المنوعات

قراءة «مسافاتية» في نص «لا تقفل قلبك» للكاتبة أمامة اللواتية

20 سبتمبر 2017
20 سبتمبر 2017

صوفية الصورة الشعرية وشعرية الصورة الفوتوغرافية -

د. مسلم الطعان -

تشتغل الشاعرة العمانية أمامة اللواتية في معظم نصوصها النثرية الشعرية على مسافة النص الحوارية ما بين صوفية الصورة الشعرية وشعرية الصورة الفوتوغرافية. ثمّة مسافاتية تبادلية بين صوفية الصورة الشعرية وشعرية الصورة الفوتوغرافية في النص الإبداعي الذي تكتبه الشاعرة، فالمسافة البصرية تحرّك مكنونات الوعي واللاوعي الجمعي، واللون لا يكتفي بمسافاته الدلالية والسيميائية، وإنما يتعداها نحو درامية حوارية تنسج خيوط لعبتها الجمالية أصابع الشاعرة حين تتعالق مسافة الذهني بمسافة البصري عبر آلية شعرية النص Mechanism of the Text›s Poetics.

مسافة أولى

في النص الشعري الموسوم «لا تقفل قلبك» تستهل الشاعرة نصها المسافاتي بالقول:

لا تقفل قلبَكَ للريح

لا تقفل قلبكَ على وجعٍ

ارسم في الصفحةِ ورداً

وغداً يزهرُ في الطرقات.

المسافات تنفتح في نص أمامة اللواتية وهي تنهى عن إقفال القلب وهو منبع الأمل والحياة والإيمان والحب الصوفي الطاهر. فالمسافات تتناسل سريعا في المقطع الاستهلالي للنص. ثمّة دعوة شعرية موّشاة بإيقاعية الحس الصوفي تصوّر القلب مسافة مشرعة النوافذ على الريح التي تحرّك ستائر النبضات لتبث الحياة ليس في القلب وحده وإنما في الوجود برمّته. إن مبدعة النص توظف التقانة اللغوية بإيقاع مسافاتي حين تلجأ إلى تكرار لا النافية بمسافتين متباعدتين هما مسافة الريح ومسافة الوجع لكن الرابط بينهما تلميحا وتصريحا هي عملية إقفال القلب. إن إقفال القلب دون الريح يجعل الفعل المسافاتي الذي تنشده الشاعرة حبيس المكان، فالريح تشكل قوة مسافاتية إذ انها تنقل الفعل الجمالي الذي ينتجه القلب من الداخل إلى الخارج وهذا بحد ذاته فعل صوفيّ مسافاتيّ، وأن عملية إقفال القلب على الوجع يرهقه ويعطل فعله الجمالي المسافاتي الذي ينشده الصوفي في مناجاته وبوحه العرفاني، فهي إذا تنهى عن إقفال مسافة الوجع لأنه يستهلك القلب ويقتات على طاقته ويعطل فعله الجمالي، ونتيجة لذلك يكون لا مناص من فتح نوافذ القلب لتشرع ريح الأمل بتطهيره من ركامات الوجع، وبذلك تتحقق الغاية الجمالية من أن الفعل الشعري هو فعل تطهيري بامتياز. بعد ذلك تنقلنا الشاعرة لاشعوريا إلى مسافات عالمها الطفوليّ الأثير لديها كأم وكاتبة تشكل حضورا مهما في أدب الطفل بصورة عامة وفي ميدانه السردي على وجه الخصوص. إن أمامة اللواتية تركب هنا مركب المسافة الجمالية إذ تفتح أبواب التأويل مجدّداً عندما تخاطب القارئ ـ الطفل وتدعوه منذ البدء أن لا يقفل قلبه على الوجع والآهات التي تنهي جمال طفولته وإنما عليه أن يشرع برسم ورود الأمل في أول صفحة من حياته وكأنها تخاطب طفلها أو أي طفل في البيت أو المدرسة أو في مدرسة الحياة على نحو مسافاتيّ، وهذا ما يؤكد شعرية فعل الكاميرا الجمالية للشاعرة التي ترصد كل شيء كما هي في الحياة. إذ أن أمامة اللواتية في واقع الحال تحسن الاشتغال على آلة التصوير التي ترافقها في حلها وترحالها، فهي مصوّرة بارعة في اقتناص اللحظة الجمالية لحركية الوجود ومترجمة حاذقة للحظات صمته المسافاتي بلغة ذات شعرية تصويرية وحرفية سردية ذات إيقاع طفوليّ وصوفيّ في غاية الدهشة والجمال.. ولا عجب في ذلك فأمامة اللواتي قاصة وشاعرة ومصوّرة حاذقة، وبداهة أن الفن والإبداع الإنسانيّ يبدأ بالرسم على صفحة القلب وصفحة الوجود ولكن الأروع أن ترسم ورودا في الطرقات وهنا دلالة مسافاتية جلية على الانفتاح على رؤيا الأمل وعدم الركون الى اليأس والخيبة وإقفال أبواب القلب، وبذلك فإن الشاعرة تقدم لنا درسا جماليا وأخلاقيا في الوقت ذاته.

