أفكار وآراء

هدنة عربية إعلامية عاجلة.. لماذا هي ضرورية ؟

27 أغسطس 2017
27 أغسطس 2017

أ.د.حسني نصر -

[email protected] -

كثيرة هي الظواهر الإعلامية السلبية التي نشهدها هذه الأيام، وتدفعنا ليس فقط إلى مراجعة كل ما تعلمناه وما علمناه لطلابنا في كليات وأقسام الإعلام على مدى سنوات، ولكن أيضًا إلى التحسر على الآمال العريضة التي كنا نعلقها على الإعلام العربي في تحقيق الوحدة الشاملة، أو بالأقل تحقيق الحد الأدنى من التقارب العربي-العربي.

الواقع أن أية مراجعة أمينة لواقع الإعلام العربي تجعلنا نخرج بنتيجة واحدة مؤلمة تقول إن هذا الإعلام في مجمله وبوسائله التقليدية والجديدة يعاني أزمة كبيرة بعد إن تخلت غالبية منصات النشر عن كثير من التزاماتها الأخلاقية تجاه القراء والمجتمعات العربية، وحولت وظيفتها الأساسية من دعم وتعزيز التضامن العربي إلى الترويج للتشرذم والتفتت، والتحريض على الأنظمة والشعوب التي تختلف معها في الرأي، وبالتالي تحولت من معاول للبناء إلى معاول للهدم. يكفي أن تراجع الصحف وتتابع محطات التلفزة العابرة للقومية وتتصفح شبكات التواصل الاجتماعي لتدرك الخطر الكبير الذي يمثله الإعلام العربي الحالي ليس فقط على الحاضر الذي لم يعد مشرقًا بأي حال، ولكن أيضًا على المستقبل الذي تمثله الأجيال الجديدة من الشباب العربي، والتي تتابع حملات الكراهية المنظمة القائمة على الأكاذيب التي تتبادلها بعض الوسائل الإعلامية العربية وبعض المؤثرين -إن جاز التعبير- على شبكات التواصل الاجتماعي، والتي لا يمكن التكهن بحجم تأثيرها المدمر على علاقات الشعوب العربية بعد سنوات قليلة.

من الطبيعي أن تختلف بعض الأنظمة العربية مع بعضها البعض، فالاختلاف سنة من سنن الله في الكون، ولكن من غير الطبيعي أن تُجيش وسائل الإعلام العربية بشكل في هذه الخلافات دون إدراك مخاطر ذلك على الشعوب. لقد وضع العالم أسسًا أخلاقيةً للمعارك الحربية، فما بالنا بالمعارك الإعلامية التي أصبحت أشد فتكًا وأكثر تدميرًا، خاصة وأن تأثيراتها قد تمتد لأجيال قادمة، فيما يعرف في نظريات الإعلام بالتأثير التراكمي طويل المدى، وتورث عداوة وبغضاء لا مبرر لهما وقد يبقيان لسنوات طويلة. لا مانع إذن في أن نختلف بل ونتصارع كأشقاء، وأن يشرح كل منا وجهة نظره في الخلاف، وأن يستميت في الدفاع عنها، ولكن دون أن يمتد الأمر لتعبئة الشعوب ضد بعضها البعض، واستغلال المساحات المفتوحة على الإعلام الاجتماعي لترويج الأكاذيب وبث مشاعر الكراهية. ما معنى أن تحرض وسائل إعلام وحسابات تواصل اجتماعي تستقطب الملايين من المشاهدين والمتابعين على دول وشعوب شقيقة، وما معنى أن تصل في خصومتها إلى حد السب والقذف والتشهير على مرأى ومسمع وربما رضا ومباركة وتوجيه من بعض المسؤولين على هذا الجانب أو ذاك، وما معنى أن تدعو وسائل إعلام عربية إلى قلب أنظمة الحكم في دول أخرى تشاركها نفس اللغة والدين والعادات والتقاليد وغيرها ؟ لا معنى لكل ذلك إلا أن الإعلام العربي قد فقد في السنوات والأزمات الأخيرة بوصلته، وأصبح إعلاما تائها في زمن يتسم بالفوضى والسيولة. كان يجب أن يكون الإعلام العربي عامل تجميع، وليس فرقة وصراع بعد هذه التجربة التاريخية الطويلة نسبيًا، وفي ظل تهاوى دول وأنظمة، واشتعال الحروب العربية – العربية في أكثر من مكان، ولكنه مع الأسف اختار أن يكون سلاحًا فتاكًا في هذه الحروب العبثية.

