أفكار وآراء

الانتحال الذاتي وإشكالية التضليل !!

24 سبتمبر 2017
24 سبتمبر 2017

أ.د. حسني نصر -

أثار ما كتبته في هذا المكان الأسبوع الفائت حول قضايا الانتحال جدلا محمودا خاصة على شبكات التواصل الاجتماعي.هذا الجدل، الذي تواصل بالكشف عن حالات انتحال جديدة، يؤكد حيوية المجال العام الثقافي في السلطنة من جانب، والرغبة الصادقة لدى الجميع تقريبا في مواجهة ظاهرة الانتحال بجميع أشكاله وصوره من جانب أخر.

من بين ردود الفعل العديدة التي تلقيتها سؤال مباشر وجهه لي أحد الأصدقاء عن حالتين من الحالات الشائكة في عالم الانتحال، وهما: الانتحال في عروض الكتب، والانتحال الذاتي. والواقع أن الجمع بين الحالتين يبدو مستحيلا، وذلك كون قيام الكاتب بعرض كتاب أو دراسة لا يدخل بأي صورة من الصور ضمن حالات الانتحال، بل هو، في جوهره، جهد إبداعي خالص للكاتب، حتى وإن استخدم نصوصا طويلة من الكتاب الذي يقوم بعرضه. ويندرج هذا العمل ضمن ما يسمى علميا بالموضوعات الصحفية «الفيتشرز»، وهي موضوعات غير خبرية أقرب ما تكون إلى المقال النقدي الذي يركز على عرض وشرح ونقد الإبداع الإنساني بكل صوره، سواء قدم في صيغة كتاب أو دراسة أو فيلم سينمائي أو مسرحية أو مسلسل إذاعي أو تلفزيوني، أو حتى أغنية، أو مقطوعة موسيقية أو حتى في وجبة غذائية بأحد المطاعم. في هذه الحالة فإن الناقد الذي يتناول العمل الإبداعي يستخدم في الغالب صورة العمل مثل غلاف الكاتب أو صورة المؤلف او لقطة من الفيلم أو المسلسل، وبالتالي لا يكون عليه سوى تذكير القارئ عند الانتقال من فقرة إلى أخرى أو من فكرة إلى أخرى إن ما يسرده من نصوص تعود إلى المؤلف الأصلي، وأن يميز آراءه وأحكامه الشخصية عن آراء وأفكار صاحب الكتاب، ولا يترك النصوص المقتبسة المرسلة معلقة دون إسناد واضح، بالإضافة إلى استخدام علامات التنصيص والإشارة إلى أرقام الصفحات التي نقل منها في حال اقتباس نص طويل من العمل. بهذه الطريقة يقدم كاتب المقال النقدي خدمة جليلة لمؤلف الكتاب بالترويج لكتابه، وللقارئ بتعريفه بالمنتجات الثقافية والإبداعية الجديدة، ومساعدته في اتخاذ قرار بشأن شرائها. ولذلك ننظر دائما إلى عروض الكتب على أنها مراجعات أكثر منها نقلا لنصوص من هذه الكتب، لا بد أن تظهر فيها شخصية الكاتب الناقد وقدرته على قراءة العمل قراءة جيدة وموضوعية، تنتهي بإصدار حكم عليه، وما إذا كان عملا جيدا يستحق القراءة أو المشاهدة أم لا. على هذا الأساس فإن الكاتب الناقد إذا لم يقم بذلك وقصر جهده على نقل كتل صماء من نصوص الكتاب أو العمل الإبداعي دون تدخل واضح منه، يكون أقرب إلى المنتحل منه إلي الناقد.

