر بن عبدالرضا اللواتي -

[email protected] -

تكمن أهمية الادخار في أية دولة في أنه لا يمكن ان يكون هناك استثمار بدون ادخار، ولهذا فان الادخار هو دالة الاستثمار، وبمقدار الميل الحدي للادخار في دولة ما، فإن قدرتها تقاس حول مدى ضخ استثمارات جديدة في اقتصادها. ويعتبر صغار المستثمرين أكثر أهمية حتى من صناديق التقاعد والاستثمار المؤسسي في الكثير من الدول. ومن هنا فإن البنوك التجارية في أية دولة تهتم بهذه الفئة التي تسميها بالزبائن الرئيسيين، وهم ليسوا أصحاب الودائع طويلة الأجل، بل هم أصحاب المدخرات الصغيرة، وبذلك فان ادخارات الأبناء التي تبدأ في وقت مبكر شديدة الأهمية. وعلى المستوى الخليجي فهناك إجماع على أن الفرص التي أتيحت للشباب الخليجي خلال السنوات الماضية كان ينبغي عليهم أن يوجهوا جزءًا من أموالهم للادخار حتى ولو بمقدار بسيط جدا في حدود 100 أو 200 دولار مثلا كل شهر أو مهما صغر هذا المبلغ، حيث من المهم غرس وترسيخ فكرة الادخار وجعلها عادة لدى الشباب والأطفال.

ومن هذا المنطلق تجبر بعض الدول مواطنيها على الادخار من خلال تقديم حوافز لهم. ودولة سنغافورة خير مثال على ذلك، حيث يوجد لدى هذه الدولة في مجال الادخار الاجباري نموذجاً جيداً من خلال إجبار مواطنيها على ادخار نحو 20% من صافي دخلهم لعدة سنوات، وبالمقابل تمنحهم الحكومة حوافز منها مثلا أن قيمة العقارات في سنغافورة مرتفعة الثمن للغاية، بينما تقوم الحكومة هناك بتوفير العقار للمواطن مقابل قيامه بالادخار بمعدل إجباري وإلا فقد المواطن مثل هذه المزايا التي تمنحها الحكومة. واليوم فقد بلغت حصة الفرد السنغافوري من الناتج القومي 62.4 ألف دولار سنوياً، وهي بذلك تحتل المرتبة السابعة عالمياً على هذا الصعيد، متقدمة على كافة الدول الصناعية الكبرى في العالم، وتتمتع سنغافورا اليوم بمؤشرات اقتصادية باهرة منذ بدء نهضتها ومشاريعها منذ أكثر من 50 عاما من الكفاح. وكان أحد هذه المشاريع هو البرنامج الادخار الوطني وهو برنامج إجباري يعرف بـCPF الذي بدأ عام 1955، وهذا البرنامج يجعل الموظفين يشاركون بنسبة من رواتبهم الشهرية في ادخار مستقبلي، بفضل ذلك تمكن اليوم حوالي 85% من السنغافوريين من امتلاك منازل لهم. ويرى بعض الخبراء أن العوامل الطاردة للادخار في الكثير من الحالات هو عدم وجود صناديق موحدة للادخار، واختلاف القواعد التي تحكم هذه الصناديق من مكان لآخر، ومن قطاع لآخر. ولا بد من توحيد الأنظمة بحيث تصبح هذه الصناديق أغنى من الحكومات نتيجة ما تجمع من كم هائل من المدخرات إلى درجة أنها تستطيع إقراض الحكومات، وتمويلها أحيانا، وأن تصبح اكثر أنفاقا واستثمارا في قطاعات اقتصادية مختلفة. ومن هنا يجب على صناديق الضمان أو التقاعد في السلطنة القيام بضخ استثمارات حقيقية حيث أنه بإمكانها ان توفر ادخارا مريحا للمواطن، ويفيد الاقتصاد الوطني في الوقت نفسه. وعموما فان مدخرات المواطنين إذا ما تحولت لادخار من قصير إلى طويل المدى فانه يمكن لها أن تستثمر وتصبح رأسمالا جيدا لقيام شركات صغيرة ومتوسطة في البلاد. أما مدخرات الدول فيمكن أن تستخدم في المحافظة على معدلات التضخم والحفاظ على سعر صرف العملة الوطنية، ومن هنا فإن تدني معدلات الادخار في أي دولة قد تدفعها للاقتراض من دول خارجية لتقع بذلك تحت رحمة حكومات أخرى أو تحت رحمة الاستثمار الأجنبي، خاصة في حالة حدوث الأزمات المالية والاقتصادية. فلو تم النظر للأزمة الاقتصادية التي شهدها العالم في عام 2008، فإننا نجد أنها أثرت على تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى مختلف دول العالم بما في ذلك السلطنة ودول أخرى في المنطقة، وحدث هناك نوع من التحفظ تجاه تمويل الاستثمار في المنطقة.