إنَّ أية محاولة لإصلاح العلاقات العربية- العربية لا بد أن تبدأ بإصلاح إعلامي سريع يتم الاتفاق عليه بين كل الدول العربية تحت مظلة متفق عليها، قد تكون مظلة جامعة الدول العربية أو مجلس وزراء الإعلام العرب، أو عبر مبادرة من إحدى الدول العربية البعيدة عن هذه الصراعات. هذا الإصلاح في تقديري يجب أن يبدأ بإعلان هدنة إعلامية عربية تتوقف فيها كل وسائل الإعلام وكل النشطاء المؤججين للصراعات على شبكات التواصل الاجتماعي عن الإساءة للأنظمة والشعوب، عن ترويج كل أشكال خطاب الكراهية أيًا كان مصدره. هذه الهدنة تبدو ضرورية الآن قبل أن تتحول الخلافات البسيطة إلى صراعات وقبل إن تتحول الصراعات بدورها إلى حروب حقيقية قد نعلم بدايتها ولكن الله وحده يعلم متى تنتهي. من شأن هذه الهدنة أن تمثل فرصة حقيقية لكي تراجع الدول التي تنفق على وسائل الإعلام والجيوش الإلكترونية التي تتزعم الحرب الإعلامية، نفسها وتعلم مدى الضرر الذي يصيبها على المدى الطويل نتيجة استمرار هذه الممارسات.

خلال هذه الهدنة يمكن أن يبدأ حوار بناء بين الحكماء من الإعلاميين والسياسيين والنخب المثقفة حول الضوابط الأخلاقية لمعالجة الخلافات العربية- العربية تكون ملزمة للجميع. نعم لدينا ميثاق شرف للإعلام العربي، ولكن الزمن تجاوزه بكثير ولم يعد صالحا للتطبيق في الوقت الحالي. والحقيقة أن واضعي هذا الميثاق في سبعينات القرن الماضي لم يدر بخلدهم إطلاقًا في ذلك الوقت أن يصل الحال بالإعلاميين العرب في العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين إلى هذا المستوى من اللدد في الخصومة، ولا أن تتحول وسائل الإعلام العربية إلى أسلحة ضد الأنظمة والشعوب بهذا الشكل، ولذلك لم يضمنوه أية نصوص تتعلق بمعالجة الخلافات العربية- العربية. ويكفي هنا مراجعة بعض نصوص هذا الميثاق لكي يتضح لنا أن ما كان يتحدث عنه في السبعينات شيء والواقع الإعلامي العربي الحالي شيء آخر مختلف تمامًا. المادة الخامسة على سبيل المثال تدعو وسائل الإعلام العربية إلى الحرص على مبدأ التضامن العربي في كل ما تقدمه للرأي العام في الداخل والخارج، وأن تسهم بإمكاناتها جميعًا في تدعيم التفاهم والتعاون بين الدول العربية، وأن تتجنب نشر كل ما من شأنه الإساءة إلى التضامن العربي، وأن تمتنع عن توجيه الحملات ذات الطابع الشخصي. وتضع المادة السابعة أيدينا على الجرح، إذ تنص على «التزام الإعلاميين العرب بالصدق والأمانة في تأديتهم لرسالتهم، والامتناع عن اتباع الأساليب التي تتعرض بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للطعن في كرامة الشعوب مع احترام سيادتها الوطنية واختياراتها الأساسية، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، وعدم تحويل الإعلام إلى أداة للتحريض على استعمال العنف، وعدم التجريح بالنسبة لرؤساء الدول والانحراف بالجدل عن جادة الاعتدال حرصًا على قدسية الرسالة الإعلامية وشرفها».

أين نحن من هذه النصوص الآن بعد أن ضربتها بعض وسائل الإعلام العربية في مقتل، وفعلت ما نهاها الميثاق عنه، وتحولت إلى أدوات للتحريض والتجريح والطعن؟ ألا يستحق الأمر المراجعة؟ ألا يستحق ما نحن فيه هدنة إعلامية عاجلة؟