الملف السياسي

مستقبل العراق في تدعيم وحماية وحدته الوطنية

18 سبتمبر 2017
18 سبتمبر 2017

د.أحمد سيد أحمد -

,, يمثل العراق نموذجا واضحا للدولة الوطنية العربية التي تعرضت لتحديات ضخمة شكلت تهديدا حقيقيا لها، وتحتاج معها إلى تضافر كل الجهود للمحافظة عليها وحمايتها ,,

تمر الدولة الوطنية العربية بأصعب اختبار لها، وتحديات غير مسبوقة منذ استقلالها في خمسينات القرن العشرين، تجسدت في تعرضها لمخاطر التفكك والتفتيت وعدم سيطرة الحكومة الشرعية والمؤسسات الوطنية على كثير من المناطق التي يتحكم فيها الفواعل من غير الدول مثل التنظيمات الإرهابية كتنظيم داعش والقاعدة وجبهة النصرة غيرها، واندلاع الحروب والصراعات الداخلية المسلحة بين الدولة وهؤلاء الفواعل، إضافة إلى انهيار الكثير من المؤسسات الوطنية مثل الجيش والشرطة والأجهزة الإدارية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية وتدمير البنية الأساسية وزيادة معدلات التهجير واللاجئين في الداخل والخارج بما يزيد من مخاطر تغيير التركيبة الديموغرافية للسكان، وهو ما يشكل تهديدا لهذه الدول والتعايش بين مكوناتها المختلفة، إضافة إلى تعرض الهوية الوطنية للدولة العربية لتحديات كبيرة مع تصاعد الهويات الفرعية والانتماءات الدينية والقبلية والمذهبية، وإلى جانب ذلك كله تزايد التدخلات الخارجية في إدارة وتوجيه مسار التفاعلات والأزمات العربية، حيث تحولت العديد من الدول العربية لساحة مفتوحة لصراع المصالح والأجندات بين الدول الكبرى والإقليمية سعيا لتحقيق أهدافها وسياستها حتى على حساب مصالح الشعوب والدولة الوطنية العربية وتصاعد خطر الإرهاب والتنظيمات الإرهابية التي شكلت خطرا ليس فقط للدولة العربية بل للعالم كله.

كما تواجه الدولة الوطنية العربية خاصة في مرحلة ما بعد التغيرات السياسية الضخمة التي شهدها العالم العربي في عام 2011 تحديات كبيرة أبرزها أزمة الاندماج القومي والهوية والاستقلالية والمحافظة على سيادتها ووحدتها واستقرارها واستعادتها هويتها الوطنية الجامعة لكل أبنائها بغض النظر عن اختلافاتهم السياسية والدينية واللغوية، وتعثر تحقيق التنمية الاقتصادية والازدهار الاقتصادي ورفع مستوى معيشة شعوبها. ان حماية الدولة الوطنية العربية والمحافظة عليها يتطلب العديد من الأمور:

أولها: إطفاء النيران المشتعلة والصراعات المسلحة في العديد من الدول العربية مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا عبر حلول سياسية توافقية تستوعب الجميع في السلطة وفي عملية صنع القرار والتوافق بينهم على رؤية موحدة حول شكل المستقبل السياسي، لأن الحلول العسكرية فشلت حتى الآن في حسم الصراعات التي تحولت لحروب المدن المفتوحة بين مؤسسات الدولة والتنظيمات المسلحة وسادت فيها حالة اللاحسم مع استمرار معاناة الشعوب وتآكل الدولة الوطنية ومؤسساتها المختلفة.

ثانيها: إيجاد مشروع قومي جامع لكل أبناء الدولة وانصهارهم في الهوية الوطنية المشتركة، وتحقيق مبدأ المواطنة الذي يساوي بين الجميع في الحقوق والواجبات بغض النظر عن أية اختلافات عرقية ومذهبية وطائفية ولغوية، وتحقيق المصالحة الوطنية بين الفرقاء وإعادة اللحمة مرة أخرى إلى النسيج الوطني والمجتمعي الذي تعرض لتشققات كبيرة مع انتشار الكراهية والانتقام والصراع المفتوح منذ سنوات وأدى لتصاعد النزعات الجهوية والإقليمية والدينية.

ثالثها: توجيه الجهود نحو إعادة التنمية والبناء وإعادة الإعمار والتي تحتاج إلى مئات المليارات من الدولارات لإعمار مدن بكاملها تعرضت للتدمير الشامل جراء الصراعات المسلحة كما حدث في الموصل وحلب وغيرها، من خلال توظيف موارد الدولة وتوجيهها نحو التنمية بدلا من توجيهها نحو التسلح والحرب، والعمل سريعا على إعادة اللاجئين والمهجرين إلى مدنهم وقراهم، والذين تجاوزا الملايين، إضافة لملايين الجرحى والمصابين.