وإذا كان أمر عروض ومراجعات الكتب محسوما في تقديري بهذا الشكل فإن الانتحال الذاتي لا يبدو كذلك للبعض، خاصة في مجال نشر البحوث العلمية والأعمال والكتابات الصحفية. المشكلة في الانتحال الذاتي تتمثل في زعم بعض الباحثين والكتاب أن من حقهم إعادة استخدام أعمالهم المنشورة سواء بشكل كلي أو جزئي مرات ومرات، وأن هذا ليس انتحالا طالما أنهم لم يعتدوا على أعمال غيرهم، وأنه ليس من المعقول أن يسرق الإنسان من نفسه. والواقع أن هذا الزعم ليس صحيحا على إطلاقه خاصة إذا علمنا أن الانتحال الذاتي في أبسط تعريف له هو نوع من الانتحال يقوم فيه الكاتب بإعادة نشر عمل له سبق نشره من قبل، على أنه عمل جديد، دون إخطار منصة النشر وقرائها بذلك. ويستند بعض هؤلاء الكتاب في زعمهم هذا إلى أن التعريفات التقليدية للانتحال لم تشر صراحة إلى الانتحال الذاتي وتقصره على السرقة من أعمال الغير، متجاهلين التبعات الأخلاقية والقانونية لهذا النوع من الانتحال من جانب، ومتجاهلين كذلك الإضافة التي قدمها قاموس مريام-ويبستر للتعريف (2011) والتي تضمنت «تقديم منتج أو فكرة مأخوذة من مصدر قديم على أنها جديدة»، وهو ما يشمل الانتحال الذاتي.

وإذا نحينا جانبا الانتحال الذاتي في البحوث والدراسات العلمية الذي ترصده وتراقبه جيدا الجامعات ومراكز البحوث والمؤتمرات الدولية والدوريات العلمية المتخصصة لارتباطه بمنح الدرجات العلمية واجتياز الترقيات العلمية والوظيفية، فإن الانتحال الذاتي لا يراقبه أحد في الغالب، ويتوقف كشفه على الصدفة أو على جهود المنقبين عن الانتحالات سواء أكانوا أفرادا أو منظمات تطوعية، والذين يعاملون حالات تدوير المقالات والأعمال الصحفية لنفس الكاتب علي أنها حالات انتحال ذاتي صريحة لا تحتمل التأويل. وبوجه عام فإن هناك اتفاقا عالميا على أن استخدام الصحفي أو الكاتب لنصوص أو حتى أفكار طرحها في أعمال سبق نشرها دون الإشارة الواضحة إلى ذلك هو نوع من الانتحال يسبب ضررا للصحيفة من جانب، ويعصف بحقوق القارئ، من جانب أخر. فإذا أعاد الكاتب نشر موضوع صحفي أو مقال سبق أن نشره في صحيفة أخرى يكون قد اعتدى على حق الملكية الفكرية للصحيفة الأولى ووضع الصحيفة الثانية في مأزق قانوني وأخلاقي، وضلل الصحيفة الثانية التي ما كان لها أن تنشر هذا العمل لو أنها علمت أن المقال ليس جديدا. وفي هذا الإطار فإن على الكاتب الذي يقرر القيام بهذا الفعل أن يسأل نفسه: هل كان محرر الصحيفة الثانية سيقوم بنشر المقال المنتحل ذاتيا إذا أخبره الكاتب أن المقال سبق نشره في مكان آخر؟ الإجابة بالقطع ستكون «لا». على الجانب الآخر فإن قارئ المقال المنتحل يقع ضحية التضليل ما لم يتم إعلامه قبل أن يقرأ بأن المقال ليس جديدا وسبق نشره سواء في الصحيفة نفسها أو في مكان آخر. وأذكر هنا أن بعض كبار كتاب الأعمدة اليومية في الصحافة المصرية مثل الراحل مصطفي أمين كان يعيد نشر بعض ما سبق نشره في عموده الشهير «فكرة» في صحيفة «الأخبار» القاهرية، لأسباب محددة، ولكنه كان يذكر تاريخ النشر الأول له أسفل العنوان مباشرة، وهو ما كان يفعله أيضا الراحل جلال الدين الحمامصي والراحل أحمد بهاء الدين وما زال يفعله صلاح منتصر في عموده اليومي في صحيفة الأهرام.

وتتضخم مشكلة الانتحال الذاتي في حالة قيام الكاتب بتضليل الصحيفة والقارئ معا، بأن يقوم بتغيير العنوان أو تغيير ترتيب فقرات المقال واستخدام مقدمة جديدة، كما ظهر في بعض حالات الانتحال الذاتي الأخيرة. وإجمالا فإن الانتحال الذاتي من السهل علاجه إذا صارح الكاتب محرر الصحيفة بأن عمله أو مقاله الجديد مأخوذ من عمل سابق، وللمحرر أن يقرر ما إذا كان سينشر المقال أم لا. وفي حالة النشر يجب أن يصارح المحرر القارئ بأن العمل هو إعادة نشر لعمل قديم مع الإشارة لتاريخ نشره الأول وعنوانه الأصلي ومكان أو أماكن نشره السابقة.