الملف السياسي

صفقة « كارتر- ايل سونج ».. وسياسة «الشمس المشرقة »

11 سبتمبر 2017
11 سبتمبر 2017

عماد عريان -

الغياب الواضح للإطار السياسي الشامل للتسوية يعد أحد أهم الأسباب لتفاقم الأزمة الكورية الشمالية وبلوغها هذا المستوى المخيف من التصعيد العسكري المتبادل، متمثلا في التجارب الصاروخية والنووية من جانب بيونج يانج، مما اثار استياء كبيرا في المعسكر الغربي، والدفع بمزيد من الأسلحة الاستراتيجية الأمريكية نحو شبه الجزيرة الكورية، مما أثار استياء القوى الإقليمية الكبرى في المنطقة،هذا الاستياء المتبادل في حقيقة الأمر هو رد فعل طبيعي وانعكاس نمطي للتعامل مع الأزمة بشكل أحادي الجانب يتمثل في الجانب الأمني دون اللجوء لحلول «العصف الذهني» التي يمكن القول إنها تساعد كثيرا في معالجة الأزمة الكورية وغيرها من الأزمات من منظور شامل بدلا من التعامل معها بمصالح ذاتية وتوجهات أحادية فحسب . ومن هذا المنطلق يمكن القول إن الملف الكوري يزداد تعقيدا وسيواصل نهجه الصعودي مع استمرار غياب المبادرات السياسية الشاملة.

ومن حيث المبدأ يمكن القول إن رسالة بيونج يانج قد وجدت في الغالب آذانا صاغية لدى دوائر عالمية شتى بتصرفاتها ومواقفها الأخيرة ، ففى رد منهما على مطالبة واشنطن داخل المنظمة الدولية بفرض حزمة جديدة أكثر قسوة من العقوبات ضد النظام الكوري الشمالي ردا على تجربته النووية السادسة ، وهذه المرة لقنبلة هيدروجينية ، أعلنت كل من روسيا والصين رفضهما القاطع لهذه الدعوة الأمريكية مشددتين على أن الحوار وحده دون سواه، يعد السبيل الأمثل لنزع فتيل التوتر في شبه الجزيرة الكورية، وقد شدد سيرجي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي على هامش قمة دول مجموعة «بريكس» في مدينة شيامين الصينية على أن «أي خطوات حمقاء تتعلق بكوريا الشمالية قد تتسبب في انفجار سياسي أو عسكري وتزيد الوضع سوءا ، ودعا إلى تقديم اقتراحات واقعية لكوريا الشمالية من أجل الحوار..

لكنه استدرك أن هذا الأمر يتوقف على الأمريكيين الذين يسارعون غالبا للأسف إلى التكلم بلغة العقوبات»، وفي السياق ذاته يرى السفير الروسي لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا أن خيار «التجميد مقابل التجميد» هو الوحيد القابل للتطبيق وضمان التوصل إلى حل سياسي ، مشددا على موقف بلاده بأن الحل الوحيد للأزمة هو الحل السياسي وليس العسكري أو فرض مزيد من عقوبات، وبدوره أعلن السفير الصيني لدى الأمم المتحدة لوي جيي أن بلاده لن تسمح بنشر الفوضى في شبه الجزيرة الكورية، كما جدد الدعوة الى اعتماد خيار «التجميد مقابل التجميد» الذي أعدت له الصين وروسيا خريطة طريق مشتركة ، لافتا إلى أن هذا الخيار قابل للتطبيق ويضمن خفض التوتر والعودة الى الحل السياسي الذي تفضله قوى اقليمية عديدة.

والشيء نفسه على جانب الدول الحليفة لواشنطن، فقد أعلنت فيديريكا موجيريني مفوضة الشؤون الخارجية للاتحاد بعد اجتماع لسفراء دوله «إن الاتحاد الأوروبي يؤكد استعداده لدعم المسار المؤدي الى حوار يتمتع بالموضوعية والجدية مع كوريا الشمالية لإنهاء أزمة تعرض أمن آسيا والعالم للخطر» وهو ما شددت عليه المستشارة الألمانية ميركل والرئيس الفرنسي ماكرون وأغلب رؤساء وزراء أوروبا وقادتها السياسيون، ومن المعروف أن كلا من كوريا الجنوبية واليابان يتخذان موقفا ثابتا رافضا للحل العسكري الذي من الممكن أن يتحول بدرجة كبيرة إلى ما يشبه الانتحار الجماعي للكيانين الإنساني والمادي في بلديهما، إذا تمت عملية عسكرية على نطاق واسع وهو ما تحسب له الولايات المتحدة ألف حساب حيث توجد لديها قواعد عسكرية في البلدين قوامها عشرات الألاف من العسكريين والمدنيين سوف يتعرض الموجودون بها لخسائر هائلة في حالة حدوث حرب لن ينجو متخذ القرار من عواقبها لدى المواطن الأمريكي، وأي عمليات عسكرية ضد كوريا الشمالية لن تجد لها غطاء دوليا كما في التحالف ضد داعش أو الاستعانة بالناتو كما جرى في أفغانستان أو توفر مظلة أممية يمكن أن تفلت من «الفيتو» الروسي والصيني.