ويمثل العراق نموذجا واضحا للدولة الوطنية العربية التي تعرضت لتحديات ضخمة شكلت تهديدا حقيقيا لها، وتحتاج معها إلى تضافر كل الجهود للمحافظة عليها وحمايتها. فقد برزت مشكلة تنظيم داعش الإرهابي بشكل خطير منذ عام 2014 حينما نجح في السيطرة على ثلث مساحة العراق وأعلنت خلافته الإسلامية المزعومة في الموصل، عبر إقامة مؤسسات إدارية خاصة به في الحكم مثل الدواوين وعملة مالية له وعلم رمز لدولته وسيطر على مصادر النفط وتصديره للخارج، وتحول لفاعل من غير الدول تحدى الحكومة المركزية والدولة الوطنية التي نجحت خلال العام الأخير في مواجهته وتحرير معظم المدن والمناطق العراقية التي سيطر عليها في الرمادي والأنبار وتكريت وصلاح الدين ونينوى وآخرها مدينة تلعفر، وإنهاء خلافته المزعومة.

ومع انتهاء داعش كتنظيم في العراق، إلا أنه لم ينته كأفراد موجودين كخلايا نائمة داخل المدن العراقية تستغل الفرصة للقيام بعملياتها الإرهابية من تفجير وعمليات انتحارية. كما يواجه العراق خطر التفتت والتقسيم مع تزايد النزعات الانفصالية وتوجه إقليم كردستان لتنظيم استفتاء على الاستقلال في الخامس والعشرين من سبتمبر الجاري، بطريقة انفرادية رغم معارضة حكومة بغداد، والعديد من القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران وتحفظ العديد من الدول الغربية الأوروبية والولايات المتحدة التي طالبت الإقليم بتأجيل الاستفتاء حتى لا يصرف الانتباه عن مواجهة مشكلة الإرهاب والمعركة مع تنظيم داعش، والخشية من يؤدى استقلال كردستان إلى اندلاع الصراع والحروب في المنطقة وبالتالي استمرار وتصاعد حالة عدم الأمن والاستقرار.

قوة العراق هي في حماية الدولة الوطنية والحفاظ على وحدتها واستقرارها من خلال إعادة بناء وتقوية مؤسسات الدولة الوطنية الأمنية والإدارية والاقتصادية وإعلاء هوية العراق الوطنية والعربية على أية هويات فرعية مذهبية أو دينية أو عرقية، وهو ما يتطلب تصحيح الخلل في المعادلة السياسية القائمة على المحاصصة الطائفية، وتكريس الديمقراطية والمواطنة التي تساوي بين جميع مكونات الشعب العراقي بغض النظر عن اختلافاتهم السياسية أو الطافية أو العرقية وتحقيق التعايش السلمي بينهما في إطار دولة موحدة قوية، ومعالجة كل المشكلات التي ساهمت في تكريس النزعات الانفصالية عبر إقامة شراكة حقيقية بين المكونات العراقية في إطار المصير المشترك والمستقبل الواحد، وتكاتف كل الجهود لاستئصال خطر الإرهاب وبقايا تنظيم داعش، ومعالجة التفاوتات بين الأقاليم العراقية، وتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة لكل أبناء العراق ومناطقه الجغرافية.

التفتيت والانقسام لن يكونا في مصلحة أحد، فالعالم يتوجه نحو التكامل والاندماج، وقوة العراق ومكوناته المختلفة في الحفاظ على وحدته ومواجهة التحديات المشتركة عبر التوافق والتوحد، وهنا تبرز أهمية دور النخبة السياسية العراقية في إعلاء مصلحة العراق العليا على أية اعتبارات شخصية أو حزبية أو طائفية وأن تقوم بمراجعة السياسات السابقة والتي ساهمت في تعقد مشكلات العراق وأزماته، وتصحيح الخلل في المعادلة السياسية وإعادة بناء الثقة بين المكونات العراقية المختلفة وإحلال ثقافة التعايش والتعاون والتكاتف بدلا من ثقافة التناحر والصراع التي كان الخاسر الأساسي فيها الشعب العراقي وضعف مؤسساته الوطنية واستنزاف ثرواته البشرية والطبيعية واستغراقه في المشكلات والصراعات السياسية والعسكرية التي أعاقته عن تحقيق التنمية والتقدم الاقتصادي.

قوة الدولة الوطنية العراقية في تماسك النسيج المجتمعي والتشابك بين كل مكوناته وتوظيف موارده البشرية والطبيعية صوب التنمية والازدهار، وتنحية الاعتبارات الطائفية والعرقية، ووقف كل أشكال التدخل الخارجي، وفي بناء مؤسساته القوية والحفاظ على هويته العروبية. ولا شك أن الدولة الوطنية العراقية أمام اختبار حقيقي يتطلب تكاتف جميع العراقيين من أجل الحفاظ على دولتهم ووحدتها ومواجهة التحديات والمشكلات المختلفة وأبرزها خطر التفتيت ومواجهة الفواعل من غير الدول وذلك في إطار من العقلانية والتعاون ومراجعة حقيقية لاستخلاص دروس المرحلة السابقة وتغيير حقيقي في السياسات والممارسات، وإلا فإن استمرار النهج الحالي من شأنه أن يهدد وجود الدولة الوطنية ذاتها.