إشراقات

دعوة إلى الاعتبار والتبصر

17 أغسطس 2017
17 أغسطس 2017

فوزي بن يونس بن حديد -

[email protected] -

الإسلام دين يبحث في مشاكل الناس التي تعاصرهم ويقضي على كل فساد مادي ومعنوي ويعلم أن الإنسان ضعيف تميل به الأهواء إلى اليمين أو الشمال وكلما مالت به الريح تذكر أن الله يراقبه فيتوب، ويعلم أن النداء موجه إليه فيؤوب، لذلك كانت الخطابات التي تنادي المؤمنين تركز على الاعتبار والتبصر في الدين.

ركّز الإسلام على المعاملات باعتبارها أداة التواصل بين الناس وعنوان الاتصال بينهم حتى تتواصل الحياة وتستمر على النحو المطلوب، ولولا هذه المنظومة التعاملية ما كان إنسان يستطيع أن يتواصل مع إنسان آخر أبدا، لأن النزاع والخصام والشقاق سيبقى هو العنوان ولذلك كان الرسول- صلى الله عليه وسلم- حريصا على بث روح التعاون والإخاء بين الفرقاء حتى لا تتسرب في نفوسهم روح العداء، فأول ما قام به في بداية دعوته- عليه الصلاة والسلام- أن آخى بين الأوس والخزرج القبيلتين المتناحرتين قبل الإسلام، ثم عندما هاجر إلى المدينة المنورة عمل على التقريب بين المهاجرين والأنصار في المواقف والرؤى والمعاملات وبيّن لهم أن حسن المعاملة هي نتيجة للتعبئة الروحية التي يسعى المسلم إلى أن يحصل عليها من خلال منظومتي العبادات والأخلاق.

ولقد بيّن الرسول الكريم- صلى الله عليه وسلم- أن الدين الإسلامي يرتكز في الأساس على التقرب إلى الله تعالى بكل صنوف العبادات بإخلاص وإتقان حتى إذا تشبعت روحه قفزت إلى مصاف الملائكة في صورة إنسان، تتزين نفسه بالأخلاق الفاضلة التي دعا إليها القرآن الكريم والنبي العظيم، وهذا ما يفسر قوله صلى الله عليه وسلم «أقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحسنكم أخلاقا»، وبعدها يتبين حسن معاملته للناس الآخرين، فمن أحسن معاملة الله تعالى أحسن معاملة الناس، ومن يتحايل على الله تبارك وتعالى يسهل عليه التحايل على الناس من خلال وسائل يبتكرها، وطرق ملتوية يسلكها، مستعينا في ذلك بالكذب والغش والتدليس والتزوير والرشوة وشهادة الزور وغيرها من الأمور المحرمة التي توصله حسب رأيه إلى مبتغاه بأسرع وقت ويكسب ويربح في أقصر زمن، هذا التعامل نبذه المولى- عز وجل- وعدّه من أرذل الأعمال وأقبح الأفعال، بل إن المؤمن الذي يسلك هذا الطريق ويعلم علم اليقين أنه يغشّ الناس ويعتدي على حرّياتهم وأعراضهم وأفكارهم هو في الطريق الخطأ وعليه أن يتوب ويؤوب ويرجع إلى الله ويراجع نفسه ويرى نفسه من خلال آيات الله العظيمة.

ولعلنا نتذكر ما قاله سيدنا محمد- صلى الله عليه وسلم- عندما صدع بما أمر «َأيْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا» هذا الحديث جاء في سياق الشفاعة التي قام بها سيدنا أسامة بن زيد- رضي الله عنه- في حق المرأة المخزومية التي سرقت، لا سيما وأن المرأة من بني مخزوم وهم القوم الذين لهم صيت كبير في المجتمع القرشي ولهم مكانة عظيمة في البيت النبوي، غير أن النبي- صلى الله عليه وسلم- وقف وقفة صارمة في وجه أسامة رغم أن النبي- عليه الصلاة والسلام- كان يحب كثيرا هذا الرجل حتى سمي بحبّ الرسول- صلى الله عليه وسلم- وقال قولته المشهورة التي صدحت بالحق وقضت على كل شك أن يكون النبي- عليه الصلاة والسلام- يشفع لمن يتساهل مع حدود الله تعالى أو في أي مسألة من مسائل التعامل بين الناس، بل كان يقف بكل شهامة وقوة في وجه كل من يغش أو يتحايل أو يكذب بكل جرأة ولا يجامل أحدا في الحق ولا يعتدي ولا يضر أحدا بل كان يقرّب الناس إليه ويدعوهم بالحسنى كما أمره القرآن الكريم.

