المنوعات

قاموس التراث لفهد السعدي.. مفتاح جديد لخزائن العلم العمانية

21 أغسطس 2017
21 أغسطس 2017

محمد بن سليمان الحضرمي -

قاموس التراث .. كتاب للباحث فهد بن علي بن هاشل السعدي، صدر الجزء الأول منه هذا العام 2017م عن مركز ذاكرة عمان بمسقط في 494 صفحة من الحجم المتوسط، ولأن الكتاب يُقرأ من عنوانه فإن الباحث بتحريه الدقيق للتفاصيل، يستدرك على القارئ حتى لا يشطح بخياله في دلالات قاموس التراث، فيتبع العنوان الأصلي بعنوان فرعي وهو: (بحوث ومقالات في التراث والتعريف به ومناقشة قضاياه)، ومن خلال الفهرسة نعرف أن عددها يبلغ 15 بحثا، في أغلبها الأعم بحوث شارك بها في ندوات ومؤتمرات داخل وخارج السلطنة خلال الفترة من 2010 - 2016م، والبقية الأخرى مقالات أقرب إلى الدراسات المختصرة والمكثفة.

ورغم أن السعدي وثق زمان كتابة بحوثه ومكان تقديمها، إلا أن من يقرأ مقدمة الكتاب، يفهم منه أنه كتاب تأليفي وليس محاضرات تجميعية، حيث يقول في مقدمة كتابه: (إنني في هذا الكتاب أسعى من خلال قراءاتي المتكررة في المخطوطات إلى رصد نوادرها المخبوءة، والكشف عن كنوزها المغيبة، ومعالجة مواطن اللبس والإشكال فيها، والتعريف بقضاياها وهمومها)، وهذا صحيح جملة وتفصيلا، ولكن لم أجد إشارة إلى فضل الندوات والمؤتمرات عليه، كونها المحفز الأول لكتابة مثل هذه البحوث المهمة، خاصة وأن تسعة منها جاءت ولادتها بسبب هذه المشاركات. هذه مجرد إشارة ووجهة نظر، قد لا يشاطرني الباحث فيها الرأي، مكتفيا بتذييل بحوثه بإشارة عند رأس كل عنوان، متبوعة بتوضيح في أسفل الصفحة، يتناول فيه أصل البحث ومشاركته في أي من الندوات والمؤتمرات.

وإذن فهذا هو الجزء الأول من سلسلة (قاموس التراث) لفهد السعدي، والأمل أن يتبعه بأجزاء أخرى، تضم ما سيشارك به من بحوث ومقالات في هذا المجال، يقدم لنا الكتاب باحثا دقيقا في مجال المخطوط، قراءة وتحليلا وتوثيقا، وهو مجال تفتقر إليه الساحة الثقافية العمانية، يتشارك معه في هذا المجال: الباحث سلطان بن مبارك الشيباني، ومعهما أيضا: الباحث محمد بن عامر العيسري، ثلاثية بحثية في مظان المخطوطات العمانية، استطاعت أن تقدم جملة من البحوث والدراسات، ومجموعة أخرى من الكتب المخطوطة، عملوا على تحقيقها ودراستها وتقديمها للقارئ في طباعة حديثة أنيقة، انتصارا لها بسبب التغييب الذي لحقها خلال القرون الماضية، وتصحيحا لأخطاء التحقيقات السابقة لها، هؤلاء الثلاثة حاولوا جهدهم ومعهم من المساندين بلا شك، سد ثغرة أشبه بهوة كبيرة، لأن مجال التراث المخطوط واسع جدا، ويتسع أكثر وأكثر بالحصول على أعداد جديدة منها، كنا سابقا نظن أنها لا تزيد عن أربعة آلاف، فيما يؤكد السعدي في مقدمة كتابه هذا: إن عدد المخطوطات في عمان لا يقل عن ستين ألف مخطوط!، ولذلك فالهوة تتسع بين العدد الكبير من هذا النتاج العلمي الضخم، للمؤلفين العمانيين خلال القرون الماضية، وبين الدراسات اليسيرة التي تقدم عنها وما نشر منها.