مسافة ثانية

في المسافة الثانية للنص تشرع لنا الشاعرة اللواتية نوافذها المسافاتية بالانفتاح على الموروث الديني Religious Traditionوالميثولوجيا الشعبيةPopular Mythology إذ تجمع بين شعرية الإحساس اللحظوي وإيقاعية الصورة الجمالية لآلية التسجيل الصوري عبر محاورة بصرية ـ لونية وحسية ـ لونية في آن. ثمّة لونان يتقاسمان المسافة الشعرية للصورة الفوتوغرافية وهما الأزرق بمرجعياته الدلالية المشيرة لمسافات الحكمة والصداقة والكون المسافاتي اللازوردي، والأبيض الدال على براءة طفولة الكون الأولى ورمز الصفاء والنقاء والطهر والسكينة اذ تقول:

افتح كفَّكَ لا تتردد

في الوسط عينٌ للقدر

(يا حافظ) كن في العون

من شّرٍ يترّصدُ بالقلب.

ثمَّة اشتغالٌ صوريّ يوحي بالبوح اللوني المسافاتي، فلون الباب أزرق وثمّة عيون تترصد وتضمر الشر، وتأتي المسافة الحسية ممثلة بالأكف ذات اللون الأبيض، إذ تستحضر الشاعرة هنا الإرث الشعبي ـ الديني ـ الميثولوجي. ومنذ البدء ندرك بأن الشاعرة لم تزل تتحدث عن الشروع بمسافة الفتح وهي مسافة مضادة بطبيعة الحال لمسافة الانغلاق أو الغلق القصدي، فالقفل والباب الموصدة من الجانبين هي علامات مسافاتية لفعل الغلق. الشاعرة هنا تتقمص دور العرّافة أو قارئة الكفّ لتشعل اوار نار النص الدرامية بتوظيف مسافة تراثية أخرى ذات إيقاع ديني Religious Cadence يحيلنا إليها النص، فالعين التي تفتح في وسط الكف هي بؤرة للشر المضمر الذي تدرأه كلمة (يا حافظ) والحافظ هو اسم من أسماء الله الحسنى تستحضره آليات اللاوعي الجمعي عندما تشعر بمداهمة الخطر ليكون (في العون). ومن أجل التحسب للشر المترصد بسكينة القلب ودعته، تطالب عرّافة الشعر القارئ أو جمهور القصيدة بفتح الكفّ وكأنها تريد أن تقرأ مسافة الطالع أو ما سيحدث في قادم الأيام.

مسافة ثالثة

كلّ الموج هنا

فأبحر لا تخشى الغرق

الخوف داء عضال

والروح لا تخشى الأقدار

أبحر في أبواب الجنة

من نفسك قم وتحرر

ما جدوى جسدٍ مقدام

والروح تخشى الظل؟

في المسافة الثالثة تتناسل المسافات لتنجب لنا مسافات أخرى: فالموج والإبحار والخشية من الغرق والخوف الذي دب في الأوصال واستشرى وأصبح الداء العضال والروح التي لا تخشى الأقدار والإبحار الصوفيّ الذي تتجه بوصلته المسافاتية نحو أبواب الجنة، والدعوة لتحرر النفس من القيود والثورة على قيود الجسد، حيث إن الجسد المقدام ليس له معنى إذا كانت الروح تخشى الظل، وتلك مسافات تقود إلى مسافات أخرى. ومن البديهي أن نقول بأن ثمّة مسافات متلاطمة في بحر النص الذي تدعونا الشاعرة أمامة اللواتية للإبحار في مياهه العميقة بلا خشية. من استدعى الموج في تلك اللحظة الجمالية من زمن النص والأبواب مغلقة؟ هل اللون الأزرق المتسيد هو من استدعى مسافات البحر ليصبح (كل الموج هنا)؟ وإذا كان لابد من الإبحار فعلّام تلك الخشية من الغرق؟ وتلك التساؤلات تحيلنا إلى فهم المسافة ما بين اشتغال الشاعرة على الذهني ـ الصوفي في كتابة النص وعلى البصري ـ التصويري في محاورة شعرية الواقع بأداة تسجيل تحملها يد الشاعرة ـ الرحّالة وهي تؤرخ لنا نصا ينفتح على كل مسافات التأويل. وفي عبارة «الخوف داءٌ عضال» تقترب الشاعرة إلى حدّ التماهي من مسافة السردي اليومي. أن رحلة الإبحار تكون مسافاتية هي الأخرى: نحن نبحر تلبية لدعوة الشاعرة، في بحار النص للظفر بصيد لؤلؤي ثمين علينا أن نعثر عليه في القيعان الجوانية البعيدة، ونبحر مسافاتيا أيضا بروح لا تخشى قسوة الأقدار. إن رحلة الإبحار الصوفيّ هي قراءة مسافاتية متسامية من أجل الوصول الى أبواب الجنة لنبدأ رحلة إبحار مسافاتيّ هناك حتى بلوغ سدرة اليوتوبيا. هي دعوة لكسر قيود النفس الأمارة بالخنوع والسكون الأرضي المقيت. إن أمامة اللواتي تشتغل وببراعة المتمرس على مسافات التضاد ما بين الجسد المقدام والروح المستكينة التي تخشى الظل. ثمّة أبواب أخرى تنفتح على مسافات الفلسفة في هذا النص والنصوص الأخرى التي تكتبها الشاعرة التي تمنح قارئها الحرية المسافاتية لفتح أبواب التأويل والولوج بعيدا في قيعان النص عبر آلية القراءة Mechanism of Reading بأسلوب صوفيّ الإيقاع يتطهر من أدران الاستكانة والالتصاق بالعبارات الجاهزة Ready Cliches ويغادر لغة الجسد المتكلسة والراكدة المتعفنة ويتسامى بروح الإبداع النقي حيث لا يمكن لسفن الخوف والخشية والتردّد أن تبحر في أمواج بحرها اللجّي الزاخر بنفائس الجمال والعفة والنقاء المسافاتي الذي لا تحدّه أية حدود.