وعليه يتبين أن الإسلام دين واقعي، ولكن الناس هم من يحاولون أن يبحثوا عن طرق تبعدهم عن المنهج السوي والطريق القويم وتدخلهم في حسابات معقدة مع تطور الحياة نحو الأسوأ على المستوى الأخلاقي نظرا لتساهل أولياء الأمور في تربية أبنائهم على النهج النبوي وانشغالهم بأنفسهم ولهثهم وراء المادة والمال وحسبوا أنهم يحسنون صنعا، نعم تغيرت الحياة كثيرا ولكن نحن من نصنعها ونحن من يديرها ونحن من يغيرها إما للأصلح أو للأسوأ، ولا نلقي باللوم على الآخرين رغم أنها الحقيقة المرة، الآخرين الذين يتربصون من كل جانب بمخططات ومؤامرات للقضاء على كل خلق حسن وعلى كل قيمة ومبدأ ويغرسون في الأجيال المُتع واللهو والصخب ويميّعون الشاب بإكسابه الأخلاق المشينة والتعبير عنها بالرجولة وتسخير وسائل الإعلام بأنواعها المختلفة في سبيل إقناع الشباب أنهم قادرون على التغيير وأنهم لا مفر لهم من الوقوع في الزلل، وبيان أنه من لا يقع في الشبهات لا يستطيع العيش بسلام.

لقد استطاع الآخرون إفساد الإدارات عبر إدخال موجات من الأفكار السيئة والمشبوهة التي أصبحت قانونا عند كثير من الموظفين، واستحسنها كثير من الذين يقضون حوائج الناس لأنها تدر عليهم دخلا وفيرا إلى جانب راتبهم الشهري وهم جالسون على كراسيهم ولا يدرون أنهم بهذه التصرفات يأكلون السحت الذي قال عنه المولى سبحانه وتعالى «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ» والسحت هو المال الحرام الذي يجنيه الإنسان عن طريق الكذب والخيانة والغش والتحايل والرشوة وغيرها من الطريق التي حرمها الإسلام صراحة وحاربها بشدة لأنها تنخر المجتمع وتذيبه وتقضي على كل جميل وسمي بذلك لأنه يسحت الحسنات ويذهبها ويستأصلها وعلى هذا فيكون الفرق بين السحت والحلال والمتشابه هو الفرق نفسه بين الحرام البين والحلال البين والمتشابهات.

بل إن الإسلام حارب كل من يعتقد في نفسه أنه قادر على القفز على الحواجز من خلال معرفة بعض الكوادر التي تعمل في هذه الجهة أو تلك فيقضي حاجته في سرعة كبيرة أو يوظّف شخصا بمعرفة لا بكفاءة فهو يعرض نفسه للمساءلة يوم القيامة لماذا؟ لأنه خرق القانون الإلهي الذي يعدل بين الناس جميعا وجعل العدل أساس الحياة وأن التوظيف يقوم على الكفاءة وحسن العمل لا على من خلال هذا الكادر أو ذاك، ولأن بناء المجتمع يصير هشا لأنه يقوم بتوظيف ناقصي الخبرة الذين يضيعون الأعمال ويسرفون الأوقات ويخلطون الأوراق.

كما حارب الواسطة وما يدور حولها من إشاعات سواء بأجر أو بدون أجر لأنها خلق ذميم تجعل الشباب في حيرة من أمرهم وتصنع البغضاء والشحناء وتشحن الباحثين عن عمل للمطالبة بحقوقهم المشروعة وهو التوظيف وتوفير العمل الحلال حتى يعيش في كنف الأسرة المستقرة ويوفر لنفسه وعائلته قُوتَه وقُوتَهم وحتى لا تتسلل إلى نفسه شكوك الخيبة والخسارة والوبال بعد أن أمضوا سنين عديدة في مقاعد الدراسة وأفنوا حياتهم من أجل مستقبل زاهر وقد يفرح بتخرجه لكنه يصطدم بعدها بواقعه الذي لا يهتم به ويزجّه في مستنقع مشكلة البحث عن عمل ولا يستطيع الخروج من وحله لأن الغطاء سميك جدا ولا يحاول أن يتدرج نحو الأعلى لأنه محكوم بالفشل وقد يضيع ويتيه في حبال الفساد الأخلاقي والاجتماعي بكل أنواعه، لا لشيء إلا لأنه يملك القدرات والموهبة ولا يستطيع بلورتها واقعا ويرى أمامه من كانت قدراته ضعيفة أو متوسطة يعتلي منابر المناصب ويفتخر بذلك أمامه. خلاصة القول إن الإسلام دين يبحث في مشاكل الناس التي تعاصرهم ويقضي على كل فساد مادي ومعنوي ويعلم أن الإنسان ضعيف تميل به الأهواء إلى اليمين أو الشمال وكلما مالت به الريح تذكر أن الله يراقبه فيتوب، ويعلم أن النداء موجه إليه فيؤوب، لذلك كانت الخطابات التي تنادي المؤمنين تركز على الاعتبار والتبصر في الدين وتبين مدى خطورة ما يقوم به الإنسان وهو في طور العنفوان الشبابي والفتوة القاهرة فيحسب الإنسان أنه يحسن صنعا ولكنه في الحقيقة يقع في مطب كبير وخطر عظيم ليس من السهل الخروج منه. وفي حين ابتدع الناس هذه الطريق التي تزين لهم الحرام وربما لا يعلمون ضرره إلا بعد حين يأتي الدين الحنيف ليقول لهم إن الوقاية خير من العلاج وإن من يريد النجاة عليه أن يسلك طريق رسول- الله صلى الله عليه وسلم- وعليه أن يجزم في اعتقاده أن لا شفاعة مع معصية مهما كان قربه من رسول الله، عليه أن يعقد العزم ويشد المئزر ويتقي الله في معاملاته وعلاقاته مع الناس.