أفكار وآراء

مأسسة الحوارات .. تقنين الآراء !!

24 سبتمبر 2017
24 سبتمبر 2017

أحمد بن سالم الفلاحي -

[email protected] -

على الرغم من هذا التأريخ الطويل في التأسيس لعقلانية الحوار، والبعد عن تبسيطه، بمختلف هذه الصور كلها، إلا أن الأمر -ومن خلال الملاحظة- يتعدى هذا التأسيس «البنيان» في أغلب هذه الحوارات أو الاجتماعات، حيث تستنفر الانفعالات، إما لضيق في الصدور، وإما لاستغلال للمناسبات.ثمة حوار قائم بين أطرافه المختلفة، ولا يزال كذلك منذ منشأ البشرية الأولى، اتفقت هذه الأطراف المتحاورة على موضوعات الحوار؛ أو لم تتفق، كما هو حال قابيل وهابيل عندما انهيا حوارهما بقتل أحدهما للآخر، مؤسسا أول حوار علني، سيظل الحوار قائما الى آخر عمر البشرية حيث لا غنى عنه، وفي خضم هذه الحوارات القائمة بين البشر جميعا، تتوافق الرؤى وتختلف، وتتصادم المصالح وتتهادن، وتعلو نبرات الصوت وتخفو، وتتهيج المشاعر وتخبو، ويصل المتحاورون إلى كلمة سواء، وقد يختلفوا، ومع هذه الصور كلها سيظل الحوار قائما، وستتوق الأنفس إليه دائما، وستظل الحاجة إليه قائمة، فمساحات الالتقاء بين أي طرفين لن تحددها أطر إلا من خلال هذه الصورة الجماعية بأطرافها المختلفة، التي يلملم شتاتها الحوار؛ فالحوار الحوار؛ ولا بديل عنه.

يظل الحوار حالة مربكة الى حد كبير، ولا أتصور أن شخصا ما مقبل على إقامة حوار ما، لا يقلقه هاجس الحوار المقدم عليه، لأن فيه امتحان للشخصية، فليس أي شخص يمكن أن يقيم حوارا، وليست أية مجموعة تمتلك أساسيات الحوار، ولذلك هناك أشخاص فقط، يولدون محاورون هكذا بالفطرة، وهناك أشخاص فقط تسند اليهم مهمة قيادة دفة حوار ما، وخاصة فيما يعرف بـ «كبار المفاوضين»، فالحوار يحتاج الى سرعة بديهة، والحوار يحتاج الى سعة في الثقافة، والحوار يحتاج الى قوة الاستحضار والتذكر، والحوار يحتاج الى جرأة في الطرح؛ وفي الأخذ والرد، والحوار يحتاج الى «كاريزما» فطرية تكون مدخلا مهما في الاستحواذ على اهتمام المتحاورين، ولذلك فأي حوار معرض للفشل، إن لم تتحقق فيه مختلف هذه العناصر، أو جلها، فأرضيات الحوار مساحات تتسع كلما كان أطراف هذا الحوار، أو ذاك على أرضية صلبة من الاستعداد، وعلى توجه صادق من الوصول الى كلمة سواء، ومن هنا تأتي الضرورة وخاصة اليوم أكثر من أي وقت مضى حيث تراجع القوة العضلية المباشرة؛ واستبدالها بالفكر الى تدريب الناشئة على أسس الحوار، ومن هنا تأتي فكرة إنشاء المجالس البرلمانية للشباب؛ كما في تجارب بعض الدول، كما سمعت، وفكرة المجالس الطلابية في مؤسسات التعليم العالي في السلطنة، كما هو الواقع، لتؤسس هذه المناخات المؤسسية؛ منطلقا علميا وعقلانيا للحوار، والانتقال بالكملة المهذبة الى منصات الحوار، بدلا من التعاطي المفرغ من المضمون، كما هو الحال اليوم في كثير من الملتقيات والاجتماعات، فمن شأن هذا التهذيب أن يأتي بنتائج على قدر كبير من الأهمية، وعلى قدر كبير من الفائدة، بدلا من خطابات الكراهية التي نسمعها، أو نقرأها والتي لا تزال تجد أرضيات خصبة من التعاطي في كثير من الاجتماعات والملتقيات الإقليمية والعالمية،

عندما فكر الإنسان أن يضع مؤسسة لشرعنة الحوار، لم يجد أفضل مكان له سواء ذلك المكان المخصوص بما يسمى بـ «المجالس» سواء على مستوى المنزل الواحد، أو الحي والقرية، او الدولة بكاملها، حيث تفرع هذا المفهوم من مجلس صغير يضم عددا قليلا من الناس، الى مجالس أكبر؛ عرفت بـ «البرلمانات» المعبرة عن رأي الشعب بكامله، أو حوار الشعب بأكمله، وعندما يصل الشعب الى هذا المستوى من التقدم النوعي في مفهوم الحوار، فإنه بذلك يقف على أرضية صلبة من الرأي والمشورة، لأن هذا الرأي الناتج عن الحوار العقلاني لا يتحقق إلا من خلال مؤسسة ارتضاها الشعب أن تمثله، لأن من يتحاور بداخل هذه المؤسسة هم مجموعة اختارها الشعب لأن تقول عنه كلمة الفصل، وكما ينطبق على الشعب في مفهومه الصغير في اختياره لمن يتحاور باسمه ينطبق على الشعوب العالمية في اختيارها لممثليها لمن هم سوف يتحاورون عنهم في مؤسسة أكبر، وهو ما تعبر عنه اجتماعات المنظمات العالمية؛ كمنظمات الأمم المتحدة،، ويحمل الحوار هنا على أنه المعبر عن هذه المجموعة الصغيرة من الناس في حجم الدولة، أو المجموعة الأكبر من الناس في حجم العالم ككل، وفي كلتا الحالتين على هذا الحوار المؤسسي أن يكون اكثر سموا في طرحه، وفي تفاعله، واكثر مكسبا في نتائجه، هكذا هي الصورة المأمولة من مختلف الحوارات التي تنضوي داخل المنظومة المؤسسية، وبالتالي فإن حاد عن ذلك، أو لم يأت بنتائج على قدر كبير من الأهمية، فإن هذه المأسسة للحوار لم تجد نفعا، وبالتالي فبقائها كعدمه، اتفق على ذلك مجموعة المتحاورين أو اختلفوا.