وتاريخيا مارست واشنطن عديدا من اساليب الضغط على كوريا الشمالية عبر حصارها سياسيا واقتصاديا والتهديد بفرض المزيد من العقوبات واستعداء المجتمع العالمي ضدها، حتى ان ادارة الرئيس الامريكي الأسبق بيل كلينتون كادت ان تصل في عام 1994 الى حد اعلان توجيه ضربة صاروخية شاملة ضدها، غير ان مساعي الرئيس الاسبق جيمي كارتر افسدت خطط دعاة الحرب في الادارة الامريكية عندما ذهب الى بيونج يانج واجرى محادثات استمرت ثلاثة ايام استطاع بعدها الحصول على التعهدات التي كانت ادارة كلينتون تطالب كوريا الشمالية بتنفيذها، عندما وقع الزعيم كيم ايل سونج اتفاقا يقضي بتجميد برنامج بلاده النووي مقابل اقامة مفاعلين نوويين يعملان بالماء الخفيف للاستخدامات السلمية وحصل بدوره على وعد من الولايات المتحدة بتقديم المساعدة العسكرية، وحصل كارتر على جائزة نوبل للسلام نظير صفقته مع بيونج يانج.

وبعد وفاة الزعيم الشمالي كيم ايل سونج ومغالاة واشنطن في مطالبها ودفعها بيونج يانج لتقديم مزيد من التعهدات، واصلت بلاده نشاطها النووي والصاروخي كما توسعت في صفقات مبيعات الصواريخ في منطقة الشرق الاوسط خاصة في ظل زيادة حاجة بيونج يانج لتدبير العملات الصعبة بعد تردي اوضاعها الاقتصادية الذي اشتدت حدته مع ما شهدته البلاد من كوارث الفيضان الجارف، وزادت حدة الهلع الامريكي في مرحلة تالية من اطلاق بيونج يانج الصاروخ الباليستي «تاي يو دونج» الذي اخترق الاجواء اليابانية ، وكان مداه يتسع ليشمل هاواي والاسكا ضمن اراضي الولايات المتحدة نفسها، وبات من الواضح اصرار كوريا الشمالية على المضي قدما في تصدير برامج الصواريخ البالستية . وتزامن ذلك التطور مع تطور آخر له اهميته في كوريا الجنوبية وهو تنامي مشاعر العداء للامريكيين بين شباب البلاد، ورغبة قطاع واسع من المواطنين في انهاء ما يعتبرونه شبه احتلال امريكي لأراضي وطنهم بدعوى حمايته من أي اعتداء يأتي من الشمال.

هذه المشاعر والأحاسيس التي بددها كارتر لبرهة من الزمان من خلال قيامه بدور «رسول السلام» مكنته من القيام بأدوار انسانية عديدة في المنطقة، فقد نجح الرئيس الأسبق في الحصول على عفو رئاسي من زعيم كوريا الشمالية « كيم يونج إيل « عن مواطن امريكي قبل عدة سنوات ظل محتجزا لدى الشمال لدخوله البلاد بطريقة غير مشروعة، وكان من الممكن، بل وكان من الواجب البناء على هذه السياسات بشتى السبل لإخراج كوريا الشمالية من عزلتها الدولية ودمجها في المجتمع العالمي بدلا من إدراجها ضمن دول «محور الشر» على غرار ما فعل جورج بوش الإبن خلال فترتي رئاسته للولايات المتحدة، مما دفعها نحو مزيد من التشدد والتطرف في تصرفاتها.

لم تكن تلك المحاولة السلمية الوحيدة لتطبيع الأجواء والعلاقات في شبه الجزيرة الكورية، ولكن كانت هناك أيضا «سياسة الشمس المشرقة» وهي السياسة الخارجية لكوريا الجنوبية تجاه كوريا الشمالية من 1998 حتى انتخاب «إي ميونج باك» رئيسا للبلاد في 2007 ، ومنذ أن وضعها الرئيس الكوري الجنوبي الراحل «كيم داي جونج»، أدت هذه السياسة إلى مزيد من التواصل السياسي بين الدولتين والعلامات التاريخية المهمة في العلاقات الكورية - الكورية ؛ لقاء القمة في بيونج يانج (يونيو 2000 وأكتوبر 2007) واللذين وضعا الأساس لمشاريع أعمال عالية القيمة ، واللقاءات الوجيزة بين أفراد العائلات الذين فرقتهم الحرب الكورية.

وفي إطار سياسة الشمس المشرقة تم تقديم مساعدات مالية كبيرة للشمال ونفذت مشروعات اقتصادية مثل منطقة كايسونج الصناعية ومنطقة جبل كمجانج السياحية في الشمال، وفي عام 2000 منحت جائزة نوبل للسلام لكيم داي يونج لتطبيقه الناجح لسياسة الشمس المشرقة، ولكن هذه السياسة لم يقدر لها النجاح التام والاستمرار بسبب سياسة النفس القصير من أطراف عديدة يبدو أن لها مصالح في استمرار الأوضاع على ما هي عليه، فضلا عن غياب مزيد من الإجراءات الجادة لإعادة بناء الثقة بين شطري كوريا، وإذا كان ما تبقى من تلك المحاولات (الذكريات الطيبة ) فحسب فإنها تؤكد أن المبادرات السياسية الجادة والشاملة على غرار « صفقة كارتر- كيم ايل سونج « و »سياسة الشمس المشرقة» هي المطلوبة بالفعل، حيث يمكن أن تؤدي إلى مقاربات متكاملة نحو تسويات شاملة إذا ما غلبت الأطراف كافة أولوية السلم والأمن الدوليين على المصالح الذاتية.