هذا الأمر- لا شك فيه- يتطلب أيضا زيادة التوعية وثقافة أفراد المجتمع عامة والأسر بصفة خاصة تجاه موضوع الادخار، بحيث يمكن تحقيقه من خلال العمل بعدة اعتبارات، منها وضع أسس لميزانية شهرية للأسرة تجاه المصروفات والنفقات الضرورية، وفي نفس الوقت العمل على التقليل من الكماليات التي من الممكن أن تمضي الحياة بدونها، كما يجب الابتعاد قدر الإمكان عن الإكثار من استعمال بطاقات الاعتماد البنكية التي تقدمها المصارف للزبائن، والاكتفاء باستخدامها في أوقات الحاجة والضرورة القصوى ووفق احتياجات الأسرة، أي أن يكون الصرف على الاحتياجات التي تلزم أفراد الأسرة من المأكل والمشرب والسكن والمأوى والملبس بجانب قليل من الترفيه والسياحة. أما الباقي من الرصيد فيمكن ادخاره واستثماره للاستفادة منه بعد فترة من الزمن، دون أن يقصّر الشخص في الواجبات التي تقع عليه تجاه أفراد أسرته في الحياة اليومية عملا بما ورد في القرآن الكريم: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا * إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا».

ومن هذا المنطلق، تحتاج عملية «الادخار» إلى قيام رب البيت سواء الرجل أو المرأة بتبني ثقافة الادخار وتلقينها للأبناء في مرحلة مبكرة، وتعليمهم بضرورة مراعاة الحد الأدنى من الجانب الاستهلاكي في حياة الأسرة، والعمل على التقليل قدر الإمكان من الكماليات التي يمكن الاستغناء عنها. ومن المهم أيضا ألا ينسى الناس طريقة الادخار الشائعة لدى الكثير من الموظفين وغيرهم من ربات البيوت في المؤسسات العربية، بالطرق التي اعتادوا عليها، ومنها تكوين «جمعيات الادخار الإقراضية» التي تشكل اليوم إحدى الوسائل الناجعة بين العديد من الأسر والمؤسسات والشركات في الدول العربية بالرغم من المشاكل التي قد تتعرض لها البعض أحيانا من جراء هذه الجمعيات نتيجة لتخلي البعض عن الدفع أو وفاة أحد أعضاء الجمعية. وفي هذا الشأن فقد شهد المجتمع العماني في فترة سابقة تكوين هذه الجمعيات، إلا أن بعضها تعرضت لمشاكل مادية ما زالت قضايا بعضها عالقة في المحاكم نتيجة للعدد الكبير الذي انضم لها دون وجود أية التزامات قانونية وخطية من الأطراف المشاركة تجاه الدفع الشهري لها. ومثل هذه الجمعيات ما زالت قائمة بين بعض المجاميع الصغيرة التي تعمل في إطار مؤسسي خاص في كثير من الدول العربية، وعلى شكل عدد محدود ومعروف من الأشخاص فيما بينهم، وتشكّل اليوم واحدة من الوسائل الناجحة للادخار لدى هؤلاء الأفراد. وسوف نتطرق لاحقا إلى بعض المشاكل التي نجمت عن إنشاء هذه الجمعيات على مستوى المجتمع العماني بشيء من التفصيل.

ومن خلال واقع الحياة نجد أنه كلما كان دخل الفرد من عمله اليومي مرتفعا، فان قدرته على الادخار تكون أكبر، الأمر الذي يتطلب ادخار ما لديه من المبالغ الزائدة سواء على شكل وديعة لدى المصارف أو الاستثمار في القنوات التي تعود عليه بعائد مادي من خلال ممارسته لنوع معين من التجارة أو الاستثمار في العقار أو الأوراق المالية مثل الأسهم والسندات. كما أن هذه العملية تتطلب من المبتدئين ضرورة العمل على وضع بند للادخار الشهري أو السنوي. وهناك اليوم الكثير من المؤسسات التي تقدم خدمات عديدة لاستفادة الأفراد من المبالغ التي يقومون بادخارها والاستفادة منها لاحقا سواء في أغراض التعليم الجامعي للأبناء، أو الصرف على موضوع التأمين الصحي عند الكبر، أو الاستفادة من تلك المبالغ في الأعمال العامة والتجارة. وهناك الكثير من الدول والشعوب التي نجحت في تثقيف مواطنيها بأهمية الادخار منذ الصغر، ومن ضمنها الحكومة السنغافورية واليابانية وغيرها والتي يمكن أن تأخذ نموذجا في عملية الادخار.