مع بدايات التكون الأولى للحياة البشرية؛ كانت هناك مساحات مفتوحة لهذا الحوار من جهاتها الأربع وعلى امتداد الأفق؛ استطاعت لملمة مجموعات البوح التي تخالج الإنسان عبر حواره الـ»منولوجي» الخاص، ولذلك جاءت صور التعبير، في البداية خاصة الى حد كبير، عبرت عنها مجموعة الرسومات والكتابات التي ضمتها الكهوف والمغارات، وصفحات الجبال المكشوفة حيث عدت هذه الوسائل كلها؛ مرتعا مهما لكل من يختلج في نفسيته حوار ما يريد إيصاله للآخر، سواء أكان هذا الآخر، فرد، أو مجموعة من الأفراد في ذلك الزمن البعيد، وعلى الرغم من أن المساحات المفتوحة، كما هو معلوم بالضرورة بإمكانها أن تعرض هذه الآراء، وهذا المصادمات القولية على قارعة الطريق «فتذروها الرياح»، ولكن تلك الحوارات بقت، وخلدها التاريخ، واستدل من خلالها الإنسان الحديث اليوم على الكثير من الحقائق والدلائل المعرفية، التي لولا هذه الكتابات والرسومات لغاب الكثير عن تلك الأقوام التي فنيت وبقي رسمها، وإن كانت على شكل رسومات، أو كتابات بلغات ذلك الزمان، حيث لم تكن اليوم أبدا حجر عثرة في فهم دلالاتها المعرفية والتاريخية، ومع تقدم الحياة، وترقي الإنسان في استخدام الأداة استلزم الأمر، وباتفاقات الناس أنفسهم ان يجمعهم سقف واحد، يستظلون تحته، ويطرحون آراءهم، وهم مسكونون بهالة المكان، وباحتواء الجدران الأربعة، فلعل لهذه الاستحكامات الأربعة ان تفضي بشيء من الحكمة، وبشيء من الهدوء، إلا أن الإنسان، على ما يبدو ظل على بدائيته تلك، وانحاز الى فطرته تلك، ولا يزال يمارس ذلك على رضا، وهو الخروج عن رأس الحكمة في تفعيل حواره مع الآخر في كثير من المواقف.

وعلى الرغم من هذا التأريخ الطويل في التأسيس لعقلانية الحوار، والبعد عن تبسيطه، بمختلف هذه الصور كلها، إلا أن الأمر -ومن خلال الملاحظة- يتعدى هذا التأسيس «البنيان» في أغلب هذه الحوارات أو الاجتماعات، حيث تستنفر الانفعالات، إما لضيق في الصدور، وإما لاستغلال للمناسبات، وإما إمعانا في تكريس الفوقية المعتادة من قبل من أقنعوا أنفسهم أنهم الأعلى دائما، ولذلك يخرج هذا الحوار عن هذا التأسيس، ليصبح قولا منفلتا من عقاله، حيث لم تنفع هذه الهالة التي تضفيها المؤسسة المخصصة للحوار سواء في المؤسسة الصغرى: مجلس القرية، مجلس البرلمان، او المؤسسة الأكبر مجلس المنظمة الدولية، حتى ليصاب أحدنا بالذهول من جراء التلاسن الذي يظهره المتحاورون أحيانا، وهو تلاسن ممقوت، لا يعبر إلا عن ضيق في الأفق، وهذا ما يؤسف له حقا في زمن تخيم فيه الحكمة، بفعل المعرفة، وفي زمن تخضب كثيرا بالخبرات المعرفية والإنسانية، ولم تعد الكلمة الجارحة هي السبيل للاقتصاص، ولا المفاهيم المبطنة هي السبيل للنيل من الآخر، فهذا وذاك كلهم اليوم يقفون على مستوى واحد في درجات السلم المسكون بثقل بالهموم، وبالمآسي، من جراء أفعال الإنسان، هذا الإنسان الذي لا يزال شابا متمردا على كل ما يحيطه، أعطته القوة المادية الاستمرار في هذا التمرد، وشرعت له المساحات المفتوحة لاستباحة الدماء والأعراض، ولا يزال كذلك الى أن يرث الله الأرض ومن عليها « لله في خلقه شؤون» ولم يستطع الحوار على الرغم من مساحة التأثير التي قضاها في تهذيب المتحاورين كل هذا العمر، أن يوقف هذا التمرد عند هذا الإنسان منذ ذلك التاريخ، وحتى هذا التاريخ.