لذلك تأتي البحوث والدراسات في هذا الجانب مهمة جدا، تنفض الغبار عنها وتسلط الضوء على مناطقها معتمة، وهذا ما لمسته وتعرَّفت عليه أثناء قراءتي لكتاب قاموس السعدي الجديد، فقد وجدتني أتابع بحوثه ودراساته بالكامل، ولم أكد أنتهي من قراءة أحد البحوث حتى يشدني البحث القادم، لأكتشف وكأني أسير خلف رجل يحمل مصباحا ينير لي المسار، ويجيب عن بعض الأسئلة التي كانت تعتورني أثناء قراءتي لكتب التراث، ويقدم لي حولها معرفة، فهو كتاب يجمع حصادا ثقافيا لسنوات من المعايشة مع المخطوطات.

ولعل الباحث فهد السعدي في عنونته للكتاب بقاموس التراث، أراد أن يستفيد من اشتغاله السابق بتأليف القواميس والمعاجم، وله في هذا الجانب كتاب (معجم الفقهاء والمتكلمين الاباضية - قسم المشرق: من القرن الاول الهجري إلى بداية القرن الخامس عشر الهجري)، و(معجم شعراء الإباضية - من القرن الأول الهجري إلى بداية القرن الخامس عشر الهجري: قسم المشرق)، لذلك جاءت تسميته لكتابه هذا بقاموس التراث، امتدادا لتجربته السابقة بصورة محاضرات ودراسات وليست عملا ببليوجرافيا.

لم يتبع الباحث في فهرسة بحوثه ودراساته ترتيبا زمنيا، وكان يمكن له ذلك، خاصة وأن 9 من أصل 15 موثقة التاريخ، بدأ الكتاب ببحث (المخطوط العماني .. تأريخه وموضوعاته وأشكاله)، لخص فيه حديثه عن المخطوط من حيث تاريخه وموضوعاته وأشكاله، وبلا شك فإن البحث حول المخطوط لا يسده ويجزيه بحث لا يزيد عن 10 ورقات، ولكنه يقدم صورة بانورامية عنه، إذا أدركنا من خلال التذييل أن الباحث قدمه لندوة (الاحتفاء بيوم المخطوط العربي)، المنعقدة في مسقط بتاريخ 4 ابريل 2016م، ويجزي أيضا إذا علمنا أن الباحث سلطان بن مبارك الشيباني له في مجال المخطوط العماني دراسات بحثية تحليلية عميقة، أبرزها كتاب (مفتاح الباحث إلى ذخائر التراث الفكري العماني) صدر عن مركز ذاكرة عمان.

ومع عدم اتباع السعدي الترتيب الزمني، إلا أنني شعرت وكأنني أقرأ رواية تحولت فيها البحوث إلى فصول متسلسلة، بفضل التناغم ما بينها، وما تمتاز به من إشباع معرفي، تخلو من الإنشاء والحشو، مختتما دراساته وبحوثه بورقات مصورة من أصل المخطوطات التي درسها، ممازجا ما بين الكلمة والصورة في آخر البحث.

التوثيق، وتحري الدقة، والتحليل، هي أبرز ما تتسم به بحوث السعدي في هذا الكتاب، وعسى في تجاربه البحثية القادمة أن يطور هذه البحوث المختصرة، ليصبح كل واحد منها كتابا مستقلا، مثال على ذلك: بحثه الذي تصدر بها الكتاب بعنوان (المخطوط العماني .. تأريخه وموضوعاته وأشكاله)، يمكن أن يصبح كتابا، يتعاضد مع كتاب الشيباني (مفتاح الباحث)، وكذلك بحثه حول (التراث المخطوط لأبي نبهان الخروصي) يمكن أن يصبح مرجعا في دراسة كتب أبي نبهان، وبحثه حول (السير العمانية) يمكن أن تكون مفتاحا آخر لهذا الفن، ودراسته عن الشيخ أبو سعيد عمرو بن علي الرستاقي الوبلي المعقدي (ق6هـ)، من بلدة وبل بالرستاق، فهذه الشخصية الفكرية مجهولة للقارئ، ولكنه استطاع أن يبحث عنها ويقدم فيها بحثا، يمكن أن يتطور بعد ذلك ليصبح كتابا، وكذلك قراءته لديوان الشاعر والناثر البليغ الفقيه خلف بن سنان الغافري، وبحثه حول (المنظومات العمانية)، وللباحث في هذا المجال خبرة في تحقيق ونشر بعضها، صدرت عن مركز ذاكرة عمان، كل منظومة في طبعة مستقلة، لتخرج في كتيب صغير، رغم أنها لو جمعت في كتاب واحد لكان أفضل، بحيث يمكن أن تتآلف معا لتشكل كتابا مستقلا، تتلاقى فيه أفكار المؤلفين على تشتتهم في متاهات الزمن.

من المفاجآت التي سرتني في هذا الكتاب هو بحث السعدي عن التراث المخطوط لأبي نبهان الخروصي (ت: 1237هـ/‏‏ 1822م)، الملقب بالشيخ الرئيس، فرغم شأنه العلمي والثقافي الرفيع إلا أن القارئ لا يجد له منشورا من كتبه إلا النزر اليسير، آخر ما صدر عنه هو ديوانه (نفائس العقيان ديوان أبي نبهان)، صدر هذا العام بطبعتين مختلفتين وتحقيقين مختلفين، أحدهما صدر عن مركز ذاكرة عمان بتحقيق الشاعر ابراهيم سعيد، والآخر عن مكتبة خزائن الآثار بتحقيق الشيخ مهنا بن خلفان الخروصي ومنير بن ناصر الحضرمي، المفاجأة السارة أن للشيخ الرئيس موسوعة بعنوان (موسوعة أبي نبهان في أصول الشريعة وفروعها)، تضم ستة أجزاء، وله إسهام في مجال العلوم الروحانية من خلال كتابته للأوفاق وحرز الشجرة وغيرها.

ومن المفاجآت السارة عثور الباحث على ديوان الشيخ خلف بن سنان الغافري (حي: 1715م)، هذا الأديب اللغوي عاصر أكثر سنوات فترة اليعاربة، أنا لم أكن أعرف عنه سوى أنه عاش في قرية (المعيمير) بنزوى، وفيها بقايا أسس لأثر طيني يقال: إنه بيت للشيخ خلف، ويطلق عليه الأهالي (قصر الشيخ خلف بن سنان)، ثم حين صدر كتاب (إيقاظ الوسنان في شعر وترجمة الشيخ خلف بن سنان) للباحث سيف بن حمود البطاشي (ت: 1420هـ/‏‏ 1999م) اتضحت لي الصورة أكثر عن هذا الفقيه، ومن خلاله عرفت أن للشيخ خلف مكتبة يصل عدد الكتب فيها إلى 9370 كتابا، وهذا ليس تخريصا بل تصريحا من الشاعر نفسه في قصيدة نظمها في مكتبته.

وحين نتصور أن مكتبة خاصة يقترب عدد الكتب فيها إلى عشرة آلاف، فإننا ندرك أن بضياع هذه الخزائن لأسباب كثيرة، قد خسرنا ثروة علمية كبيرة، كان يمكن أن نعثر بينها على مؤلفات ومصنفات وكتب في مختلف فنون المعرفة، لم تعد اليوم لأننا لا نعرف عنها شيئا، رغم أن الشيخ خلف كان حيا إلى سنة 1715م كما أوضح السعدي في عرض ترجمته، أي ما يقرب من ثلاثة قرون فقط، فيما تم العثور على مخطوطات تعود أصولها الخطية إلى القرن العاشر الهجري وأقدمها يعود إلى القرن السادس الهجري، فيما مكتبة الشيخ خلف بن سنان ضاعت ولم يعد له أثر. إلا إن كانت أدراج دار المخطوطات في وزارة التراث والثقافة تضم بعضا منها، أو تفرقت في المكتبات الخاصة بالباحثين.

وفي ختام هذا العرض أشير إلى أن الأناقة الإخراجية التي تتسم بها مطبوعات مركز (ذاكرة عمان) تجعل من القارئ يشعر بالفخر والامتنان، الفخر بوجود مركز ثقافي عماني يُعنى بنشر المخطوطات العمانية، والامتنان للأسماء المثقفة والباحثة القائمة عليه، فهذا المركز يحتفي بالتراث الثقافي تحقيقا ودراسة وإخراجا، ليشعر القارئ أنه يمتلك تحفا أدبية ثمينة، تستحق أن تكون في صدارة المكتبات العمانية والعربية، ومن بنيها كتاب قاموس التراث لفهد السعدي، والذي هو بمثابة مفتاح جديد من المفاتيح الذكية والخاصة لخزائن العلم العمانية.